مجتمع

نوابغ مغربية: علي بن راشد.. نابغة الإمارة الراشدية الذي حمى ثغور البلاد الشمالية

تميز المغرب عل مدار تاريخه ببزوغ شخصيات نابغة أبدعت في مجال تخصصها وأسهمت في بناء الإدراك المعرفي للمجتمع وشحذ الهمم والارتقاء بالوعي الجمعي، كما رسخت عبقرية المغاربة بتجاوز إشعاعها حدود الوطن، ومنهم من لا تزال إنتاجاتهم العلمية والمعرفية تُعتمد في الحياة وتدُرس في جامعات عالمية.

هم رجال دين وعلماء ومفكرون وأطباء ومقاومون وباحثون ورحالة وقادة سياسيون وإعلاميون وغيرهم، منهم من يعرفهم الجميع وآخرون لم يأخذوا نصيبهم من الاهتمام اللازم، لذا ارتأت جريدة “العمق” أن تسلط الأضواء على بعضهم في سلسلة حلقات بعنوان “نوابغ مغربية”، لنكتشف معًا عبقرية رجال مغاربة تركوا بصمتهم في التاريخ.

الحلقة 40: علي بن راشد الشفشاوني.. نابغةُ الإمارة الراشدية الذي حمى ثغور البلاد الشمالية

بسم الله الرحمن الرحيم

يَـرتَفعُ السيد علي بن راشد بأصْلِه إلى السلالة الإدريسية، ويرجِع بِنسبه إلى الأسرة العَلَمية الشفشاونية، فهو أحد أحفاد القائم على السكينة الروحية للبلاد المغربية؛ الشيخ عبد السلام بن مشيش العلمي، من فخدة بني راشد التي استقرّت في شفشاون منذ اختطَّها المجاهِد الفقيه أبو محمد الحسن بن الجمعة، وكان منها العلماء والمجاهدون والقضاة والأمراء والوزراء الذين بَصموا تاريخ المغرب، وأثَّروا في مجريات الأحداث في شمال البلاد أساساً. 

في قرية غاروزيم _ وقِيلَ غاروزين _ جنوب شفشاون سنة 1440 ميلادية، وفي مراتعها كانت انطلاقته، طفلا، فيافعاً، وفي كتاتيب مدشر الـخْـزَانَة تلقّى تعليمه الأوّلي، وإنْ كنا نجهل تفاصيلَ مسار شبابه، إلا أنَّ مَراجعَ ومَصادِرَ أَرَّخَت للرجلِ زوّدتنا بمعطياتٍ عن مراحِل هامة من حياته، إلى أن استَوى أميراً من أشْهَر أمراء شرفاء بني راشد. 

السيد علي بن موسى بن راشد الـعَلَمي الـحَسني، أحد النبّلاء الشُّبّان حسب تعبير الكاتب الإسباني مارمول كربخال (انظر: “إفريقيا”، الجزء 2، ص: 227)، ابنُ بيئةٍ وسياقات عصيبة مرّ بها المغرب الأقصى وشطره الشمالي الغربي، وعاصَر مرحلة ظاهرة الكيانات السياسية الإقليمية التي توزّعت ربوعَ المغرب مُعوِّضةً ضُعف السلطة المركزية في فاس. 

قضى الشريف علي بن راشد مدّةً من الزمن في قبيلة بني حسّان وبين ساكنيها الذين وصَفهم مارمول كاربخال بـأنهم “أكبَرُ المحارِبين في كلّ هته الجبال” و”رجالُ حربٍ أشدّاء”، إلا أنه ذاق ذَرْعا بسلوكهم التّحقيري للشرفاء، فانتقل إلى الأندلس، ونَزل في غرناطة مدةً ناهزت الخمس سنوات، وفيها تزوّج بــالآنسة كاترينا فيرنانديز التي أسْلَمت وتَسَمَّت بــ“زهرة” حسْبَما ذَكر الباحث في التاريخ جمال الدين الريسوني في مقالٍ لهُ منشور بموقع الجزيرة يوم 12 غشت 2020، وأنجَب منها ابنته النّجيبة المجاهِدة السيدة الحُرّة، و”بَعْد أنْ أدَّى خدماتٍ جُلّى لملك غرناطة ضدّ الـمسيحيين؛ عاد إلى بلاد البربر وقد أصبَح محارِبا محنَّكًا، فأقام بجبل شفشاون، حيث التَجأ إلى بعض أصحابه، وكَوّن هناك سِربا من الفُرسان قاوَم به البُرتغاليين على الحدود بشجاعةٍ كبيرة..”، وأعطت سلسلة الانتصارات على العدوّ، والسيرة الحسنة في تدبير المدينة، وشَرَفِية النَّسَب؛ دُفعة معنوية قوية للأمير الـمجاهِد، الذي سيُبايَع أميراً على شفشاون، وقائداً لإمارة بني راشد. 

هنا ستظَهر أمارات القائد الـمُجِدّ المستوعِب لما عليه من مسؤوليات جسيمة وأمانة الدفاع عن حوزة البلاد، وسيندرِج في ذاكرة المنطقة والقبائل باعتباره الباني الثاني لحاضرة شفشاون حوالي سنة 1471، وهي السَّنَة التي استولى فيها البرتغاليون على أصيلة وطنجة “وزَحَفوا إليها من سبتة في أُلوفٍ من العساكِر واستَولَوْا عليها، وبَقِـيَت في أيديهم أكثر من مائتين وخمس سنين” على ما ذَكَر المؤرخ أحمد الناصري في “الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى”، الجزء الرابع، ص: 98، واتَّجهت أطماعهم الاستعمارية إلى قِـدِّيسة الجبل، شفشاون، فقام آل راشدٍ مَعية أميرهم المجاهد عَـلِـيّ في التصدَّي للتحرشات العسكرية، “حتى إنّ مَلِك فاس _ أيْ السّلطان الوطّاسي _ عَزَّزَه ببعض الجنود من الفُرسان والـمُشاة، فحارب بهم القوم الذين استَعْبَدوا النبلاء _[أيْ الشرفاء]_، وبَعد أنْ خَضَّدَ شَوْكَتهم؛ بُـــويِعَ أميراً لشفشاون، ثم استولى على جميع مَوارِد مَلِك فاس وثار عليه” وِفقَ ما أوْرَد كربَخال في المصدَر المذكور أعلاه، ص: 227.

لقد عاصَر الأمير عَلِيٌّ مرحلةً خطيرةً وعسيرةً من حياة المسلمين والمغاربة في الغرب الإسلامي، وأحداثاً جِساماً أخَلَّت بالتوازن الجيوإستراتيجي الذي كان قائماً في المتوسِّط منذ قرون، وعلى رأس تلك الأحداث؛ سقوط الأندلس وآخِر معاقِلها غرناطةَ سنة 1492 – تَمَدُّد القوى الإيبيرية في البحر الأبيض المتوسط – نفوذ العثمانيين في الحوض الغربي للمتوسّط. وداخليا؛ احتلال سبتة في 21 غشت 1415 بقيادة مَلك البرتغال جان الأوّل – الاستيلاء على أصيلة وطنجة –  انهيار الحكم المريني ومَقْتَل آخِر خلفائهم (عبد الحق) سنة 1465 –  قيام بني وطّاس وحروبهم الداخلية بين بني عمومتهم إلى غاية استقرار الأمر لهم سنة 1472؛ وغيرها من الأحداث التي أثَّرت عميقاً في نفسية الأمير، وعَزّزت لديه القابلية للتصدّي والدفاع عن الحاضرة الشفشاونية، ومَدِّ يَــدِ الـتّـعاون إلى القوى المناضِلة الـمجاهِدة في تطوان وأصيلة والنّواحي، وكان له دورٌ هامٌّ في تحفيزِ الإمارات المستقِلّة حتّى تَــبَارَت في جهاد العدوّ “وقِتاله، وأعمَلوا الخَيل والرِّجالَ في مُقارَعته ونزاله” بتعبير أبي العبّاس الناصري في “الاستقصا”، ص: 111.

وزادت هَـيْـبَة عَلِي بن راشِد بِفَضْل هجماته البارعة على سبتة وطنجة وأصيلا، تلك الهجمات التي كان يُقاتِل فيها جنبا إلى جنب مع الأمير المجاهِد المنظري، ويُساعده على تثبيت أقدامه في تطوان، ومعه لاجئي عرب الأندلس. وترقَّت تلك العلاقات النضالية لاحقا إلى علاقة مُصاهَرة متينة. 

إنّ ” الأمير الجليل الفاضل الأصيل” _ على حدّ وصْفِ الإمام محمد العربي بن يوسف الفهري في رائعته “مِرآةُ الـمَحاسِن..” – المدافعَ عن الحدود الشمالية لدار الإسلام وطَّدَ دعائم إمارة محفوظة الجوانب من غارات العدو، محفوفة النواحي بالحامية من جنود المجاهِدين، مرهوبة في النّطاق الممتدّ إلى طنجة وأحوازها، وأعطى للإمارة الراشدية نفوذاً قوياً بالمنطقة الشمالية الغربية للمغرب الأقصى، فـ “الغنائم كانت تَدخل شفشاون على يَــدِ وُلَاتِـهَـا الأشراف من بَني راشد،  وكـان لهم اعتناء بذلك كبير، ويُدخلونها في أُبَّـهـة عظيمة وزِيٍّ عظيـمٍ..”، و”استمر عليُّ بن راشد أميرا على شفشاون وإقليمها مدة طويلة تُقَدَّر بنحو أربعين سنـة، إلا أنه بالرغم من طول هـذه المدة، فإنّ المصادر لا تحدِّثنـا عنه إلا باختصار كبير” على حدّ تعبير الباحث المغربي عبد القادر العافية في رسالته الجامعية “الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية بشفشاون وأحوازها خلال القرن العاشر الهجري السادس عشر الميلادي”.

هذه السّنوات الطِّوال مِن الحكم الممزوج بالكفاح والروح الوطنية والغيرة الإسلامية على الأرض والعِرض؛ مَردُّها إلى ثِقة الشَّـعب في قيادته، وإلى تميُّز ونبوغ هته النوعية من رجالات المغرب العِظام، فالشهادات الفردية والإنجازات الميدانية والمراسلات الرسمية والمصادر التاريخية تَقودُنا لاستخلاص جملةٍ من القيم والمميِّزات وعناصر النّبوغ في شخصية الأمير ابن راشد. 

فالرجل كان موسوماً بالبسالة والشّجاعة والإقدام، عَرَف كيف يَستثمِر في الطاقات المتطوِّعة من أبناء الجبال في الشمال و”أهل شفشاون رجال حَرب، سواء منهم الرّاجلون أو الفرسان، يَـتَبَاهَوْنَ بالشّجاعة”، بشهادة المؤرخ الجاسوس مارمول كربخال، وكان ذكياً في التّعامُل مع السياقات العامة والظّرفيات المحلية التي حَكمت المغرب في القرن الخامس عشر وبداية القرن السّادس عشر. كما عمِل على إشراك المكوّن الأندلسي الذي وفَد على المدينة مُهَجَّراً؛ في الحملات الجهادية وفي العناية بالمدينة وفي أعمال البناء والتَّرميم والزراعة، وألْهَبَ حماسَهم لاستعادة مجدهم وأندلسهم المفقودة. 

من ذكائه؛  اختطاطُه للمدينة في موقع دفاعي مُشْرِفٍ على منطقة ممتدّة مَدّ البصر، وإعطاؤه الأوامر ببناء أسوارها التاريخية وأبراجها وقصْبتها، وتنشيط مساجِدها لأداء مهام التأطير الديني والتحفيز على الجهاد. 

ومِن نُبـوغه ونَباهته؛ استمالَتُهُ الفقهاء وإعادة الاعتبار للشّرفاء العَلَمِيّـين في الأوساط القروية والحضرية، وسياسته الحكيمة في تدبير علاقات الإمارة الراشدية مع الحكم الوطّاسي بفاس ومع آل المنظري بتطوان. 

كان الأمير رجلا ذا قيمة كبيرة في المشهد السياسي والعسكري لمغرب القرن السادس عشر، وَطّد الصلاة مع الجالية الغرناطية التي استقرّت بتطوان بعد النزوح من آخِر القلاع الأندلسة المجيدة، “وأحْرَزَ عِدّة انتصارات، سواء في البحر أو في البَر، بِرُفقة المنظري أمير تطوان وغيره من القُوّاد الأبطال”.(/انظر: “إفريقيا”، م.ك، ص: 248)، وأحصى له المؤرِّخون أزيدَ من 20 معركة ضدّ القوات الإيبيرية الغازية. 

وساهمَت جُهوده في استمرارِ نفوذ الإمارة الراشديـة في المنطقة حوالي  قرنٍ من الزمان من بعدِ وفاته سنة 1512، إلى أنْ أنْهى وُجُودَها السّلطان عبد الله الغالب السّعدي، وأدْرَج شفشاون وباديتها تحت نفوذِ الدولة السعدية ابتداءً من سنة 1561 ميلادية. 

توفيَ الأمير إلى رحمة الله القَدير، فأكْرَمه مُحبّوه ورعية إمارته ببناءِ ضريحٍ ما يزالُ إلى يومنا هذا مقصدا للزوار، وتُحْيى في رحابه ليالي المولد النبوي الشريف، وأكْرَمَته شفشاون جيلاً تلو جيل، بِـتخليد اسمه عناوينَ لأزقّتها وشوارعها ومدارِسِ أبناءها، وإنْ كان الرجل أكبَر وأعظَم من مُجرَّدِ شارِعٍ في مدينة مُجاهِدة. 

مصادر ومراجع:

* (كربخال) مارمول:”إفريقيا، الجزء 2” ترجمة محمد حجي، أحمد التوفيق، أحمد بن جلون، محمد زنيبر، محمد الأخضر، الجمعة المغربية للتأليف والترجمة والنشر، دار نشر المعرفة، الطبعة الثانية 1989.
* (الناصري) أبو العباس أحمد: “الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، الجزء الرابع، الدولة المرينية“، تحقيق وتعليق جعفر الناصري ومحمد الناصري، دار الكتاب – الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1955، النسخة الإلكترونية 2002.
* (الفاسي) أبو حامد محمد العربي: “مرآة المَحاسن مِن أخبار الشّيخ أبي المحاسِن”، منشورات رابطة أبي المحاسن بأبي الجعد، دراسة وتحقيق الدكتور محمد حمزة الكتاني، الطبعة الأولى 2002.
* (العافية) عبد القادر: “الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية بشفشاون وأحوازها خلال القرن السادس عشر الميلادي“، رسالة جامعية، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، مطبعة فْضالة – المحمدية، الطبعة الأولى 1982

* إعداد: عـدنان بـن صالح/ باحث بسلك الدكتوراه، مختبر “شمال المغرب وعلاقاته بحضارات الحوض المتوسِّطي”، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي – تطوان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *