وجهة نظر

قراءة في رواية “ما تبقى لكم” لغسان كنفاني

إننا لا نكتب إلا عن الأشياء التي تؤثر فينا وتترك في شخصيتنا آثارا des traces فلسفية أو نفسية أو بالكاد أدبية وتجعلنا نوليها الأهمية القصوى لنمنحها بعضا من وقتنا حتى نقرأها أولا فنفهمها لنقولبها في قالب جديد قالب يخصنا نحن بمعنى يخص القارئ، فنحن عندما شيئا ونكتب عنه لا نكون قد قرأناه قراءة نقدية من أجل ترصد مكامن قوته ومواطن ضعفه رغم أن في قلب الكلمتين أو العبارتين معنى القلب الحقيقي للمفهوم، بل نقرأه على ضوء ما ترك لنا الكاتب من مساحة للفهم والتأويل وفق سياقنا نحن لا وفق سياقه هو. وهنا تضاربت المواقف في الهيرمونيطيقا لتفتح المجال لدخول الذاتي في نص كان في القريب وحدة لا يمكن أن نخترقها أو ننزلق داخلها لنفصل قولها. كان النص يُقرأ كما هو وحدة متكاملة تخص الكاتب ولا مساحة فيها للقارئ لولا أن ظهرت فلسفة التأويل التي فتح باب النصوص على مصراعيها للقارئ كي يفصل فيها ويقول قوله رغم أن هناك من تحفَّظ عن الأمر وقال عكسه ودافع عن ضرورة احترام النص وقرائته على ضوء سباقه التاريخي دون إدخال الذاتي أو حتى إعطاء القارئ فرصة التعبير عن ذاته من خلال هذا النص أو ذاك.

دعونا نبدأ الآن قولنا في الرواية القوية للكاتب الفلسطيني الرائع غسان كنفاني التي اختار لها عنوانا قويا يمكنه أن يثير أي كان من أجل فتحها وقراءة ما بداخلها “ما تبقى لكم” بمعنى هذا الذي تبقى لكم، أو بمعنى السؤال الاستنكاري الذي جاء في وسط الرواية “ماذا تبقى لكم؟” أو بالأحرى ” ماذا تبقى لي؟” “ماذا تبقى لنا.”.
رواية بهذا العنوان تطرح سؤال أنطولوجيا عميقا يبحث في سبب الوجود أو بالكاد البقاء على قيد الوجود.

سيبقى لنا أن نغوص في النص الروائي الراقي ونحن نساير الشخصيات التي تبدو منذ الوهلة شخصيات عميقة ذات أبعاد أنطولوجية كبيرة من قبيل الأشخاص ( مريم، حامد، وزكريا..) والأزمنة في( الساعة الحائطية، الساعة الصغيرة…) والأمكنة ( الصحراء، السرير..) كل هذه الشخصيات تجعلنا نغوص في نص فريد من نوعه وما يزيده تفردا حديث غسان كنفاني في مقدمة عمله عن عملية الانتقال من حدث إلى آخر دون أي رابط أو تقديم أو توطئة أي النقل السلسل للوصف والسرد والحكي بين الأمكنة والأزمنة لدرجة أن القارئ قد يتيه أحيانا بين محاكي والمتحدث وموضوع الحديث.

ينطلق الكاتب في عمله الذي نحن بصدد تقريبه أو فهمه من تقديم شخصياته وتقريبنا منها فمريم أخت حامد التي هاجرت رفقة أخيها وخالتها من الأردن تركت أمها هناك، تعيش رفقة أخيها الأصغر حامد وزكريا مدرس صديق حامد الذي تعرف عليه في المعسكر والصحراء الحدودية بين فلسطين والأردن والساعة الحائطية التي لا تشتغل إلا إذا كانت مستقيمة وموضوعة بطريقة صحيحة وكأنها تعكس واقع التاريخ، والمفاجأة أن أم حامد مريم الغائب الحاضر في أحداث الرواية.

تحكي الرواية أن مريم أخت حامد قد وقعت في حب صديقه النتن زكريا و ارتبطت معه في علاقة غير شرعية نتج عنها حمل أدى بهما لإعلان زواجهما خوفا من الفضيحة التي ستلاحقهما معا بعد أن تنتفخ بطنها إلا أنها وبمجرد أن عقد عليها وإعلان زواجها من زكريا فقدت أخاها حامد الذي غادر البيت في اتجاه الصحراء قاصدا الهجرة إلى الأردن، هجرة تقول عنها مريم وزوجها أنه هروب من مواجهة واقع فرض عليه ليتجه صوب الأردن بحثا عن أم تحتويه هو المردد دائما ” ماذا لو كانت أمك هنا” ذهب بحثا عن أمه التي ستنصفه أو بالكاد ستحضنه بعد أن فقد آخر حضن له في غزة بعد أن غادرت خالته سريره في اتجاه موطنها الأخير ، قبرها الذي سترقد فيه إلى الأبد، ورحيل اخته أو ضياعها بين أحضان زكريا زوجها حديث العهد. مغادرة حامد للبيت في اتجاه الصحراء جعل مريم تعيش تائهة بين عشق يكبر طفلا في بطنها وأخ غادرها إلى الأبد رغم أنها تنتظره ولو في نشرة إخبارية في جريدة.

مريم وهي تنتظر أن يعود حامد من الصحراء، تنتظر أن تنجب حامد من بطنها كتعويض عن آخر فقدته في لحظة غضب لم تطلب منه البقاء، بين حامد تنتظره كلما عاشرت زكريا فوق سريرها، وآخر تسمعه في عقارب الساعة الحائطية وهي تدق، تدق..

وهي تعيش هذا التيه في غفلة الانتظارات تسائل نفسها بعد توالي الفقدان من أبيها إلى أمها فخالتها فأخيها، لتفكر في فقدان جنينها كما طلب منها ذلك حامد في ليلة زفافها بأن تحترم ذاك الجنين وتتخلص منه، ما جعلها تعتقد في لحظة معينة من أحداث الرواية أنها ستفقد زكريا أيضا بمجرد انكشاف أمر زواجها السري على زوجة ثانية أنجب منها خمسة أطفال آخرون، كل هذا جعلها تطرح سؤال ماذا تبقى لي بعد أن غادر الكل وأضحت كما قالت “مجرد ممر يعبره زكريا جيئة ومشية كي يفجر بركان منيه حين يعود من مدرسته أو في طريقه إليها؟”.

رواية رائعة تلخص سؤال كل فلسطيني يضع فلسطين في صورة مريم المغتصبة المطالبة بأن تعيش مع مغتصبها تاركة حبل الود من أخيها الذي اختار القطيعة للأبد باحثا عن أمه الأمة العربية التي لا يعرف أين توجد بالضبط وما مصيرها؟ رواية تعطي للصحراء مكانة قوية وهي لا تمثل إلا الشرق الأوسط الشاسع كصحراء ممتدة لا تنتج شيئا في قضية فلسطين، وساعة تشير لتاريخ فلسطين الذي لا يمكن للمغتصب حسب أحداث الرواية أن يوقفه على الإطلاق رغم أن كل الحاضرون على كتابته أو وضع الساعة في الحائط غادروا البيت.

نص أدبي قوي يمكن للقارئ أن يعيش معه تفاصيل أدبية قوية وأن يستمد منه سبب وجوده وترافعه في الحياة خاصة وأنها رواية وجودية عميقة تسائلنا جميعا ماذا يتبقى لنا بعد أن نفقد كل أسباب العيش ونتمسك ببصيص الأمل ولو في حمل نتتظره أن يكتمل، في مشروع يمكنه أو يمثل لنا الأمل الذي فقدناه.

*يوسف اليوسفي، أستاذ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *