وجهة نظر

اندحار البيجيدي.. محاولة للفهم !

لعل الحدث الأبرز الذي شغل الرأي العام الوطني المغربي، والمتابع العربي، وحتى الدولي، بحر هذا الأسبوع، بعد حدث استحقاقات 8 شتنبر، هو السقوط المدوي، والمثير، وغير المسبوق في تاريخ الانتخابات المغربية، لحزب العدالة والتنمية “الإسلامي”، الذي سيَّر الشأن العام الوطني لعقد من الزمن، وظل الحزب الأغلبي في حكومتين متتاليتين. وظل الحزب الذي يحسب له ألف حساب، من قبل خصومه الطبيعيين، والجذريين على السواء؛ لقاعدته الشعبية المترامية، ولاستعصائه على كل محاولات الإسقاط في اليد، وصرف الأنظار، ولي الذراع. والتي أثبتت فشلها الذريع قبيل انتخابات 2016، مع التحرشات التي سبقت هذه الاستحقاقات، والبلوكاج الذي واكب تشكيل الحكومة الحالية، والذي انتهى بإعفاء زعيم الحزب.

ورطة الجشع.. !

لقد أثبت هذا الحزب، منذ ولايته الأولى، كما أشرنا إلى ذلك في عدة مقالات سابقة، أنه حزب عادٍ كسائر الأحزاب، لا ميزة تَفْرِقه عما سواه، وتُتِيحُه قدرة على الانفراد بالحكم، والتدبير الحر البعيد عن الإملاء؛ اللهم مرجعيته الإسلامية، وهجوماته المستمرة ضد التحكم، التي ظل متشبثا بها في كل خرجاته الصراعية، ومنافحاته البرنامجاتية، خصوصا مع أمينه العام السابق السيد بنكيران. مما أوهم المغاربة أنهم أمام حزب مختلف قد يحقق ما عجز عنه سواه من الأحزاب اليسارية واليمينية والوسطية التي دبرت الشأن العمومي والحكمي بالمغرب منذ الاستقلال، بنفس الأليات والمدخلات والمخرجات، دون جديد؛ ليكتشفوا، بعد عقد من التدبير، أنهم كانوا ضحية أوهام وأحلام. وأن هذا الحزب ليس سوى منديل ورقي استعملته الدولة العميقة قي فترة دقيقة من تاريخ المغرب، تميزت بغضب شعبي عارم حينما هب المغاربة عن بكرة أبيهم يطالبون بالتغيير، ويثورون ضد الأوضاع. فكان الحل السحري هو الدفع بهذا المكون السياسي البِكر والمشاكس، ذي الخلفية الإسلامية، إلى الواجهة، لإعطاء الانطباع بأن تغييرا جذريا سيعرفه المغرب، مع هذه الطينة من الحكام الجدد الذين لا يعرفون إلا “المعقول”؛ ثم التخلص منهم بعد ذلك بنعومة ولطف !!.. وهكذا انطلق مسلسل الاستنزاف الشعبي لهذا الحزب، خلال عشر سنوات متتاليات من الحكم، حتى بلغ الصفر، وسقط من عَلُ.. !.

لقد استُغِلَّ جشع السيد بنكيران، ولهفه للحكم، ليلتقم الطعم، ويقبل بلعب دور الإطفائي، ويلج دفة التسيير، ويُمَكَّن من رئاسة الحكومة، ويخوض بالمغاربة خمس سنوات من التخدير، وبيع الأوهام، وسرقة الآمال، قبل أن تليها خمس سنوات أخرى شداد مع رئيس حكومة ضعيف الشخصية، كان دوره الأول والأخير تمرير أجحف، وأخطر القرارات اللاشعبية في حق المغاربة، بتوجيه من خلف الستار. حتى أوصل المغرب الشعبي إلى حضيض المعاناة، وشظف العيش. مما ملأ عليه، وعلى حزبه، صدور المغاربة غيظا. خصوصا الشباب منهم ممن لم يعقِلوا، لَمَّا عقَلوا، حكومة غير هذه الحكومة التي يقودها حزب “إسلامي”. فكان الرد، حينما تسنى لهم الرد، تصويتا عقابيا، انتقاميا، أسقط هذا الصرح من القمة إلى الحضيض.

وهكذا دخل عبر صناديق الاقتراع قويا، مزمجرا، وخرج منها ضعيفا، هملا، لا يقوى على شيء. دبرت الدولة مساره بذكاء ونعومة مثلت استثناء جديدا في التعامل مع الفاعل الإسلامي داخل الرقعة العربية والإسلامية.

ورغم أن هذا الاعتبار الموضوعي ليس هو الوحيد الذي عجل بسقوط هذا المارد من قمقمه، لوجود اعتبارات موضوعية وأخرى ذاتية كثيرة ساهمت في هذا الاندحار غير المسبوق، لكنه يبقى الاعتبار الأهم والأوضح.

مشجب المرجعية..

ومن ذلك، كذلك، أن الخطأ الأكبر الذي ارتكبه حزب العدالة والتنمية وانتهى به إلى هذا المصير المؤسف، هو ثقته الزائدة في مشروعه المذهبي، وتوهمه أن رفعه لشعار المرجعية الإسلامية بين أوساط المغاربة المسلمين كاف أن يسلمه شيكا على بياض، ويمكنه من حكم المغاربة، ويسلس له قيادهم، وينال ثقتهم. فقد كان يعتقد، خصوصا بعد الاكتساح غير المسبوق الذي سجله خلال ولايتين سابقتين، أن المغاربة يصوتون عليه لنزاهته، ولتدينه، والتزامه، وليس لشيء آخر. وأنه مهما شدد عليهم في أرزاقهم، وعيشهم، سيجد منهم صبرا وقبولا. لذلك ظل بنكيران يُذَكِّر المغاربة ، خلال كل خرجة يسجلها، بخلق الصبر، والإيثار، والتضحية،… ويضرب لذلك أمثلة من تاريخ المسلمين الأول، علَّه ينال رضاهم على قراراته القاسية التي فرضتها الضرورة التي دونها سقوط الدولة وذهاب ريحها؛ حسب زعمه !.

لقد كانت ثقة الحزب في قاعدته الانتخابية كبيرة، حتى ما عاد يجتهد لإقناع المغاربة بمشروعه الحزبي، ولا ببرنامجه الانتخابي. فنام طيلة الخمس السنوات الأخيرة، وهو واثق من نفسه، ومن جمهوره العريض الذي سيسلس له قياد الولاية الثالثة بسهولة ويسر. حتى استسهل بعض خرجاته الباصمة التي أثارت الكثير من ردود الفعل الغاضبة داخل عرينه الحزبي، وفي أوساط النخبة، وحتى عند عامة الشعب المغربي. من قبيل التطبيع، وتقنين الكيف، وتحرير أسعار البترول، والتقاعد، والمقاصة،…فضلا عن الزيادة في الأسعار، وتجميد الأجور. فكانت بداية انفضاض الناس من حوله، وفقد الثقة فيه.

فما كان يظن، للحظة، وهو المستند إلى المرجعية الإسلامية، أن المغاربة المسلمين سيعاقبونه على شروده عن انتظاراتهم التنموية وهو الذي رفع شعار التنمية، وجعله أحد أضلاع مشروعه المجتمعي، دون أن يلتزم بتصريفه برامجَ تلمسها الطبقتان المتوسطة والكادحة في معيشهما اليومي.

لماذا العدالة والتنمية دون سواه؟ !

لكن، قد يقول قائل: لماذا تُحَمِّلون حزب العدالة والتنمية كل هذه الجرائم في حين أنه لم يكن سوى مدبر ضمن مدبرين آخرين داخل الائتلاف الحكومي؟ ألم يكن الأحرار، الذي تصدر الانتخابات الحالية، أحد أضلاع الحكومة السابقة؟ أليست له مسؤولية فيما وقع؟ فلماذا لم يُحَمِّله الشعب مسؤولية هذا التدبير؟.
والجواب: هذا صحيح. ولكن المغاربة لا يعرفون إلا مسؤولا واحدا عن هذه الحكومة. وهو السيد سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة، الذي خوله دستور 2011 صلاحيات واسعة وغير مسبوقة.

فحتى لو كان للأحزاب الحليفة مطبات في حق الشعب، فقد مرت بتأشير من هذا الرئيس الذي يمثل في نفس الوقت الأمين العام لحزب العدالة والتنمية. فالأمر، أولا وأخيرا، يعود إلى هذا الرئيس. وحتى لو كانت هناك إملاءات تتجاوزه، وتُفرَض عليه من خلف الستار، فهذا لا يعفيه من المسؤولية. لأن عامة المغاربة الذين عاقبوه اليوم، من خلال حزبه، لا يفهمون كثيرا في هذه التفاصيل السِّردابية التي لا يطلع عليها إلا من يهمهم الأمر. ومادام السيد العثماني قد سكت عنها، ورضي بها، واجتهد في تنفيذها، ولم يستطع أن يتبرم منها، أو يكشف عنها، سواء صدرت من الدولة العميقة أو من الأحزاب الحليفة، أو سواهما، فمسؤوليته ثابتة ومؤكدة، وتجرعه هذه المرارة مستصاغ ومقبول. كما أن عقاب الشعب له ولحزبه، مبرر ومفهوم.

ختاما..

هذه مجرد وجهة نظر عابرة لقارئ متابع من خارج الصف الحزبي والتنظيمي الإسلامي، ظل يكتب عن تجربة هذا الحزب لمدة عشر سنوات .. وجهة نظر قد يرى فيها إسلاميو هذا الحزب تعسفا في فهم عمق ما وقع للحزب الإسلامي، وقصورا عن القراءة السليمة والعميقة لما حدث. وربما اتُّهِم صاحبها بأنه قد نقل عن خصوم هذا الحزب استنتاجاتهم غير البريئة. ولكن الذي يجب أن يعلمه الجميع، أن ما ذكرناه، هاهنا، من أسباب قد تكون ثاوية خلف هذا الاندحار، هو ما يمكن لأي متتبع أن يراها رأي العين، ويفصح عنها إفصاحا، لأنها ظاهرة ومتاحة للجميع. أما سوى ذلك مما لا دليل لنا عليه مما قد يروجه أنصار الحزب من قبيل أن الدولة قد زورت على الحزب، وسمحت بالمال لهزيمته، وضيقت عليه خلال الحملة وقبلها، ووو.. فلا نستطيع أن نؤكده أو ننفيه. ولا يمكن أن يفيدنا في فهم ما وقع بالضبط. فاستعمال المال كان دائما في الحملات الانتخابية. وحتى لوثبت كل هذا في هذه الحملة الانتخابية، بالإضافة إلى ما سبق العملية الانتخابية من إعداد اللوائح الانتخابية، وما رافق ذلك من عمليات تشطيب طالت بعض الأسماء، فضلا عن القاسم الانتخابي الجديد(*)، الذي أثار الكثير من النقاش والجدل، مما قد يؤشر على نية الدولة في تقزيم الحضور السياسي لهذا الحزب،… فلن يفسر بالمطلق هذه السقطة التي سقطها الحزب. لأن هذه الممارسات، بكل بساطة، قد تتسبب في تراجع الحزب ببضعة مقاعد، لكن أن يصل عدد المقاعد المفقودة إلى 112 مقعدا، فهذا ليس له تفسير إلا تفسير واحد، وهو أن ثمة إجماعا شعبيا رافضا زاد عليه خذلان داخلي تولى كِبْره أعضاء من الحزب نفسه، كانا خلف هذه السقطة المجلجلة، والضربة القاضية التي فاجأت أشد المتشائمين من الأنصار، وأكثر المتربصين من الخصوم.

ثم لا أدل على أن اتهامات بعض قياديي الحزب للمال والسلطة والتضييق في التسبب في هذا الاندحار لا أساس له من الصحة والواقع، أن غالبية الشعب المغربي اعتبرها نتيجة عادية، بل منهم من استكثر على الحزب 13 مقعدا التي حصل عليها. وأكثر من هذا أننا لم نسمع بأي مسيرة منددة، أو متضامنة، حتى من أعضاء الحزب أو المتعاطفين معه. في حين خرجت مسيرات شعبية تندد بفقدان الاستقلالي بوعيدة مقعده البرلماني.. فتأمل !!!
دمتم على وطن.. !
————
(*) حتى القاسم الانتخابي الجديد الذي توجس منه الحزب، وعارضه بشدة، واعتبره موجَّها ضده، قد كان في صالحه. إذ لولاه لما حصل على أي مقعد، ولفاز الأحرار، في كل الدوائر، بالمقعدين والثلاثة… !.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *