وجهة نظر

صرامة المدرب.. هل حاليلوزيتش على صواب!؟

أعرف أن ما في هذا المقال سوف يُلاقَى بالكثير من عدم التفهم، لأنه يسبح ضد تيار جارف تدفعه حمأة الغضب والتعاطف. وفي وسط العاصفة الهوجاء لا يجد العقل من يسمع له.

من حق الشارع أن يغضب، ومن حقه أن ينتقد؛ ولكن ليس من حق الشارع أن يُسَيِّر. وعندما يُذعن المسيرون للجمهور، يصبح الشارع هو المسير؛ وتبدأ النكسة في التغلغل داخل الجسم.

ولقد عودنا الغوغائيون من جمهورنا إذا تأخر تسجيل الهدف لخمس دقائق فقط؛ أن يهاجموا فريقهم الوطني، ويأخذوا في تشجيع الفريق الخصم؛ هذا هو جمهورنا.

والخلل هنا ليس في الشارع؛ ولكن الخلل عند انصياع المسيرين لرغبة الشارع، وكذلك في نزولهم عند رغبة بعض الصحافيين. بل الأدهى أن المسئولين السياسيين كذلك؛ الذين ليسوا في عير الكرة ولا في نفيرها، قد انساقوا وراء عواطف الغوغاء وأخذوا يتدخلون فيما لا يعنيهم؛ وكأن الشارع هو المسير.

يجب على المسير ألا يسارع إلى اتخاذ أي قرار وسط حمئة الغضب. فالقاضي في عرفنا الإسلامي يُنصح بألا يَقضي وهو غضبان. تجب دراسة الأمر من كل جوانبه، وعدم العودة إلى ما درجنا عليه دائما من جعل النصر شجرة تخفي غابة من المشاكل والاختلالات، والهزيمة ذريعةً لهدم كل شيء والبدء من جديد؛ كما لو لم يكن لنا أي إنجاز نبني عليه. ولطالما هدمنا ما بنيناه في لحظة غضب لنعيد البناء من جديد على نفس الأسس الفاسدة في الغالب.

علينا أن نطرح على أنفسنا هذا السؤال: لماذا فشلنا دائما في تحقيق أي نتائج تذكر مع توفر المغرب على أجيال من النجوم الذين لطالما حلمت منتخبات كبرى بالتوفر ولو على بعض منهم؛ بينما حققت هذه المنتخبات نتائج باهرة بلاعبين مستوياتهم أقل بكثير من مستويات ما توفر لنا من مواهب؟

في بداية الألفية؛ كان اللاعب المسمى “ميدو” نجمَ نجوم المنتخب المصري؛ وفي إحدى مباريات منتخب مصر في كأس إفريقيا سنة 2006 قرر المدرب تغييره؛ غادر “ميدو” الملعب وهو يرفع يديه احتجاجا على قرار المدرب؛ لم يَدَّعِ الإصابة، ولا شتم مدربه أو استهزأ به في شبكات التواصل الاجتماعي، أو اشترط على مدربه الاعتذار حتى يقبل بأن يعود إلى المنتخب؛ فقط أبدى عدم رضاه عن تغييره فعُوقِب بأن أُقفلت في وجهه أبواب المنتخب إلى الأبد. اعتذر عدة مرات، واستقبله أصدقاؤه الصحافيون في عدة مناسبات ليبدي ندمه؛ تماما كما يحدث عندنا؛ ولكن أبواب المنتخب ظلت موصده في وجهه إلى الأبد. ربما يكون هناك من يعتبر هذا العقاب قاسيا؛ ولكن؛ العبرة بالخواتيم وبالنتائج؛ فعندما عوقب نجم النجوم؛ رأينا كبار اللاعبين الآخرين من نجوم المنتخب المصري يجلسون في كرسي الاحتياط في احترام لقرارات المدرب؛ حتى ذلك النجم الذي فشل في الاحتراف بإنجلترا وتم الاستغناء عنه من الدوري الإنجليزي لعدم انضباطه؛ رأيناه يجلس في كرسي الاحتياط منضبطا في أدب واحترام (تماما مثل ذلك الولد المهذب الذي كنا نرى صورته في كتب المطالعة في الثانية ابتدائي). لم يتدخل أي مسئول في الدولة أو غيره لصالح “ميدو” مع أنه كان نجم النجوم حينها؛ والنتيجة كانت ثلاثة ألقاب متتالية لكأس إفريقيا للأمم بلاعبين أغلبهم متوسطو المستوى. بينما كنا نُقصى من الدور الأول ونحن نتوفر على لاعبين أفضل بكثير من لاعبي مصر في ذلك الوقت.

وفي سنة 1998 والمنتخب الإنجليزي يستعد للمشاركة في كأس العالم؛ غادر نجم المنتخب الإنجليزي الأول “بول غاسكوين” المعسكر؛ وعاد في منتصف الليل وهو في حالة سكر؛ فقام المدرب “غلين هودل” بطرده إلى لندن في أول طائرة؛ فهل تدخل أحد المسئولين لإعادته؟ لا؛ بل إن الوزير الأول البريطاني حينها “طوني بلير” صرح فقط بالقول: «أنا معجب بهذا اللاعب، وكنت أتمنى رؤيته مع الفريق». ولكنه لم يتدخل لإرجاعه.

وأما عندنا؛ ففي سنة 1978 طرد المسير المقتدر المهدي بالمجذوب خمسة لاعبين لأنهم أساؤوا إلى سمعة بلدهم وهم في “غانا” للمشاركة في كأس أمم إفريقيا التي كان المغرب المرشح الأول للفوز بها؛ ولكنهم في استهتار بواجبهم تسللوا إلى غابة مجاورة لمحل إقامتهم وقاموا بأفعال أقل ما يقال عنها إنها مشينة؛ فما كان من السيد بلمجذوب إلا أن ضحى باللقب الذي كان في المتناول عوض التضحية بسمعة الوطن. فقامت قيامة الصحافة المغربية؛ ليس على اللاعبين المسيئين؛ بل على المسير الذي عاقبهم؛ وكأن البلد الذي أنجبهم أصابه العقم بعد إنجابهم.

وفي نهائيات كأس العالم لسنة 1986؛ بعد أن كنا أول منتخب إفريقي يصعد للدور الثاني بفضل تلاحم اللاعبين وتضامنهم؛ صرح أحد النجوم لأصدقائه بالقول: «أَنَا اللِّي طْلّْعْتْكُمْ لْلدُّوزيام تور»؛ هنا انتهى التلاحم والتضامن، فهذه الكلمة لو قالها “مارادونا” أو “بلاتيني” حينها لتم إرجاعه إلى بلده في أول طائرة؛ ولكن مسئولينا عوض ذلك حاولوا أن يهدؤوا النفوس التي لم يكن ممكنا أن تهدأ لأنها مُست في كرامتها بإشعارها أنها لا شيء أمام نجم النجوم الذي تم تدليله؛ فما كان من أحد المدافعين إلا أن قال صرح قائلا: «أنا لن ألعب ضد ألمانيا لأنني أشعر بمغص في بطني؛ وانظر حينها ماذا ستفعل بمفردك أمام الألمان». ولعب الآخرون بدون حماسهم المعهود؛ وكان كل منهم يشك في تفاني الآخر؛ فما كان من صاحب القولة المسيئة إلا أن بذل جهدا غير مسبوق وكان رائعا أمام الألمان؛ ولكن هذا لم يكن كافيا في غياب التضامن المطلوب؛ فكان أن انهزمنا أما أضعف فريق مرعلى ألمانيا في تاريخها؛ لم يتمكن من بلوغ النهاية إلا لأنه واجه في نصف النهاية فريقا فرنسيا أنهكته مباراته أمام البرازيل في ربع النهاية؛ فقد كانت مباراة بسرعة جنونية وبأشواط إضافية متعِبة حد الوهن الكلي؛ وهذا التعب حدَّ الإرهاق أضاع على فرنسا الفوز بأول كأس للعالم في تاريخها؛ لأنها كانت تملك حينها فريقا قويا قادرا على ذلك؛ لو قابله فريقنا الوطني القوي حينها وهو في تلك الحالة من الوهن لفاز عليه؛ ولكن كلمة سيئة ومسيئة لم تنل ما تستحق من العقاب مكنت ألمانيا من هذه الفرصة بدلنا.

وفي مرة أخرى؛ ارتأى مدرب المنتخب المغربي ألا يعتمد على أحد النجوم كأساسي في مباراة ما. فرفض نجمنا الجلوس في كرسي الاحتياط وصعد إلى المدرجات؛ بل إنه حين عزف النشيد الوطني المغربي ظل جالسا يمد رجليه في عدم اكتراث؛ لدرجة أن شقيقه نبهه إلى ضرورة الوقوف احتراما للنشيد الوطني فهز رأسه استهتارا بواحد من أقدس مقدسات الوطن؛ ومع ذلك ظل المسئولون يستعطفونه للعودة إلى المنتخب؛ وظل هو يغلق هاتفه في وجههم بصلف؛ لأن هناك صديقا له من كبار الدولة يدعمه؛ فرض على مسئولي المنتخب ضرورة إرجاعه.

هذا غيض من فيض تدليل النجوم الذين لم نَجنِ معهم أي شيء؛ فقط تأسفنا على كون أجيال من كبار اللاعبين لم ينالوا من مرورهم في المنتخب خيرا.

شاهدت مرة “لايفا” للاعبَيْن من الفريق الجزائري الذي كاد وهو تحت قيادة “وحيد هاليلوزيتش” أن يقصِي الألمان ويترشح بدلهم للدور الموالي في مونديال 2014؛ حيث وصف أحد اللاعبَين وحيد هاليلوزيتش بالديكتاتور فأجابه رفيقه بالقول: «نعم؛ ولكننا كنا في الحقيقة في حاجة لذلك؛ فبفضل صرامته تمكنا من تلك النتائج؛ وإلا لما بلغنا حتى إلى كأس العالم في البرازيل رغم توفرنا على نجوم كبار».

لاحظوا أننا منذ مدة ونحن نشتكي من انعدام الانسجام والتلاحم بين اللاعبين؛ هذا الانسجام لم يحدث إلا في المباريات الأخيرة؛ وكان غائبا في حضور زياش؛ فاللاعبون عندما يشعرون بأنهم سواسية وليس بينهم نجم مميز يعامل معاملة تفضيلية؛ يقدمون كل ما لديهم بتفان وتلاحم؛ ولنا أن نتذكر الملاسنات التي وقعت بين بعض اللاعبين وبين الجمهور؛ عندما أخذ يصرخ مطالبا بنجمه زياش عقب إحدى المباريات؛ مما أشعر اللاعبين الآخرين ب “اﻟﺤﮕرة” فدخلوا في ملاسنات مع هذا الجمهور. وربما هذا هو ما دفع هاليلوزيتش إلى التعبير عن تأسفه لعدم الاستغناء عنه منذ مدة.

لا أنكر حاجة المنتخب للاعبيه المغضوب عليهم من المدرب؛ سواء زياش أو المزراوي أو حارث. ولكن شرط الاعتذار والانضباط. فبدون انضباط لا يمكن الحصول على فريق منسجم؛ والواقع أن زياش  و المزراوي لم يعتذر أي منهما؛ فقط أخذا في خرجتهما الأخيرة يرويان رواية أخرى لما حدث؛ فحق أن يقال لهما ما قاله زياش لمدربه: «عندما تتحدث فقل الحقيقة كاملة»؛ أما حارث فإنه تجاهل الأمر؛ فتجاهله المدرب.

أتركوا وحيد يعمل؛ فهو على الأقل له ميزة على من سبقوه؛ الذين كانوا يعملون فقط لأنفسهم بأن يحققوا باعتمادهم على الجاهز؛ نجاحات آنية للمدى القريب ترفع من حظوظهم لدى دول أخرى تغريهم بأجور وتعويضات خيالية؛ ثم يغادرون تاركين لنا الفراغ. أما وحيد فرغم أنه يعلم بأن عقده ينتهي في 2023؛ إلا أنه يعمل على المدى الطويل بتهيئة فريق للمستقبل؛ تماما كما فعل مع الجزائر التي هيء لها فريقا سوف يظل قويا للسنوات العشر القادمة على الأقل؛ فماذا ترك لنا “هرفي رونار” أو غيره إلا الفراغ؟ ووحيد يشعر كذلك بأن له دَينا تجاه المغرب؛ الذي فتح له الباب عندما درب الرجاء ليصبح مدربا عالميا.

لقد تصاعدت بعض الأصوات مطالبة بتغيير المدرب حتى تتسنى عودة النجوم؛ وبالتالي تكرار جني ما جنيناه من خيبات منذ سنيين توفرنا خلالها على نجوم أفضل منهم؛ ولم نجن خيرا ولا جنوا هم خيرا. إن الحل ليس في تغيير السائق ولا في تغيير الركاب، ولكن في إصلاح المنظومة. والسؤال الحقيقي هو: ما الذي جلبته الأموال الضخمة التي تصرف على كرة القدم عندنا في غياب استراتيجية واضحة، تهيؤها إدارة تقنية حقيقية بصلاحيات حقيقية؟ وفي غياب الانضباط اللازم الذي يبديه نجومنا في فرقهم الأوروبية ويغيِّبونه عندما يأتون إلى المنتخب؟

أما إذا ما استمر تدليل النجوم؛ فانتظروا الخيبات التي عشنا عليها لعقود رغم وفرة النجوم.

فعلينا أن نسأل أنفسنا؛ ماذا نريد هل فريقا قويا ونتائج خالدة؛ أم نجوما يسلوننا ولا فريق؟

إبراهيم الخشباني 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *