منتدى العمق

بعض تمظهرات الغربة في نصوص “طويل هذا المنتصف” للمبدع محمد أعروش

“طويل هذا المنتصف” مولود إبداعي بكر للصديق المبدع محمد أعروش، كتاب من الحجم المتوسط من ثمانين صفحة، يكنز بين دفتيه نصوصا يصل تعدادها إلى خمسة وثلاثين نصا، إلى جانب الإهداء.

مؤلف يمكن أن نستبق التحليل ونقول بشأنه: إنه يتضمن نصوصا تنزع إلى قصيدة النثر أو القصيدة القصة، إنها باكورة أعمال المبدع محمد أعروش، التي وإن كانت كذلك، فإنها تعطي الانطباع إلى نوع من النضج والاختمار خاصة على المستوى المضموني، الذي سنخصه بنوع من التفصيل في ما تعلق بتيمة الغربة وتفرعاتها.

لكن قبل الخوض في سير أغوار الغربة في هذا المنتوج الإبداعي، نقف بداية عند عنوانه: “طويل هذا المنتصف” الذي جاء عبارة عن جملة اسمية منزاحة تركيبيا، مفتتحة على غير العادة بالخبر “طويل” ثم اسم الإشارة “هذا” مبتدأ مؤخر، يليه البدل “المنتصف”. وعلى مستوى الدلالة يبدو أن العنوان يحيل عموما على الاستغراق الزمني في حيز محدد في المنتصف فما بالك بالبقية، استغراق يحيل على الغربة في الزمن وعدم الإحساس بالاستقرار، وهو تعبير لن نجده، حقيقة، إلا عند من عايش تجربة معينة تفتحت على مرارتها وردة أدبية، خاصة عندما نقلب العنوان نفسه ونجد اسم الإشارة “هذا” مصدر به “المنتصفُ” الذي أراده المبدع كشيء مادي ربما استخفافا به نكاية في طوله، أو تعبيرا عن ثقله الكبير على روحه التي تجابه كل أنواع الضنك والضيق في محيط مشبع بضروب القحالة.

وحتى لا نتيه أكثر مع العنوان، نعود إلى تيمة الغربة في هذا المنجز الإبداعي لمبدعنا محمد أعروش، وسنقف عند بعض تفرعاتها.

1- الغربة في المكان:

تطالعنا منذ الوهلة الأولى إشارات ساطعة إلى المكان في هذه النصوص بدءا بالإهداء الذي يفاتح فيه المبدع الأطلس النابض بالحياة ويطلب فيه الصفح والعفو من مدينته. يقول:

إلى الأطلس النابض بالعشق والحياة
إلى المدينة التي تغفر لي زلاتي الكثيرة
أهدي هذه النصوص.

إنه فرش أولي أشبه ما يكون بتحية ود بدئية، عسى المكان لا يخاصم المبدع وهو يشرحه ويعدد زلاته المتواصلة تجاهه.

إن المبدع يعلن عن عدم الاستقرار في المكان في النص الثاني في الصفحة السابعة بعنوان: “في حلم ما” إذ يقول:

راودتني فكرة جدية. أن أهجر قومي لأنهم لم يؤمنوا بي
أو آوي إلى مكان أطل منه على
المدينة لأحرسها من نوم مفاجئ..

إنه يعلن عن هجر قومه والانعزال بنفسه لكن مع حرص شديد على المدينة خوفا من ضياعها وضياع قيمها بين قوم لا يعيرون للمدنية أي اهتمام، يبدو ذلك من جحود هؤلاء القوم وعدم إيمانهم بما يدعو إليه المبدع.

وتترسخ غربة المكان لدى المبدع في نص “لن أنتظر أحدا” بالصفحة التاسعة لما قال:

سأجرب كيف تشرب القهوة برتابة ومتعة
وكيف تستطيع سيجارة واحدة
أن تغير شكل المدينة
وصورها الموسمية.

ويحضر المكان كطلل موشوم بالغربة في نص “غربة المدينة وحالة عشق غريبة” إذ يقول مبدعنا المغترب:

رأيته مرة في مقهى غريب، يرتب طاولة بمقعدين ويجلس وحيدا.

إن المبدع يصنع تماثيله بدقة عالية …. يتذكر في غربة المكان ما راح من علاقات إنسانية وما ذبل من ورود بنفسجية ذات عصف فادح.

وتصل غربة المكان ذروتها في نص “لا مكان للمكان في مدينتي” الصفحة العشرون. يقول:

في مدينتي… لا مكان للمكان بين الأمكنة
البيوت القديمة من كثرة الانتظار صار لها لون الاغتراب
تنعي المسافر الذي لم يسافر وترثيه بموسيقى الصباح.
…..
في مدينتي… السماء شاحبة مثل وجه أرملة فقدت زوجها.

إنها محاكمة لكل تفاصيل المدينة في ما يشبه المكاشفة، يكاشف سكاراها وأحياءها المتشابهة أسماءها ومثقفيها وفقراءها وأغنياءها وسياسييها.

إلى أن يقول:

في مدينتي .. فقد الخبز لونه الأصلي. وذابت حسرات الكادحين في أنابيب المياه. صرنا نشرب ملحا ممزوجا ببكاء العاطلين…

إنه نبض مجتمعي صارخ.. يحاكم كل تفاصيل البؤس على أمل يتولد من رحم الغربة ويمحو كل معيقات العودة إلى حضن الإنسانية…

2- الغربة في الزمان:

إن الحديث عن التجربة الإنسانية بشكل عام لا بد أن يستحضر معطى الزمان بشكل لافت إلى جانب معطى المكان، وهذا ما يتجلى في المنجز الإبداعي للمبدع محمد أعروش، حيث تكتنز نصوصه الغربة في اللحظة، وهو ما يكشف عنه في أول نصوصه في الصفحة الخامسة بعنوان: “طويل هذا المنتصف”، حيث إن العنوان نفسه تتبدى فيه هذه الغربة القاتلة التي يغذي ثقلها طول المنتصف حد الاستغراق. يقول في النص ذاته:

طويل هذا المنتصف.. وشامخ مثل الحنين في الذاكرة
وطن يمسي على أمل
يجهز الأحلام للساعة العاطلة عن ضبط توقيت الصباح
وجه دنسته الملامح الصامتة … وأنكرته المرايا
يطل من شرفة الحلم ويقول هامسا
اليوم.. هو نفس اليوم الذي نودعه وننسى خيبة الأمس لنعيدها في اليوم الجديد…

هذه الغربة لدى المبدع وإن كانت تتسم بالرتابة زمنيا كما يصرح بذلك فإنها على الأقل تبني أملا، على أنقاض أمل الوطن الذي يتجدد كل مساء على أمل إشراقة الصباح ولو أن ساعته معطلة.

وفي نص “لن أنتظر أحدا” على مستوى الصفحة التاسعة يستعرض المبدع رتابة الأيام الموشومة بالانتظار اللامجدي حد التصريح بتغييب هذا الأمل أمل الانتظار. يقول:

اليوم الذي سيأتي لن أنتظر فيه أحدا هكذا فعلت بالأمس..

إلى أن يقول:

الانتظار لعنة الذين يتخذون من مرافئ الذاكرة أمكنة لهم
هناك يشهدون كيف تغتال لحظات الفرح بخيبة صادقة.
لم يعد بوسع المساء أن يحمل آهات المتعبين من الصمت
والغياب هو الآخر يشعر بالتعب
من كثرة ضجيج الأيام التي تشبه نفسها
قالت النادلة بعد صمت طويل
سيأتي يوم جديد ليعيد قصة يوم مضى
ويمشي على خطاه كأنه نفس اليوم الذي ودعته
وستنتظر أحدا..

وتزيد خيبة المبدع في نص بعنوان “خمرة الأحلام” بالصفحة الرابعة والعشرين، خيبة تتمدد زمنيا لتستبيح حرمة الليل وتلقي بظلالها على كل الأمكنة. يقول:

أستيقظ منتشيا بخمرة الأحلام الضائعة بعد فجر الأمنيات
وأنا أكثر إصابة بداء الاحتمالات التي لا تشير إلا للفقد والغياب
أفتح نافذتي التي تطل على الفراغ لأرى ابتسامة الحبيبة
في وجه وردة تتسلق جدارا منسيا لتزهر بعيدا
لقد أدمنت مخاطبة طيفها بعدما رسمت شرفة
تليق بإطلالتها في آخر الليل….

وفي نص آخر بالصفحة الثانية والأربعين بعنوان: “آخر الليل” يزيد ضنك وضيق المبدع وثقل الزمان عليه. يقول:

آخر الليل.. لا صوت ولا همس ولا هم يحزنون
الفراغ منتشر في كل ذاكرة تعمها الفوضى والاحتلال
النوم نسي عناوين العيون المصابة بالأرق وصار منفيا في الوطن الغريب، حيث الشوارع كلها تمنح حنينها بالتقسيط
لكل عابر يبحث عن نقطة العبور
في مكان ما، وجدتني.. وحين مددت يدي لأعانقني لم أستطع.

إنه بوح إبداعي بالغربة والضياع التي تعيشها هذه النفس. حيث ثقل الزمان ورتابته يلقيان بثقلهما على المكان وعلى كل مشاعر هذا الإنسان الضائع.

على العموم، الحديث عن الغربة في نصوص المبدع محمد أعروش يحتاج إلى حيز كبير من الزمن، للوقوف عند تفاصيل هذه الغربة، لكن ما ينبغي أن نشير إليه قبل إنهاء هذا المداخلة هو خاصية التبئير لتيمة الغربة في هذه النصوص الجميلة، حيث إن المبدع قد لامس ما تعيشه العلاقات الإنسانية والمدنية من ترد غير مسبوق، كشف عن الغربة والضياع في الحيزين الزماني والمكاني كإطارين عامين حاول المبدع أن يبئر فيهما بوحه بشكل لافت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *