وجهة نظر

“الجنس مقابل النقط”.. الظاهرة الصامتة

الأصل أن تكون “النقطة” خاضعة لمعايير الموضوعية والمسؤولية والعدالة والمساواة والإنصاف وتكافؤ الفرص، حتى تكون مرأة حقيقية عاكسة لواقع حال الممارسة البيداغوجية، لكن أحيانا، قد يحدث أن تتدخل بعض المعايير الأخرى الخارجة عن نطاق المسؤولية والالتـزام وتكافؤ الفرص، تشكل انتهاكا جسيما لحرمة مهنة تعليمية، لايمكن تصورها إلا داخل مفردات الأخلاق والقيم والرقي والقدسية، ونقصد هنا ما بات يعرف إعلاميا بظاهرة “الجنس مقابل النقط”، في ظل ما تم تسجيله في السنوات الأخيرة من حالات في بعض الجامعات، أثارت زوبعة من الجدل في الأوساط التربوية والقانونية والقضائية والإعلامية والاجتماعية، كان آخرها القضية التي تفجرت قبل أسابيع في جامعة سطات، وعلى الرغم أن هذه الحالات تبقى “معزولة” ولم ترتق بعد إلى مستوى الظاهرة المقلقة أو الخطيرة، فحالات من هذا القبيل، لايمكن القبول بها قطعا، في مؤسسات تربوية مهمتها الأولى والأخيرة “التربية” و”التكوين”، وفي أوساط تربويين أو إداريين، يفتـرض فيهم السهر على صون التربية وتعزيز ثقافة المواطنة والقيم والأخلاق والالـتزام، لا انتهاكها وتدميرها. وإذا كان من الصعب الإحاطة بقضايا متشابكة الخيوط من هذا القبيل، خاصة في غياب المعطيات الدقيقة بشأن القضايا المسجلة هنا وهناك، لكن ذلك لا يمنع من محاولة النبش في تضاريس الظاهرة من حيث رصد بعض الأسباب المفسرة لها، وانعكاساتها التربوية والأخلاقية والاجتماعية، ثم توجيه البوصلة نحو بعض الحلول الممكنة التي قد تسمح بالقضاء عليها أو على الأقل كبح جماحها.

بعض الأسباب المفسرة للظاهرة :

تتعدد وتتقاطع الأسباب المتحكمة في الظاهرة، منها :

فتح مهنة التعليم أمام كل من هب ودب، دون أية شروط أو معايير دقيقة وصارمة.

الانحرافات السلوكية لبعض الأساتذة، الذين لايجدون حرجا في ممارسة التحرش والابتزاز، عبر إشهار سلاح النقطة مقابل الجنس.

الانحرافات السلوكية لبعض الطالبات اللواتي يشهرن أسلحة الإثارة والإغراء للإيقاع بعض الأساتذة المتهورين.

ضعف منسوب القيم والأخلاق في أوساط الكثير من الطلبة، الذين يرغبون في الحصول على النقط بأقل الجهود الممكنة، إما عبر ممارسة الغش الجامعي، أو عبر الرهان على تقديم الخدمة الجنسية لفائدة بعض الأساتذة مقابل الظفر بالنقط.

عقم منظومة التقويم التي لازالت تعطي أهمية قصوى للنقط على حساب الكفاءة، فمثلا بعض الماسترات، تضع شرط “الميزة” من أجل اجتياز مباراة الولوج، مما يقصي العديد من الطلبة الذين يتوفرون على معدلات متوسطة، وهذا المعطى يقوي الرغبة خاصة لدى بعض الطالبات المتهورات، في اللعب على ورقة الإغراء والإغواء لٌلإيقاع ببعض الأساتذة “ضعاف القيم”، سعيا وراء نقطة، قد تعبد طريق العبور إلى سلك الماستر، أو تضمن اجتياز مباراة توظيف، خاصة في ظل إشهار الكثير من الإدارات لورقة “الانتقاء القبلي”.

الرغبة في إرضاء الآباء والأمهات بنقط “غير بريئة”، في ظل ثقافة تربوية ومجتمعية سائدة، تؤمن بالنقط دون الكفاءة.

ضعف المستوى المعرفي والإدراكي لبعض الطالبات، اللواتي يفتقدن إلى الكفايات الضرورية التي تساعدهن على الاستمرار في الدراسة الجامعية، وبالتالي، يلجأن إلى طرق باب “الجنس مقابل النقط”، وربما طرق باب “الجنس مقابل المال” خارج فضاءات الجامعة، بحثا عن مدخول مالي، يلبي الحاجيات الشخصية من ملبس ومأكل وتعبئة ومقهى وسجائر وغيرها.

انعكاسات الظاهرة :

تترتب عن الظاهرة الصامتة عدة انعكاسات متعددة الزوايا، منها :

الإساءة لمهنة التدريس وشرفها، ولقيمة ورمزية الأستاذ داخل المجتمع، والذي يفترض فيه أن يكون قدوة لطلبته وتلاميذه، بكل ما لذلك من ضرب لمبدأ تكافؤ الفرص بين الطلبة، ومن تقوية لأحاسيس اليأس وفقدان الأمل في أوساط الطلبة، وهم يعاينون انحرافات سلوكية لبعض الأساتذة، ويتأملون بعض الطالبات يحصلن على النقط بطرق غير أخلاقية، تنتهك حرمة “المصداقية” و”تكافؤ الفرص”.

ضرب منظومة التقويم والدعم في الصميم، لأنها تتأسس على معطيات مغلوطة وكاذبة، ما دامت النقط باتت أبعد من الكفاءة والاستحقاق، وأقرب إلى ممارسات عابثة من قبيل “النقط مقابل الجنس”، إضافة إلى ضرب صورة الجامعة، ومن خلالها سمعة التعليم المغربي، ومصداقية الشواهد الجامعية المحصل عليها، ويجعل “شرط الميزة” الذي بات يفرض في ولوج مباريات الماستر أو اجتياز مباريات التوظيف “موضوع سؤال”، فضلا عن المساهمة في صناعة عقول متواكلة فاقدة للجاهزية والاستعداد، دون إغفال ما للظاهرة من آثار نفسية على الضحايا وعلاقاتهم الأسرية والاجتماعية، وعلى الأشخاص المتورطين أنفسهم، ليس فقط على المستوى النفسي والأسري والاجتماعي والأخلاقي، بل حتى على المستوى المهني.

بعض الحلول الممكنة :

أن الظاهرة متشابكة ومتشعبة يتقاطع فيها البيداغوجي والأخلاقي والقيمي والقانوني والأمني والقضائي والاجتماعي والنفسي والتوعوي والتحسيسي، لكن هذا لا يمنع من استعراض بعض الحلول الممكنة، التي من شأنها تطويق الظاهرة وكسر شوكتها، وذلك على النحو التالي :

لابد من وضع معايير وشروط صارمة في اختيار الأساتذة عموما وأساتذة التعليم العالي بشكل خاص، فإذا كان معيار وشرط الكفاءة أمرا لا نقاش فيه، فالكفاءة لن تكون إلا فاقدة لقيمتها ما لم تكن محاطة بمعايير وشروط سلوكية، مرتبطة بأخلاقيات الأستاذ، الذي يفترض فيه أن يكون مثالا يحتذى به بالنسبة لتلاميذه أو طلبته، من خلال ما يصدر عنه من معاملات وتصرفات، لابد أن تحضر فيها قيم المسؤولية والاحترام والالتزام والمساواة والإنصاف.

الإدارات الشرطية والعسكرية، وعلاوة على اعتمادها على معيار الكفاءة ، فهي تخضع المترشحين الجدد إلى اختبارات كتابية وشفوية، كما تخضعهم إلى اختبارات “بسيكوتقنية” دقيقة وصارمة، لتحديد مدى سلامة المترشح نفسا وصحيا، فضلا عن القيام بأبحاث وتحريات ميدانية تشمل محيط سكن المعني بالأمر، للوقوف عند طبيعة سلوكاته وممارساته، وهذه المنهجية تكاد تغيب بالنسبة لمهنة التدريس، وحتى وإن حضرت فهي لا تحظى بأية قيمة أو اهتمام، إلى درجة أن التعليم بات مهنة من لا مهنة له، في الوقت الذي يفترض فيه أن يتم ربط الولوج إلى المهنة بشروط ومعايير دقيقة وصارمة يتقاطع فيها المعرفي بالسلوكي والأخلاقي والقيمي، لأن “التربية” كالجراحة، لامجال فيها للعبث أو التهور أو الخطأ.

لابد من إعادة النظر في منظومة التقويم، التي زالت تشكل “النقطة” محورها الأساس، من خلال التفكير في أساليب تقويمية جديدة، تقطع مع ممارسات العبث، من قبيل اعتماد “الأرقام السرية” لأوراق الامتحان، على غرار امتحانات البكالوريا، والتخلي عن شرط “الميزة” أو “بيانات النقط” في مباريات الولوج إلى الماسترات، من منطلق أن الأصل هو “الكفاءة” وليس” النقطة” التي يمكن الحصول عليها بأية طريقة ولو عبر تقديم الخدمة الجنسية.

مادام الأمر يتعلق بالابتزاز والتحرش الجنسي، لا مناص من خلق مراكز استماع أو آليات إلكترونية لرفع الشكايات على مستوى الكليات أو الجامعات، موازاة مع الرهان على الجوانب التحسيسية والتوعوية بمخاطر الظاهرة وتداعياتها النفسية والاجتماعية والقانونية والقضائية وغيرها.

لابد من خلق نقاش حقيقي متعدد الزوايا لتشخيص الظاهرة الخطيرة، بالوقوف عند أسبابها ومسبباتها وتجلياتها ومخاطرها على منظومة التربية والتكوين، وبدون ذلك يصعب الوصول إلى حل أو حلول ناجعة من شأنها الحد من هذا الورم الآخذ في التنامي والانتشار.

الإعلام بدوره يتحمل جانبا من المسؤولية، إذ وبدل الاكتفاء بنشر محتويات مثيرة تحت عنوان عريض “النقط مقابل الجنس”، لابد له أن ينخرط في النبش في تضاريس الظاهرة، عبر الاستعانة بخبراء في التربية والتكوين وعلم الاجتماع وعلم النفس وآباء وأمهات الطلبة والطلبة أنفسهم، وخاصة بعض الطالبات اللواتي سبق أن وقعن في ابتزاز أو مساومة من قبل أستاذ ما، من أجل النقطة، وبهذا الشكل، يمكن تطويق الظاهرة وكبح جماح المتهورين من الأساتذة والطالبات على حد ســواء.

قضايا “الجنس مقابل النقط” تدخل في عمقها في قضايا “العنف الممارس ضد النساء”، وهذا النوع من العنف، لازال “مسكوتا عنه”، ويفترض أن تطاله عيون الحقوقيين، خاصة ونحن نعيش أجـواء الحملة الوطنية لوقف العنف ضد النساء والفتيات.

مهما كانت طبيعة الحلول المقترحة، فهذا لا يمنع من توجيه البوصلة نحو الأسر التي لابد أن تتحمل مسؤولياتها التربوية حيال أبنائها، على مستوى الرعاية والمواكبة والمراقبة والتتبع، دون إغفال مسؤوليات باقي مؤسسات التنشئة الاجتماعية.

ضرورة التفكير في وضع مدونة أخلاقيات المدرسين، على غرار مجموعة من الوظائف والمهن، بما يضمن تأطير عمل هؤلاء المدرسين من ناحية القيم والأخلاق والحقوق والواجبات، وبالتالي حمايتهم من أية منزلقات سلوكية، قد تضعهم في السجون بدل القاعات والمدرجات الجامعية.

وفي الختام، لاندعي أننا أحطنا بكافة ظروف هذه الظاهرة الصامتة، أو انفردنا على مستوى السبق الإعلامي فيما يتعلق بعرضها وتناولها، لكن حرصنا على الإحاطة بها من حيث بعض العوامل المتحكمة فيها، وانعكاساتها المتعددة الزوايا، وخاصة فيما يتعلق ببعض الحلول الممكنة التي من شأنها كبح جماح الظاهرة التي تحتاج دراستها إلى مقاربات متعددة المستويات، قادرة على إنتاج حلول ناجعة ومبتكرة، تعيد للجامعة مكانتها وقيمتها كمؤسسات لإنتاج ثقافة المواطنة والرقي والمسؤولية والالتزام، تتحقق داخل حرمها شروط المصداقية والنزاهة والثقة والإنصاف وتكافؤ الفرص، وفي جميع الحالات، وبقدر ما ندين ما يتفجر هنا وهناك من ممارسات غير مسؤولة داخل بعض الجامعات، بقدر ما نرى أن “الاستثناء” لايمكنه أن يكون مبررا لحجب “القاعدة”، لأن جامعاتنا المغربية، تزخر بكفاءات إدارية وتربوية مشبعة بقيم المسؤولية والاستقامة والنزاهة والالتزام، تحفظ للجامعة المغربية مكانتها وحرمتها ورقيها وإشعاعها، وهذه الكفاءات تستحق كل الشكر والتنويه والثناء والتقدير، أما “العابثون” و”المتهورون”، فنذكرهم أن طرق باب “الجنس مقابل النقط”، لن يكون إلا طرقا لجرائم هتك العرض والتحرش الجنسي والتحريض على الفساد والتمييز بسبب الجنس واستغلال النفوذ والعنف ضد النساء والفتيات …، بل وطرقا لباب الخراب والدمار المهني والأسري والاجتماعي والنفسي والأخلاقي والقيمي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *