وجهة نظر

الحكومة 31.. الانتظارات وعسر الولادة

يبدو أن حسم معركة إرساء الديموقراطية ببلادنا؛ لايزال بعيد المنال؛ على الرغم من انتهاء ما يشبه جولتها الأولى؛ بإجراء الانتخابات التشريعية في اليوم السابع من أكتوبر المنصرم…

ونقصد بعملية الحسم؛ تلك القدرة الكبيرة؛ والكفاءة العالية؛ للانتقال من مقتضيات لحظة التمرين الانتخابي؛ إلى السعي الحثيث نحو جَنْيِ ثمار الديموقراطية على مستوى الارتقاء بمعيشة المواطنين والمواطنات؛ والرفع من نسبة النمو؛ ومواجهة التحديات الاقتصادية؛ والإكراهات المحدقة بالبلاد والعباد…بما يلبِّي المطالب الكثيرة والملحة؛ ويستجيب للتطلعات البعيدة والمشروعة…

ولعل من أكبر أسباب تقرير هذه الحقيقة؛ ما سجل من تعثر وتباطؤ غير مفهومين؛ في تشكيل الحكومة رقم 31 في تاريخ المغرب؛ وتعدد التصريحات؛ والتصريحات المضادة؛ من لدن زعماء الأحزاب السياسية المغربية؛ وقد كان الخطاب الملكي الذي وجهه جلالة الملك إلى الأمة؛ يوم السادس نونبر 2016 من العاصمة السينغالية دكار؛ بمناسبة الذكرى 41 للمسيرة الخضراء؛ واضحا وقويا في الإشارة إلى هذا التوصيف؛ حيث نبه على أن :

“المغرب يحتاج لحكومة جادة ومسؤولة. غير أن الحكومة المقبلة، لا ينبغي أن تكون مسألة حسابية، تتعلق بإرضاء رغبات أحزاب سياسية، وتكوين أغلبية عددية، وكأن الأمر يتعلق بتقسيم غنيمة انتخابية.” (الخطاب الملكي)

لقد حصل تجاذب قوي بين الأحزاب السياسية المغربية ما بعد إعلان نتائج الانتخابات التشريعية؛ لاسيما بعد تكليف جلالة الملك لعبد الاله بن كيران بتأليف الحكومة الجديدة…وتصريح هذا الأخير؛ بكون حزب الاستقلال وحزب التقدم والاشتراكية؛ من مكونات الحكومة الجديدة؛ في انتظار حسم حزب الاتحاد الاشتراكي موقفه.

لقد فهمت أحزاب التجمع الوطني للأحرار؛ والاتحاد الدستوري؛ والحركة الشعبية؛ أن ذلك التصريح؛ الصادر عن رئيس الحكومة المكلف؛ بمثابة استقواء (تسخين الكتفين) من جانب زعيم حزب العدالة والتنمية؛ بأحزاب الكتلة التاريخية أو الديموقراطية ضدها؛ مما دفعها للتلويح بالتكتل هي أيضا؛ في إطار أحزاب الوفاق؛ إضافة لحزب التجمع الوطني للأحرار؛ ولعل ما عقد سير المفاوضات؛ تسريب؛ بعض ما راج بين بنكيران ورئيس حزب التجمع الوطني للأحرار المنتخب في مؤتمره الأخير (بعد استقالة رئيسه السابق)؛ لاسيما مطلب زعيم الأحرار؛ باستبعاد حزب الاستقلال من التشكيلة الحكومية المقبلة؛ وإصرار حزبه على ضم الاتحاد الدستوري للحكومة؛ باعتباره أصبح حليفا لحزب التجمع؛ بعدما قرر الحزبان تأليف فريق نيابي واحد في مجلس النواب .

وقد واجه عبد الإله بن كيران؛ موقفا مماثلا من الحركة الشعبية؛ التي اشترطت عليه الالتحاق بالحكومة الجديدة صحبة حزب التجمع الوطني للأحرار.

أما الاتحاد الاشتراكي؛ فلم يؤكد لعبد الإله بن كيران دخوله الحكومة؛ عكس حزب الاستقلال الذي حسمت أجهزته التقريرية أمر المشاركة…

في ظل هذه الوضعية المتأزمة التي وصفها بعضهم ب “البلوكاج “؛ تناقلت وسائل الإعلام، تذمر مسؤولين وزعماء حزبيين؛ بسبب ممارسة ما سموه بالابتزاز السياسي بين رئيس الحكومة المكلف، وزعماء الأحزاب السياسية؛ التي جرى التفاوض معها…ففي حين تداول نشطاء المحيط الأزرق؛ أخبارا مفادها؛ اتهام أعضاء من العدالة والتنمية؛ الحركة الشعبية والاتحاد الدستوري والتجمع الوطني للأحرار خاصة ؛ بممارسة ابتزاز في وجه رئيس الحكومة؛ الذي تصدر حزبه نتائج الانتخابات التشريعية لليوم السابع من أكتوبر؛ وذلك من خلال رهن كل طرف؛ دخوله للحكومة؛ بوجود الطرف الآخر المتحالف معه.

لقد رمت الأحزاب السياسية المتهمة؛ الكرة في مرمى الحزب المتصدر للانتخابات الأخيرة؛ ووجهت له التهمة ذاتها؛ معتبرة أن تمسكه بحزبي الاستقلال والتقدم والاشتراكية في عرضه للأحزاب التي دعاها للتحالف؛ بمثابة ابتزاز سياسي؛ من أجل الضغط خلال المفاوضات؛ وبعد تشكيل الحكومة…

لكن الخطاب الملكي بمناسبة عيد المسيرة الخضراء؛ وجه رسائل قوية ودالة للأحزاب السياسية المغربية المعنية بمشاورات تشكيل الحكومة؛ ولم يخف نقده المقاربة التفاوضية لتلك الأحزاب؛ والتي راهنت على الاستقواء بالكتلة العددية من أجل انتزاع الحقائب الوزارية؛ لكن الحكومة ليست غنيمة كما قال جلالة الملك؛ من هنا فلا مناص للأحزاب السياسية؛ من تغيير الرؤية والمنهجية والاستراتيجية التفاوضية؛ لأن الحكومة كما أتى في الخطاب الملكي:

“هي برنامج واضح، وأولويات محددة، للقضايا الداخلية والخارجية”

هذا إن كان الفرقاء السياسيون يريدون حكومة قادرة على تجاوز الصعوبات التي خلفتها السنوات الماضية، في ما يخص الوفاء بالتزامات المغرب مع شركائه ” (الخطاب الملكي) .

لقد رسم جلالة الملك للفاعلين السياسيين؛ خارطة الطريق؛ التي وجب عليهم الاهتداء بمعالمها؛ فالمعايير والشروط الواجب على الأحزاب اعتبارها؛ تتركز حول التوافق بشأن برنامج عملي مؤسس على سلم معقول ومنطقي؛ لما يجب تقديمه؛ من حيث العناية والاهتمام؛ أي ما يعتبر هاجسا مؤرقا للمغاربة؛ مثل قطاعات التعليم والصحة والتشغيل والسكن والعدل والبنيات التحية من طرق ومواصلات وماء وكهرباء؛ ومشاكل العالم القروي…

إن الأهم كما لفت إلى ذلك الخطاب الملكي؛ ليس هو نصيب كل حزب من وزارات في الحكومة بالنظر إلى الحجم الحقيقي لكل حزب سياسي؛ بل هو مدى جاهزية طاقم هذه الحكومة وأعضائها؛ من أجل التصدي للإكراهات المتراكمة عبر فترات التدبير السابقة…

إن العبرة من هذا الخطاب؛ والمغزى المستخلص من مفهومه؛ يتمحوران حول وجوب إيلاء مصالح البلاد والمواطنين والمواطنات؛ الأهمية القصوى؛ والأسبقية، على منافع الأحزاب السياسية، ومآربها وحساباتها الشخصية…لذا؛ رسم الخطاب الملكي ملامح الحكومة الفعالة والناجعة وماهيتها؛ التي يتطلع إليها الجميع…بالقول :

“الحكومة هي هيكلة فعالة ومنسجمة، تتلاءم مع البرنامج والأسبقيات. وهي كفاءات مؤهلة، باختصاصات قطاعية مضبوطة فالمغاربة ينتظرون من الحكومة المقبلة أن تكون في مستوى هذه المرحلة الحاسمة ” (الخطاب الملكي)

لا جدال في أن الشنآن حول حصة كل حزب سياسي؛ والحجاج بالنظر إلى حجم نتائج كل حزب في اقتراع التشريعيات ليوم السابع من أكتوبر؛ هو الذي دفع الفاعلين الحزبيين للبحث عن تحالفات مستعجلة سواء في ظل الكتلة التاريخية أو تحت مظلة أحزاب الوفاق إضافة لحزب الحمامة؛ وهذا التسابق المحموم من لدن الأحزاب من أجل تعزيز قدراتها التفاوضية؛ والنفخ في حجمها الحقيقي والطبيعي؛ كل ذلك من شأنه النأي بالجسم الحزبي المشكل للحكومة المرتقبة؛ عن الانسجام والتوافق المطلوبين من أجل إنجاح انطلاقة الحكومة رقم 31 في تاريخ المغرب…

إن هذه الرؤيا الثاقبة، المستبصرة، والمتبصرة؛ لا يمكنها أن تلوح إلا للرائي المحايد الذي لا تستهويه الحقائب والمناصب..

إن إنجاح ورش مواصلة الإصلاحات الكبرى لبلادنا بما يساعد على تجاوز صعوبات التنمية وإكراهاتها؛ والتي تعتبر من مخلفات المراحل السابقة؛ يقتضي من الجسم الحزبي المرشح لولوج الحكومة المقبلة؛ انتقاء الكفاءات الممتازة من أطره؛ بعيدا عن منطق القرابات والولاءات؛ والوفاء بالوعود التي جرى توزيعها عقب الانتخابات التشريعية؛ لماذا ؟

من أجل أن تضطلع تلك الأطر؛ بالمهام التي ستناط بها خلال تدبير القطاعات الحكومية المسندة لها… بأسلوب ناجع وفعال…

إن على أحزابنا السياسية؛ وهي تستحضر شروط اللحظة الحاسمة التي تجتازها بلادنا؛ والمطالب الكثيرة والملحة لجميع فئات المجتمع المغربي؛ وانطلاقا من التوجيهات الكبرى الواردة في الخطاب الملكي الأخير؛ إن عليها أن تعيد النظر في طريقتها في التفاوض مع رئيس الحكومة المكلف بتشكيلها؛ وأن تلغي من حساباتها المكاسب التي يمكن جنيها من وراء الحصول على عدد هام من الحقائب؛ سواء من حيث العدد أو النوع…

إن على أحزابنا السياسية؛ أن تُيَسِّر عملية التفاوض؛ وترفع من وتيرة سرعتها بالنظر إلى حجم الانتظارات الكبرى والعريضة للمواطنين والمواطنات…

إن المصالح العليا للوطن اليوم؛ لا تقبل التباطؤ والتعثر في بناء أغلبية حكومية قوية؛ ومتماسكة؛ ومنسجمة؛ وقادرة على مجابهة إشكاليات التنمية والفقر والهشاشة المستعصية…

إن تغليب منطق المصالح العليا للبلاد على ما تريده ؛ الأحزاب السياسية أو ما تتمناه أجهزتها التقريرية؛ أو أعضاؤها؛ يحتم على الفاعلين السياسيين؛ الانتقال السريع من التباحث حول عدد الحقائب الوزارية التي سيحصل عليه كل حزب سياسي مشارك في الحكومة؛ والتي لم يعد مستساغا تضخمها؛ كما كان الوضع عليه في الحكومة السابقة؛ التي ضمت 39 وزيرا؛ إلى التفاوض حول الصياغة الدقيقة والإجرائية للبرنامج الحكومي خلال السنوات الخمس المقبلة…

هذا البرنامج الحكومي الذي ينتظره المواطنون والمواطنات؛ يجب أن لا يكون وعودا والتزامات غير قابلة للتنفيذ على أرض الواقع…
إن البرنامج الحكومي لا يريده المواطنون والمواطنات؛ جملة من التدابير والإجراءات المشروطة بالظرفية الاقتصادية والتساقطات المطرية…

لا تخفى عن الحكومة التي سبق للحزب المتصدر حاليا نتائج الانتخابات؛ أن قادها منذ 2012 إلى 2016؛ مكامن الخلل في القطاعات الأساسية والاستراتجية في البلاد؛ وفي المقدمة قطاع التعليم الذي أصبحت مظاهر أزمته بادية للعيان؛ بدءا بالاكتظاظ غير المسبوق الذي تشهده مدارسنا وإعدادياتنا وثانوياتنا؛ حيث يروج الحديث عن وجود ستين تلميذا أو سبعين في الفصل الدراسي الواحد؛ وليس انتهاء بالنقص الحاد في الموارد البشرية المؤهلة لمزاولة مهنة التربية والتكوين… حيث غادر مع نهاية السنة الفارطة؛ خمسة عشر ألف إطار من هيئة التدريس؛ خلال عملية التقاعد بنوعيه؛ النسبي والعادي…

لذا؛ فانتظارات الرأي العام من الحكومة المقبلة؛ في هذا المجال الذي يؤرق بال الآباء والأمهات والأسر المغربية عامة؛ كبيرة جدا جدا…
إن كثيرا من المواطنين والمواطنات؛ لايزالون يعتقدون مثلما تؤكد التقارير والتصنيفات العالمية في هذا الشأن؛ بأن مدراسنا وجامعاتنا ومؤسسات تكوين أطرنا؛ بعيدة كل البعد عن معايير الجودة؛ ومؤشراتها كما هو متعارف عليها…

إن حلول مشكلة التعليم والتربية والتكوين؛ يمكن في نظرنا؛ اختزالها في عنصرين أساسين، وملحين في الظرف الراهن؛ أما الأول فيتمثل في تعزيز البنيات التحتية للمؤسسات التعليمية؛ لمحاربة الاكتظاظ، وذلك بتوسيع الفضاءات التعليمية؛ وبمضاعفة الحجرات الدراسية؛ ويمكن للحكومة من أجل تسريع وتيرة هذا الإنجاز؛ أن تسند هذه المهمة لقطاع التجهيز..

أما الحل الثاني الذي نقترحه لتقليص الهوة في مدارسنا وجامعاتنا؛ فيتجسد في توظيف الموارد البشرية المؤهلة والمدربة والكافية لسد الخصاص الكبير المترتب عن إحالة الأساتذة على التقاعد.

إن إرساء نظام تعليمي جيد وديموقراطي؛ يقتضي تيسير الولوج للتربية والتكوين أمام الجميع؛ إضافة إلى تقليص الفوارق بين التعليمين العمومي والخصوصي؛ دون إغفال تسهيل اندماج مخرجات المنظومة التعليمية في سوق الشغل .

وبالنسبة لقطاع الصحة؛ فالمواطنون والمواطنات؛ يتطلعون لتحسين الخدمات بالمستشفيات العمومية؛ وتشييد مزيد من المستشفيات الجامعية؛ والحد من الضغط على مستشفيات الرباط والدار البيضاء…ناهيك عن وجوب الارتقاء بالخدمات الاستشفائية المقدمة لحاملي بطاقة ” رميد” التي أصبح بعض المواطنين والمواطنات؛ يواجه صعوبات في الاستفادة من خدمات الأشعة والجراحة والكشف؛ إما بسبب عطل الأجهزة؛ أو بعد مواعيد إجراء الفحوصات والتدخلات العلاجية…كما أن سكان العالم القروي يتطلعون لمراكز صحية جديدة؛ ومؤهلة من حيث البنيات التحتية والموارد البشرية؛ من الممرضين وأطباء في التخصصات الدقيقة…

إن المواطنين والمواطنات، في العالم القروي، يأملون في أن تكف الحكومة عن معالجة المرضى وإسعاف النساء الحوامل بواسطة طائرات مروحية؛ لاسيما خلال التساقطات الثلجية؛ وذلك بإرساء منظومة صحية جيدة وقارة بالعالم القروي والأماكن النائية…

كما أن المواطنين والمواطنات؛ يترقبون برنامج الحكومة الجديدة في مجال السكن؛ والسكن الاجتماعي والاقتصادي خاصة…فلا يمكن المضي قدما في إزالة السكن العشوائي ودور الصفيح والبناء العشوائي؛ دون سن سياسة سكنية تشجع المنعشين العقاريين على إنتاج الوحدات السكنية ذات الجودة والكلفة الملائمة لذوي الدخل المحدود والمتوسط.

أما في مجال الشغل والتشغيل؛ فلا شك أن المواطنين والمواطنات؛ يتلهفون لمجهودات الدولة في هذا القطاع الحيوي والاستراتيجي؛ وذلك من خلال وضع الحكومة الجديدة سياسة استثمارية قوية وفعالة؛ تمكن من تنشيط الاقتصاد الوطني؛ لتمكينه من إحداث فرص الشغل؛ لاسيما بالنسبة لمخرجات الجامعات الوطنية؛ ومؤسسات التكوين المهني والمعاهد العليا للتكنولوجيا..

إن أفق الانتظارات؛ وحجم التطلعات؛ بالنسبة للشعب المغربي؛ بجميع فئاته وطبقاته؛ لاحد لها ولا ساحل؛ لذا، فمن غير المستساغ لدى الرأي العام؛ أن نتأخر عن الإقلاع المستعجل؛ وذلك بتضييع الوقت في التفاوض لانتزاع المكاسب الحزبية…وكأن بلادنا قد بلغت شاطئ الأمان…أيها السياسيون رجاء.. لا تئدوا آخر الآمال بنفوسنا!