وجهة نظر

الانقلاب على الدستور: محاولة للتأصيل

بزغت فكرة الدستور كمحاولة لعقلنة المعترك السياسي عن طريق تنظيم العلائق بين الحكام والمحكومين. تطوّرت هذه الفكرة في بداية العصر الحديث بسبب التغيرات العميقة والمتشابكة التي شهدها الغرب في كافة المجالات لتصبح من أهم ركائز الدولة القومية الناشئة، إذ صار الدستور تدريجيا بصفته تجسيدا للعقد الاجتماعي هو الأسمى الذي يَحدّ سلطة الحاكم ويضمن الحريات ويؤطر المجتمع اعتمادا على مجموعة من المبادئ الفلسفية أهمها: سيادة الشعب وسريان القانون وفصل السلط وتحييد الدين.

وأخذا بهذا المعطى، شكلت العملية الديمقراطية، بوصفها بناء نظريا ونظاما اجتماعيا، أهم إبداعات العقل السياسي الذي يتوخى، من خلال أساس الوثيقة الدستورية التعاقدية الجامعة، تنظيم الأفراد داخل سياقات اجتماعية مختلفة رغم تعدد وتنوع منطلقاتهم وتوجهاتهم، كما ينشد العمل على تدبير اختلافاتهم السياسية من أجل بلوغ الغايات السامية للدولة، المتمثلة أساسا في تحقيق العدالة وتحصيل الرفاهية للمواطنين.

العملية الديمقراطية وإن كانت تستند على آلية “الدسترة” وتنهل من قواعدها ومبادئها، فهي أوسع وأشمل من ذلك، حقل الإحالة في “الدمقرطة” يكمن في تحديد اختياراتهم ونوعية مؤسساتهم، أما منطلق الدسترة فهو “التوافق على بناء القواعد والضوابط والكوابح الناظِمة للسلطة وسلوك ممارسيها”؛ ومن هنا يحضر التساؤل الأولي: عربيا، هل تُسعفنا فعلا عملية “صناعة الدساتير”- – في القول إننا أمام تحول ديمقراطي أو انتقال إلى الديمقراطية؟، وهل النتائج التي أفضت إليها مناقشات صياغة الدستور التونسي، مثلا، ساهمت في حل الأزمة الراهنة، وبالتالي فتح الطريق أمام استمرار الاختيار الديمقراطي؟.

والقصد هنا البحث في ما وراء الديمقراطية، بمعنى أن الديمقراطية لا تَسلم بدورها من مكر العقل الذي ابتكر الإيديولوجيا والوهم والعنف، أو من “اليوطوبيا” التي غالبا ما تنتج تصورات مبالغا فيها تضفي القداسة على الديمقراطية نفسها. كما أنه كثيرا ما تَخترق تلك الغايات أنماط من العقلانيات المختلفة والمتعارضة، وأشكال من النزعات اللاعقلانية التي تجبر العقل السياسي، بل العقول السياسية، على الاستسلام لمفارقات لا حصر لها عند تناول مفهوم « الديمقراطية ».

هذه الاختلافات والتباينات في التصورات والممارسات اللصيقة بالديمقراطية وضعت هذه الأخيرة في مأزق إشكالي، جعلت المهتمين بالشأن السياسي، سواء كانوا منظرين للسياسة أو ممارسين لها، يدركون الصعوبات التي تشكو منها الديمقراطية لدرجة أمكن الحديث معها عن “مشكلات الديمقراطية”.

في هذا السياق، أقف هنا عند إشكالية ” غاية التمثيل السياسي” وكيف يحدث أن ينقلب “الممثل عن  هذه الإرادة العامة”، على منطق وأساس الإرادة العامة نفسها التي تجد “التعاقد الدستوري” الأقرب لتمثلها على أرض الواقع، وهو ما سيشكل إطارا جديدا لإعادة إنتاج التأزم السياسي عينه، والأنكى من ذلك أن يُعاد توليد “أزمة الشرعية” باسم “الشرعية” نفسها.

في هذا المقام، أجادل بأن فكرة “الانقلاب على الدستور” ليست بالحديثة، بل هي فكرة خبرها ووثقها التاريخ، هي فكرة جعلت من استخدام “الأدوات القانونية والدستورية” مدخلات أساسية  للانقلاب على الوثيقة الدستورية، وبالتالي الذهاب نحو التأسيس للسلطوية بإضعاف الديمقراطية  كنتيجة.

توطئة لابد منها

ينبني المنظور الحديث لدراسة وتحليل الأنظمة السياسية بالأساس على مفهوم “الدستورية”، والدستورية أول ما تعنيه أنها “حركة لبناء الدولة على أساس قانوني ومؤسسي”. وصف النظام السياسي بأنه “دستوري” يعني أن أساس تصنيف وتحديد مقومات هذا النظام إنما ينطلق من الوثيقة الدستورية، فإذا كنا نقصد بالنظام السياسي ذلك “الإطار  الذي يحدد شكل الحكم وطبيعة السلطة، والشكل القانوني تشتغل ضمنه هذه المؤسسات، فإن إضفاء وصف “الدستورية” يجيب بالأساس على سؤال محوري “كيف يتمثل ويتبدى هذا النظام داخل الوثيقة الدستورية”؛ وما مصطلح الدستورية إلا دلالة وانعكاس لفكرة “التعاقدية” التي كانت بمثابة النواة الذي تَولد على أساسها بعد ذلك الكثير من الأنظمة السياسية والدستورية لكثير من الدول الحديثة، كما كانت بمثابة القيد الذي “جعل العلاقة بين الحاكم والشعب تقوم على نوع من الضوابط والقيود”، يخضع لها الحاكم أثناء ممارسة شئون الحكم ويطالب بتنفيذها أمام الأمة، وقد كان ذلك يُمثل نوعا من الرقابة الشعبية والدستورية على سلطان الحاكم، وإن كانت رقابة ضعيفة وغير ثابتة استطاع الحكام أن ينفذوا من خلالها، نحو الاستبداد بالسلطة والعدوان على حقوق الشعب.

عامة، وبالعودة إلى التاريخ الدستوري والسياسي نسجل، في مستوى أول، تعاقب تصورين للسلطة؛ تصور الملكية (بمستوياتها: الملكية المطلقة وبعدها الدستورية المقيدة، وصولا إلى الشكل البرلماني) وتصور  السيادة الشعبية، وقد أدى كل واحد منهما إلى ميلاد تقليد تم التعبير عنه أحيانا من خلال مؤسسات سياسية أو إدارية وأيضا من خلال استمرار وسيادة ايديولوجية معينة.  في هذا الصدد، ظهر “تقليد سلطوي” حول ممارسة السلطة من جهة، و”تقليد ليبرالي” حول ذات الممارسة من جهة ثانية. وإذا كان من الواضح أن هذان التقليدان متناقضان ومتعاكسان فإنهما على الرغم من ذلك تكاملا على نحو محكم؛ وهو الأمر الذي عكَسه النموذج الفرنسي بامتياز حيث جسد أصالة وتميز الأسس السياسية للقانون العام الفرنسي من خلال « الزواج » الناجح لتقليدين يبدو أنهما في الأصل متناقضين كلية.

بالإضافة إلى التصوريين السابقين (الملكية والسيادة الشعبية)، ظهر، في المستوى الثاني، واقعيا وممارسة تصور ثالث تَمثل وتبدى في شكل آخر من الحكم عُرف ب”حكومات الأمر الواقع” أو “الحكومات الثورية” والتي ستأخذ بعدها شكل “الامبراطورية”، تصور “لم يستند في مرجعه ومصدره لا إلى “الملكية” ولا إلى “السيادة الشعبية” وإنما إلا “معيار القوة” في انتزاع المشروعية السياسية؛ الأمر تعلق بأشخاص اعتلوا العرش عن طريق “الانقلاب والقوة” لكن الجديد أنه كان بمعية “الاقتراع الشعبي”، هم أناس حكموا بأساليب الأنظمة الدكتاتورية، وفي نفس الوقت قدموا أنفسهم كمدافعين عن مبادئ الثورة، وبالتالي اعتبروا أنفسهم “المنقذين والمخَلصين” للأوضاع والأزمات التي يعيشها النظام السياسي؛ وبالنظر إلى صعوبة تحديد شكل هذا النظام فقد وصفه الفقيه الدستوري الفرنسي  “موريس دوفيرجيه” بالملكية الجمهورية Monarchie républicaine   لكن الوصف الذي اعتمده من حكموا في ظل هذا النظام هو الحكم الامبراطوري.

النموذج السياسي الفرنسي يعطينا فكرة جلية وواضحة عن هذا التصور الثالث الذي أسس معه لولادة مفهوم “الانقلاب على الدستور”، بحيث سوف تعرف فرنسا نظاما فريدا ومعقدا يصعب تحديده ذلك أن النظام الذي تم إنشاؤه في هذه الفترة (العهد الإمبراطوري من 1799 إلى 1814 ومن 1852 إلى 1870) في جوهره قريب من معالم  النظام الملكي، لكن في نفس الوقت ليست له أية علاقة بالأسرة الملكية التي كانت تحكم فرنسا قبل الثورة.

الانقلاب على الدستور: نحو أي مفهوم ؟

الأكيد أن “الانقلاب” لا يشكل مفهوما علميا يمكن له أن يقدم لنا نموذجا تفسيريا للظاهرة السياسية المعقدة كما يُفترض أن يكون “المفهوم في العلوم الاجتماعية”، بل هو يقف عند حدود “المصطلح”، وبهذا نقول أن “الانقلاب” يُكيف على أنه “مصطلح” وليس بالمفهوم العلمي؛ ويقال “مصطلح ” لأنه يُصطلح عليه؛ أي يُتفق عليه في تسمية الظواهر والأشياء”.

مصطلح “انقلاب”، في المجال السياسي، في مستواه الأول، يعني، “قلب السلطة”، ولا يعني “قلب نظام الحكم”، بمعنى انقلاب أوساط من النظام على أوساط أخرى من النظام نفسه، بوسائل غير دستورية. والعنصر الأهم هنا، أن أحد أجهزة النظام أو مكوناته ينقلب على الحاكم. وغالبا ما يكون الهدف من الانقلاب هو الوصول إلى الحكم، وليس تغيير النظام. وهنا يختلف مصطلح “الانقلاب” عن مصطلح “الثورة” الذي غالبا ما يكون “تحركا شعبيا واسعا من خارج النظام لتغيير نظام الحكم”، بل وفي بعض الأحيان قد يصل “الانقلاب” إلى مستوى “الثورة”  عند الانتقال إلى تغيير النظام السياسي بتأييد شعبي (كما حصل، مثلا، في انقلاب الضباط عام ١٩٥٢ في مصر).

بالمقابل، إذا كان من الطبيعي، في هذا المستوى الأول، ليكون الانقلاب عسكريا، فالطرف القادر على إطاحة السلطة من داخل النظام هو الجيش، أو جهاز الأمن على الأقل؛ فإنه يُطرح، في مستوى ثاني، تَمثل آخر لمصطلح “الانقلاب”، والذي أسميه هنا ب”الانقلاب الدستوري” وعند البعض “الانقلاب على الدستور”، يأخذ في كثير من الأحيان بطرق قد تبدوا في مظهرها الأول مقبولة وشرعية؛  بل وقد يحظى صاحبه بمساندة شعبية قبل وصوله للحكم، بغية الوصول إلى  النتيجة السلطوية التحكمية بفرض دستور جديد .

ومن بين أهم من مثل ظاهرة “الانقلاب على الدستور”، سيرا على نهج الجنرال بونابارت الذي قاد انقلاب 18 بريمير Brumaire على دستور السنة الثالثة من الجمهورية الأولى الذي عرف بدستور 5 فريكتيدور، نجد الأمير الرئيس “لويس نابوليون بونابارت”الذي لم يتردد في استغلال الظروف التي كانت تعيشها الجمهورية الثانية الفرنسية أساسا إشكالية “تقييد حق التصويت”، حيث سيقدم نفسه مدافعا على عن حق الاقتراع العام، وسيقوم بعد ذلك بحل الجمعية الوطنية ومجلس الدولة وإلغاء دستور الجمهورية الثانية  بعد استدعاء الشعب للاستفتاء قصد تخويله حق وضع دستور جديد محاولة منه لإضفاء الشرعية على “الانقلاب الدستوري” الذي قام به والذي فتح له الباب الواسع ليؤسس للإمبراطورية الثانية.

الانقلاب الفوقي على الدستور: نموذج انقلاب كانون الأول لعام 1851

لماذا العودة إلى هذه الحقبة التاريخية ؟؛ يذهب بعض المفكرون والمحللون العرب إلى أن الثورات العربية تشابهت في مظهرها وقسماتها والثورات الأوربية خلال العامين 1848-1849 بسبب ما يبدو من طابع عفوي مشترك وشبه العديد من المطالب وانتشارها في العديد من البلدان. كما تنعكس المقاربة في اللغة نفسها أحيانا؛ فالتعبير “ربيع” –الشعوب العربية- الذي استعمله بعض أوساط الخطاب العربي أطلق على ثورات 1848-1849 في الأصل، وأصبح يطلق على هبات شعبية واسعة وحركات تغيير جدرانية ك”ربيع براغا”.

ليس الهدف هنا إجراء مقارنة شاملة، هذا يحتاج أكيد إلى دراسة عميقة، لكن لاشك أن في أن المقارنة جديرة بدراسة خاصة تتناول كافة الجوانب لكلتا الظاهرتين. لذا أكتفي هنا بالإشارة لملاحظة واحدة باختصار شديد مفادها أن : “ربيع” أوروبا انتهى بفشل ذريع، سياسيا على الأقل؛ فقد نجحت الأنظمة الاستبدادية والقمعية، في تلك المرحلة، وبمختلف الأساليب والطرق، في إخماد الثورات الأوربية: وأقف هنا عند أسلوب “الانقلاب على الدستور” متبوعا باستحداث أسلوب “الاستفتاء العام” لإضفاء الشرعية على الدستور الجديد.

بشهادة الكتابات العديدة في مجال “تاريخ الديمقراطية في اوروبا” شكل “انقلاب الثاني من كانون الأول العام 1851” انقلابا فوقيا على الدستور، وتكرار مثيله في ألمانيا في 1932 / 1933، موضوع جدل متعدد الجوانب في العلوم التاريخية والسياسية والاجتماعية. فقد أثارت ثورة 1848 في فرنسا، وثورة العام 1918 في ألمانيا، أزمة عميقة في المجتمع الأوروبي. وكان الهدف الرئيس إجراء إصلاح عميق في النظام السياسي؛ ومنه دار الجدل حول سلوك الشعب في حالة الأزمة.

بهذا الشكل، أتاحت الثورة “ثورة شباط 1848” الفرصة لإقامة نظام “حكم ديموقراطي” على الأقل بمفاهيم ذلك العصر، وتطرق الخطاب السياسي الذي وصـل ذروته خلال الـعـامـيـن 1848 و 1849 إلى شتى جـوانـب الـنـظـام السياسي، وحتى موضوع المرأة ومكانتها في الحياة السياسية والاجتماعية من قبل بعض التيارات الراديكالية، وانتهى الأمر بالتأسيس للجمهورية الثانية في فرنسا.

أولا؛ سياق الجمهورية الثانية ودستورها لعام 1848

شكل نجاح ثورة 24 فبراير 1848 نهاية حكم “لويس فيليب وتأسيس الجمهورية الثانية بإعلان تكوين حكومة مؤقتة للجمهورية،(حكومة تشكلت بتوافق سياسي من خلال تحالف البرجوازيين والليبراليين مع العمال الاشتراكيين)، وهي الحكومة التي اتخذت مجموعة من القرارات الهامة، مثل الاقتراع العام والسهر على انتخاب جمعية تأسيسية حددت مهمتها السياسية في وضع دستور جديد للبلاد في نونبر 1848.

وأهم ما ميز الجمهورية الفرنسية الثانية؛ أولا، أنها كانت جمهورية بدون جمهوريين، فالأغلبية البرلمانية فيها كانت تعود إلى الملكيين المعتدلين الأوريا ليين الذين ساندوا سابقا “لويس فليب”. ثانيا،  إنشاء نظام أقرب ما يكون نظاما رئاسيا على غرار نظام الولايات المتحدة الامريكية، يتم بموجبه انتخاب الرئيس بواسطة الاقتراع العام المباشر لمدة 4 سنوات غير قابلة للتجديد. وقد أعطى هذا الدستور أيضا الرئيس حق تعين الوزراء لكنه جعلهم مسؤولون أمام البرلمان الذي يتكون من غرفة واحدة في الجمعية الوطنية هذه الأخيرة تتألف من 750 عضوا يتم انتخابهم بالاقتراع العام المباشر وباللائحة على مستوى الإقليم.

ثانيا؛ المواجهة بين “الرئيس المنتخب” و”الجمعية الوطنية”

لم تعمر الجمهورية الثانية طويلا، لأن الدستور الذي وضعته الجمعية التأسيسية كان مليئا بالتناقضات، حيث جمع بين عناصر النظام الرئاسي وبعض خصائص النظام البرلماني، الشيء الذي سيؤدي حتما إلى المواجهة بين الرئيس “لويس بونبارت” المنتخب عن طريق الاقتراع العام المباشر والجمعية الوطنية التي تسيطر عليها أغلبية من أنصار الملكية. وما أثار المواجهة أيضا أن “تقسيم السلطة بين الرئيس والبرلمان” تم بناء على “فصل مطلق للسلط” الذي لم يسبق أن عرفه القانون الدستوري الفرنسي إلى حدود طلك التاريخ، فالبرلمان لم يكن يتوفر على أي وسيلة للتأثير على الرئيس، هذا الأخير لم يكن له أيضا وسيلة للتأثير على المجلس النيابي.

بعد أن  انتخب ابن أخ نابليون ( Louis Napoléon Bonaparte ) رئيسا للجمهورية الثانية، توترت العلاقات في عهده بين جهازي الرئاسة ومجلس النواب. فعدم إمكانية إعادة انتخاب الرئيس بناء على أحكام الدستور، وفشل محاولة مراجعة أحكام الدستور بفعل عدم الحصول على أغلبية ( ثلاث أرباع ) الأصوات داخل المجلس الضرورية لتعديل الدستور من أجل إعادة انتخاب Louis Napoléon Bonaparte ، أدى بهذا الأخير إلى “قيادة انقلاب جعله ينفرد بالسلطة بتاريخ 02 دجنبر 1852 وهو الانقلاب الذي سوف تتم المصادقة عليه باستفتاء 22 دجنبر من نفس السنة ليتم الإعلان عن ميلاد الإمبراطورية الثانية .

ولإضفاء الشرعية على نظامه الجديد، استخدم لويس بونابارت وسيلتين رئيستين : دستور جديد لإضفاء الشرعية على حكمه، واستحداث أسلوب الاستفتاء العام لشرعنة ممارساته.

ثالثا؛ ما وراء صورة “لويس بونابارت” الرجل “المنقذ والمخَلص”

شكل حدث تصويت الجمعية الوطنية على قانون يقضي بتقييد حق التصويت اللحظة التاريخية والفرصة السياسية للأمير الرئيس لويس نابليون بونابارت، الذي لم يتردد في استغلالها، عندما جعل من نفسه مدافعا عن حق الاقتراع العام، حيث سيقوم على إثر ذلك؛

بالسعي نحو تغيير قانون الولاية بعد انتخابه بوقت قصير

حل الجمعية الوطنية ومجلس الدولة في 2 دجنبر 1851

استدعاء الشعب للاستفتاء قصد تخويله حق وضع دستور جديد، يطابق الإصلاحات المعلن عنها في نفس اليوم، وذلك من أجل شرعنة الانقلاب الدستوري الذي قام به

انقلاب فوقي دون أن يصطدم بأي مقاومة جدية في باريس

احتفظ الرئيس لنفسه بحق تعيين أعضاء مجلس الشيوخ والحكومة وكبار الموظفين في أجهزة الدولة المختلفة كمجلس الدولة، ومحكمة العدل العليا، وطبعا الوزراء.
فُتح له المجال ليؤسس الإمبراطورية الثانية وليصبح حاملا للقب الإمبراطور نابوليون الثالث.

رابعا؛ تفسير الانقلاب الفوقي على «الدستور” وعلى “الجمهورية الثانية”

لم يدم تطبيق دستور 1848 إلا فترة زمنية قليلة انتهت بالانقلاب الذي تم يوم 2 دجنبر 1852 الذي أعلن معه عن قيام الامبراطورية من جديد. وإذا كان البعض قد حاول تفسير حدوث هذا الانقلاب بالفصل الجامد للسلط الذي تم الأخذ به والذي لم يُمكن من إيجاد حل للصراعات التي كانت قائمة بين الرئيس والبرلمان حيث تم البحث عن توازن بين السلط من خلال الفصل بينها واستقلالهما عن بعضها البعض، وليس من خلال التعاون بينها وتأثير كل واحدة في الأخرى، فإنه في الحقيقة، وعلى غرار ما كان سائدا في عهد حقبة حكومة المديرين (حكومة ثورية بأمر الواقع 1795-1799)، فإن وضعية القوى السياسية هي التي تفسر عدم أداء المؤسسات التي أقامها النظام لوظائفها. الجمهورية الثانية كانت ظاهرية التناقض لأنها جمهورية بدون جمهوريين. الأغلبية داخل المجلس النيابي كانت تعود الى الملكيين المعتدلين ذووا الاتجاه الأورلياني أي أولئك الذين ساندوا لويس فيليب قبل ثورة 1848.

وقادهم خوفهم من الثورة الاشتراكية إلى التصويت على قانون يقيد الاقتراع العام، ومن جهة أخرى كان البرلمان بيد الملكيين، والحكومة بيد البونابرتيين، مما جعل من الواضح في ظل هذه الشروط أن تكون الجمهورية آيلة للسقوط، فكما قلنا لم تكن أي سلطة تتوفر على وسيلة ضغط اتجاه الأخرى.

تونس وإعادة توليد “أزمة الشرعية” باسم “الشرعية” 

قد يكون من أعوص مشكلات شرعية الاجتماع السياسي العربي – دولة ونظاماً سياسياً – حالة التماهي، أو التداخل التلفيقي، بين الصعيد العام، الجامع، المجرد والمتعالي، الذي تمثله الدولة، وبين الصعيد السياسي المفتوح على المباينة في الرأي، والمنافسة في المصالح، الذي تمثله السلطة والنظام السياسي !

فالغالب على مجتمعات العرب السياسية “أن يختزل النظام فيها الدولة”، وأن لا تجد الدولة تجسيد مؤسسي ومادي لها غير النظام الحاكم !، وتبدأ المشكلة من هذا الباب؛ إذ تتحول كل هزة تعرض للنظام السياسي زلزالاً يتهدد أركان الدولة بالتداعي، ويصبح “الانقلاب على السلطة”، أو “الثورة على النظام القائم” شكلاً آخر من انقسام الدولة والكيان، ومناسبة لإخراج ما في جوف البنى الاجتماعية من انقسامات إلى سطح « المجال السياسي » !

على شاكلة الأزمة الجمهورية الثانية الفرنسية، حيث شكل خطر إقامة ديمقراطية اجتماعية أخذت شكل المشاغل الحكومية، وطُرح موضوع حق العمل خلال صياغة دستور 1848 بعد ثورة شباط 1848، وأمام التلويح ب”خطر الحمر” أي الجمهوريين الراديكاليين والاشتراكيين، الشيء الذي أثار مخاوف الطبقة البرجوازية نفسها وبدى لها أن “لويس بونابارت” هو المنقذ وبه انتهى انقلاب هذا الأخير دون أن يصطدم بأدنى مقاومة جدية في باريس، قلت؛ على شاكلة هذه الأزمة تحضر اليوم الأزمة التونسية:

من جهة أولى، وفي سياق الأحداث الأخيرة، تحضر الأزمة من خلال “أزمة التصور”، تصور الرئيس قيس سعيد، الذي سعى من خلال “انقلابه الفوقي على التعاقد الدستوري، تعسفا وتعطيلا، انتصار لفهمه “الرئاسوي” المزاحم للطابع البرلماني للنظام، حيث أجهز على الشرعية الدستورية وعلى منطق الإرادة العامة وتمثلها؛
ومن جهة ثانية، أزمة تصور فئة المعارضة والنخب الحديثة في تعاطيها مع الوضع، والتي انحصر اهتمامها وتفكيرها حول خطر “الإسلام السياسي” المتمثل في انتقال “الحركة الإسلامية من المعارضة إلى السلطة، وضرورة وضع حد لانتعاشه وامتداده على حساب الإجهاز على الأسس الديمقراطية، بل وحتى بحرق الوثيقة الدستورية نفسها.

في مقال نشر على الجزيرة نت بتاريخ 11/2/2014 بعنوان “لمحة عن النظام السياسي الجديد لتونس” كشف قيس سعيد، منذ اللحظة الأولى بعد صدور الدستور، بصفته أستاذا للقانون الدستوري، عن تصوره حول طبيعة النظام السياسي حيث اعتبر أن النظام السياسي التونسي “جاء نتيجة توافق واسع داخل المجلس التأسيسي (البرلمان)”، وأنّ “هذا التوافق ترك بعض الصلاحيات غير واضحة بالنسبة إلى رأسي السلطة التنفيذية مما قد يخلق أزمة بينهما”؛. وأضاف قيس سعيد، في تلك الفترة، على أن “النظام السياسي الذي تمّ بيان أركانه في دستور 2014 إبان صدوره، “لا يمكن في الواقع تصنيفه بسهولة”، و أنّه “نظام له خصائص تميزه عن غيره؛ فالنظام السياسي وإن كان “يبقى فيه الثقل داخل الحكومة” فإنّه لم يأخذ في الحسبان الأزمات التي قد تظهر داخل السلطة التنفيذية، وأنّ الاختلاف في تأويل بعض الصلاحيات والمسائل المتداخلة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة “قد يؤدي إلى تعارض في المواقف وإلى تعطيل دواليب الدولة حين يرفض كل طرف موقف يتبناه الطرف الآخر”.

اتهم الأستاذ الدستوري يومها الأطراف السياسية أنها لم تعمل على إقامة توازنات جدية بقدر محاولتها ” افتكاك” صلاحيات معينة حسب ما يتوافق مع رؤاها السياسية وقد انتهت هذه المحاولات بإضافة بعض الصلاحيات لرئيس الجمهورية ليبقى مركز الثقل الحقيقي بيد الحكومة. وبين سعيد أن الاختيارات الغامضة والسلبية والتي يمكن أن تصعب مهمة تحديد النظام السياسي هي التنصيص في بعض الفصول على حل بعض المسائل ” بالتشاور بين رئيس الحكومة ورئيس الدولة” وعدم التنصيص على كيفية حل الإشكال إذا لم ينجح التشاور بين الطرفين. وأكد أن هذا الامر سيكون له، إذا حصل تعارض بين الرئاستين، أثر سلبي على مؤسسات الدولة خصوصا عند اقتراب المواعيد الانتخابية.

وكان من الطبيعي أن ينتصر أستاذ القانون الدستوري بعد أن أصبح رئيسا لتصوره “الرئاسوي “خصوصا بعد أن فاز بنسبة عالية هي الأولى من نعوها بعد الثورة والتي قاربت 78 بالمائة، وهي نسبة ستتحول فيما بعد إلى وسيلة قوية جعلت من سعيد رئيسا غير قابل للمزاحمة بحكم شرعيته الشعبية؛ وهو ما حصل مساء يوم 25 جويلية حيث اجتمع بكبار الضباط العسكريين والأمنيين وأعلن مشروعه الذي ينطوي صراحة عن جمع كل السلطات في يده بما في ذلك السلطة القضائية عن طريق توليه مهمة النيابة العامة، والأكثر من ذلك تأسيس لما يعرف ب”الفوق الدستورية” من خلال الأمر الرئاسي رقم 117، وخاصة الفصل 20 من الأمر الرئاسي، والذي ينص على  يتواصل العمل بتوطئة الدستور وبالبابين الأول والثاني منه، وبجميع الأحكام الدستورية التي لا تتعارض مع أحكام هذا الأمر الرئاسي”، بمعنى، توقف العمل بالدستور في حالة مخالفة الأمر الرئاسي، بمعنى أن الأمر الرئاسي أصبح “فوق الدستور”.

ومن جهة ثانية، هي أزمة كشفت بالملموس الأزمة العميقة في جسم المعارضات والنخب الحديثة، فئة قررت اللجوء، منذ وصول حزب النهضة إلى السلطة، إلى مختلف الأشكال الاحتجاجية لإرباك حكومة الترويكا بقيادة النهضة، ومنعها من العمل في ظروف طبيعية، إذ منذ البداية رفضت بعض أحزاب المعارضة المشاركة في الائتلاف الحكومي، بل واتجهت إلى تنظيم ما يسمى ب”اعتصام الرحيل”، الذي شاركت فيه مختلف مكونات المعارضة، بما في ذلك حزب نداء تونس الذي أسسه الباجي قايد السبسي.

هي أزمة، في رأينا، تتمفصل على أزمة النظام السياسي لتوليد أزمة الشرعية السياسية العامة، وأن الانتقال السياسي الذي عرفته تونس لم يفتح لحد الآن طريقا لميلاد الفلسفة والثقافة  الديمقراطية، مثلما كنا وما زلنا نأمل، وإنما سيشكل إطارا جديدا لإعادة إنتاج التأزم السياسي عينه، والأنكى أن يُعاد توليد أزمة الشرعية باسم الشرعية ؟

سيناريو الخطوة المتبقية أمام الرئيس قيس سعيد

لكي تكتمل حلقات التأسيس للمنطق الجديد “أنا الدستور والدستور أنا”، وبالمنطق التعسفي على الدستور وبمسلسل “الانقلاب على الدستور” يذهب نحو اكتمال الحلقات، نقول، وبمنطق تفكير الرئيس قيس سعيد، المنطق الذي يعيد نفسه، لم يتبقى له إلا خطوة واحدة، خطوة الاتجاه نحو المبادرة والمطالبة بتعديل دستوري يكون الهدف منها “طمس مجمل خصائص ومعالم “الطابع البرلماني” في الوثيقة الدستورية، والرجوع إلى النظام الرئاسي ومحاولة  التأسيس أكثر ومركزة السلطة أكثر في يد الرئيس.

وكعادته، بمنطقه المكشوف، سيبحث الرئيس عن “التخريجة” و”الفتوى” و”الشعار” الدستوري للمطالبة بهذه الخطوة، وبه سيعود إلى الفصل 143 من الدستور الحالي الذي يعطيه حق المبادرة في اقتراح تعديل دستوري؛ لكن، بالمقابل، المسطرة تتطلب دستوريا عرض “مبادرة التعديل على المحكمة الدستورية”، وبما ـأن المحكمة الدستورية لم تنصب بعد، بل حتى الهيئة المؤقتة المكلفة بالمراقبة الدستورية تم تجميد عملها، وعليه سيقوم الرئيس قيس سعيد، في خطوة مكشوفة أيضا، لعرض التعديل على الاستفتاء بشكل مباشر، وهو ما ينص على عليه الفصل 144 من الدستور لكن بمفهوم آخر، حيث أن المسطرة الصحيحة تتطلب موافقة ثلثي نواب مجلس الشعب، وبما أن هذا الأخير تم تجميد عمله، فإن الرئيس سيذهب مباشرة إلى الاستفتاء.

وبموجب تفكيره ومنطقه، نقول أنه من المفترض أن يقوم الرئيس بالخطوات التالية؛

تشكيل لجنة التعديل الدستوري سيسميها ب “لجنة الخبراء والفقهاء”، تعمل تحت مسؤولية الحكومة الجديدة ويجعل على رئاستها أستاذا للقانون الدستوري ليحاول إعطائها الشرعية؛

ثانيا، ستعرض اللجنة مشروعها الجديد على الرئيس وعلى الحكومة الجديدة، الحكومة الفاقدة الشرعية

ثالثا، سيتم عرض مشروع التعديل على الاستفتاء بشكل مباشر

وبهذه الخطوة المفترضة، سيحاول أن يواجه الجهة المعارضة من الداخل والتي تتهمه بالانقلاب على الدستور، وبالتالي سيسعى لصناعة وشرعنة وثيقة جديدة، كما سيسعى بهذا التعديل إلى الإجابة على النداء الخارجي والدولي باحترام الدستور، والأكيد التعديل الجديد، المفترض سيمنح له سلطة مطلقة باسم المرحلة الانتقالية.

وصحيح أن هذا الرأي الأخير يبقى مجرد تخمين استباقي لما تعرفه الأزمة التونسية من أحداث، لكنه بالمقابل نابع من الخطوات المكشوفة التي عرفها وخبرها التاريخ الدستوري وخصوصا تاريخ الأنظمة السياسية الدستورية الكبرى.

*  د. عبدالحق بلفقيه  أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية بجامعة سيدي محمد بن عبدالله، المغرب، فاس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *