وجهة نظر

تمويل التعليم والتنمية: مجالات التحديد ودعامات التغيير

تشكل السياسة المالية المدخل الأساسي للتنمية الوطنية، إذ لن يكون بمقدور أي دولة القيام بدورها كفاعل أساسي في تدبير و توجيه السياسات العمومية وفي تشجيع الاستثمارات و تمويل مختلف مشاريع التنمية و حماية التنوع الثقافي و البيئي … إلا إذا تمكنت من امتلاك تصور واضح و دقيق لسياسة مالية منبثقة من ضرورات التنمية.

ولا ريب أن المسألة الاجتماعية تشكل هاجسا حقيقيا لدى مختلف الفاعلين السياسيين و الاقتصاديين ، على اعتبار هاجس البحث عن التوازنات الاجتماعية ، ومن ثم فأصحاب القرار السياسي يضعون نصب أعينهم البحث عن السياسات العمومية الكفيلة بضمان التنمية الاجتماعية و الرخاء السياسي و الاقتصادي . فكيف تعاملت الدولة المغربية مع المسألة الاجتماعية ؟

لقد مرت المسألة الاجتماعية بالمغرب بعيد الاستقلال بمرحلتين مهمتين :

فمنذ استقلال المغرب و المسألة الاجتماعية تطرح أمام أنظار القوى السياسية بإلحاح كبير، فشكلت معالجة الملف الاجتماعي تحديا فعليا بالنظر للحاجيات الكبيرة للسكان من تعليم و صحة …

ثم مرحلة تراجع الاهتمام بمسألة التنمية الاجتماعية ، و قد كان ذلك في فترة الثمانينات مع التحولات السياسية الدولية و انهيار الثنائية القطبية ، و كذا بسبب الإكراهات المالية التي عاشها المغرب في تلك الفترة و توالي سنوات الجفاف و ضعف ميزان الأداءات .كل هذا أدخل المغرب في مسلسل سياسة التقويم الهيكلي و التي دامت عشر سنوات بحيث لم تعرف السياسة الاقتصادية في المغربأية مبادرة لخلق نمو قار و مرتفع ، واكتفت بالتدبير المحاسباتي الضيق للميزانية و الحفاظ على التوازنات المالية الكبرى .

إن الأزمة البنيوية الشاملة التي يعرفها الاقتصاد المغربي تكتسي في الجانب الاجتماعي كل أبعادها المأساوية ، و تكشف بشكل جلي عن فشل السياسات الاقتصاديةالمتوالية منذ الثمانينات إلى الآن ، و التي اقتصرت على التوازنات المالية و المعتمدة على المؤشرات الماكرو- اقتصادية في غياب أي استراتيجية تنموية اجتماعية فعالة.

ولقد كان للسياسة الاقتصادية عواقب وخيمة على كل القطاعات الاجتماعية كالتشغيل و الصحة و التعليم… ، حيث عرفت النفقات الاجتماعية الموجهة لميدان التعليم انخفاضا منذ تبني المغرب لمقترحات صندوق النقد الدولي الرامية إلى تقليص عبء التعليم على ميزانية الدولة ، و تفويت أغلب مسؤولياتها لصالح القطاع الخاص واعتبار هذا التعليم خدمة مؤدى عنها و ليس مكسبا اجتماعيا . و كنتيجة لذلك بقيت المردودية التعليمية بالمؤسسات العمومية هزيلة وغير مقنعة أمام الضغط المستمر الذي تخضع له النفقات الموجهة نحو قطاع التعليم.

ويكتسي التعليم أهمية بالغة في حياة المجتمعات والدول باعتباره السبيل الوحيد لإحداث التطور الحضاري والاقتصادي والثقافي والاجتماعي ، فهو من ناحية يمثل أحد أهم مجالات التنمية البشرية وأبرز أهدافها ، وهو من ناحية ثانية يمثل استثماراً في رأس المال البشري والذي يعد أهم وأرقى أنواع الاستثمار على الإطلاق ، إذ أن الإنسان في المحصلة النهائية هو الثروة الحقيقية للأمم ، وأن التطور الحضاري للمجتمعات لا يقاس فقط بحجم الإنجاز المادي والثراء النقدي و إنما – وهو الأهم – بما أحرزه من إنجاز علمي وإنتاج معرفي وما أحدثه التعليم من تطور في بناء القدرات البشرية والمهارات الإنسانية والقدرات الذهنية والإبداعية .

من ناحية أخرى أصبح التعليم مورداً استراتيجياً للمجتمعات الحديثة والذي يمد المجتمع بكافة احتياجاته من الكوادر العلمية المتخصصة ، بحيث غدَا التعليم طاقة إنتاجية متنوعة وثروة متجددة ودائمة يؤدي إلى زيادة القيمة المضافة وتعزيز النمو الاقتصادي والتي من شأنها تحسين جودة الحياة الإنسانية، فقد أوضحت الدراسات العلمية أن 34% من النمو الاقتصادي يعزى إلى المعارف العلمية الجديدة وان 16% من النمو ناتج عن الاستثمار في رأس المال –الإنسان- من خلال التعليم ، أي أن 50% من النمو الاقتصادي يرجع إلى التعليم بمفهومه الشامل .

إن الإصلاحات التعليمية بالمغرب والتي انطلقت بالخصوص في الثمانينات، كان هاجسها الكبير تقليص ميزانية القطاع التعليمي، أي أن الهاجس المالي هو المتحكم فيها، فالمغرب عرف احتداد الأزمة الاقتصادية في هذه الفترة، وانتقلت المديونية الخارجية من 900 مليون دولار سنة 1972 إلى 12 مليار دولار سنة 1983، مما جعل الدولة توقع اتفاقيتين مع صندوق النقد الدولي، الأولى في أكتوبر 1980 والثانية سنة1981. وستتوج كل ذلك بتوقيع اتفاق جدولة الديون مع نادي باريس 1983، لتدخل في سياسة التقويم الهيكلي (سياسة التقشف) والتي على ضوئها يمكن قراءة خلفيات كل الإصلاحات التي انطلقت منذ تلك الفترة إلى الآن.

بعد انتهاء الجدولة ومرحلة التقويم الهيكلي، ستعرف جميع القطاعات أزمة خانقة، فقد تبين أن سياسة خدمة الدين الخارجي أدت إلى مضاعفات كارثية حيث تم ضخ ثروات هائلة لصالح الإمبريالية، ورغم ذلك فما زالت نسبة الدين الخارجي مرتفعة.

ويأتي قطاع التعليم على رأس القطاعات المتضررة والمستهدفة باعتباره حسب الخطاب الرسمي قطاعا غير منتج، لهذا ستعمل الدولة على الإجهاز عليه تحت غطاء الأزمة التعليمية وضرورة الإصلاح، وفي هذا الصدد سيتم توجيه رسالة ملكية إلى مجلس النواب بتاريخ 16 يونيو 1994 والتي دعت إلى ضرورة الحوار والتشاور بشأن القضايا التعليمية، والدعوة إلى تكوين لجنة موسعة تتكون من أعضاء من مجلس النواب، وممثلي الإدارات التعليمية والفعاليات الاجتماعية والاقتصادية والنقابية. وبالفعل تكونت هذه اللجنة ونظمت سلسلة من الجلسات خلال الفترة الممتدة من 5 ماي 1995 إلى 9 يونيو 1995، واستطاعت إنجاز تقرير مفصل في 25 يونيو1995 يعرف بوثيقة المبادئ الأساسية والتي حاولت ملامسة مكمن الخلل في نظامنا التعليمي، وحاولت طرح بعض الحلول الممكنة لتجاوز هذه الوضعية، ففي ديباجة هذه الوثيقة تنطلق اللجنة من اعتبار قضية التعليم ذات طابع استراتيجي ووطني، وربطت الإصلاح بالمؤسسة لا بالأفراد ، كما ركزت على ترشيد النفقات لأن هذه العملية قد توفر جزءا لا يستهان به من الميزانية، وأصرت على العمل في سياق الشفافية ودمقرطة القرار واللامركزية في تدبير الوسائل البشرية والمالية، ولم تنس اللجنة أن تشير إلى ضرورة الزيادة في ميزانية التعليم، مع صرف الميزانية المقررة بكاملها ومراقبة هذا الصرف.

ورغم كل ما سبقت الإشارةإليه فالسياسات المالية التي اتبعها المغرب في هذا المجال أفضت إلى العديد من المشاكل و الاختلالات التي ما فتئت تتفاقم مع مرور السنوات ، مما دفع بالدولة إلى البحث عن سياسات جديدة لإصلاح المنظومة التعليمية بدءا بالميثاق الوطني للتربية والتكوين وصولا للبرنامج الاستعجالي 2009_2012… والمتأمل في هذه الإصلاحات سيتوقف عند مجموعة من الملاحظات أهمها:

– أن هناك توجه نحو تخلي الدولة عن التزاماتها ضاربة مجانية التعليم في الصميم؛ حيث يشير الميثاق إلى أنه: “يقتضي تنويع موارد التمويل، إسهام الفاعلين والشركاء في عملية التربية والتكوين من دولة وجماعات محلية ومقاولات وأسر ميسورة…”.وبهذافإن الدولة تسير بخطى ثابتة نحو القضاء على المدرسة العمومية وإلغاء المجانية مع تحميل الأسر العبء الأكبر في تمويل التعليم.

– عدم تحمل الدولة لمسؤوليتها بشكل واضح في تمويل التعليم ؛ فداخل البرنامج الاستعجالي العديد من الصيغ التمويهية والمتضاربة تبين بجلاء رغبة الدولة في التخلي التدريجي عن تمويل التعليم، من مثل “يتعين كذلك توفير الموارد المالية الضرورية واستدامتها عبر تنويع مواردها ووضع آلية للتمويل اللازم..”. فمن سيوفر إذن هذه الموارد؟ وما المقصود بتنويع مواردها؟

ولا مراء في أن تمويل التعليم أضحى يطرح عدة إشكالات سواء من الناحية القانونية أو العملية، مما يفرض تسليط الضوء على دور السياسات العمومية- في شقها المالي بالخصوص- في النهوض بهذا القطاع و السير به نحو تحقيق التنمية الشاملة، ومن خلاله معرفة مجموع الثغرات التي تعتري تسيير و تدبير هذا القطاع ، وكذا الوقوف على بعض نقط الخلل التي تشوب تدخلات مختلف الجهات المعنية في محاولة لخلق نوع من التوازن بين الانفتاح و التحرير الاقتصادي وتحقيق التنمية.

فعلى خلاف البلدان المتقدمة،يعرف الإنفاق على التعليم في المغرب تضاؤلا سنويا مستمرا، و ذلك منذ تبني الحكومات المتعاقبة لبرنامج التقويم الهيكلي. و يخشى من أن تزيد هذه الوضعية من استفحال خطر انقسام النظام التربوي التعليمي في البلاد إلى أكثر من قسمين لا يمت أحدهما للآخر بصلة :تعليم خاص بعضه وطني و بعضه الآخر أجنبي ، جزء منه جيد ، مكلف جدا ، تتمتع به الأقلية الميسورة جدا.ثمجزء آخر تجاري رديء في الغالب ، تلتجئ إليه بعض الفئات المتوسطة الحال . و تعليم عمومي سيئ النوعية، ما يزال هو الملاذ الأول والأخير لأغلب الأسر، و ذلك علما بأن هذا التعليم العمومي أيضاهو من حيث تكلفته ليس في متناول الفئات الأسوأ حالا داخل هذه الأسر و خاصة منها المتعددة الأطفال. و علاوة على ذلك ، يجدر بالذكر أن ميزة المجانية التي غالبا ما تلصق بالتعليم العمومي ليست دائما حقيقية أو واقعية ، فباستثناء مرحلة التعليم الأساسي التي من المفروض أن تضمنها الدولة بالمجان لجميع الأطفال ، فإن هذه المجانية سواء في هذه المرحلة أو في المرحلة الثانوية لا تمس سوى الإعفاء من دفع الرسوم الشهرية ، دون أن تشمل رسوم التسجيل و نفقات اللوازم المدرسية و التغذية و التنقل و كذا الإقامة إلا في حالات نادرة،رغم ما يرصد من اعتمادات في السنوات الأخيرة في اطار الدعم الاجتماعي. و هو نفس الحال الذي يسري على المرحلة الجامعية ، حيث يستحيل أن تساهم قيمة المبلغ الموصوف بالمنحة في سد حاجات الحياة الطلابية و تدعيم البحث العلمي لدى الطلبة . و إذا كانت هذه الوضعية تعني ، من جهة ، أن الآباء يساهمون في الواقع في تمويل التعليم بنسب مهمة ، و ذلك أولا باعتبارهم دافعين للضرائب و ثانيا باعتبار آليات التضامن المعتمدة من قبل الدولة و ثالثا بالنظر إلى عجز الدولة عن كفالة مبدأ تكافؤ الفرص في التعليم .

في مقابل كل ذلك ، و رغم أن كثيرين قالوا ، في الأخير ، أن ميثاق التربية و التكوين قد حسم الأمر بشكل نهائي ، فإن المعنيين الرسميين و مريديهم من التقنيين و السياسيين يجتهدون دائما في سبيل التقليص من ميزانية التعليم و الانقضاض حتى على ذلك المستوى الضئيل من مساهمة الدولة عمليا في تمويل الإنفاق على تمدرس كل طفل (ة) ، أي إعفاء الآباء من أداء رسوم شهرية مقابل مقعد مدرسي داخل حجرة مكتظة في مدرسة تفتقر ، و خاصة في الأحياء الهامشية من المدن و في الأرياف ، إلى الحد الأدنى من الجمالية و المرافق الصحية كما تفتقر إلى موارد بشرية من ادارةوهيئات تدريس تستفيد بشكل متواتر من برامج حقيقية للتكوين و التكوين المستمر ،،، لكن السؤال سيبقى ، مع ذلك ، مطروحا بشكل دائم كالتالي : كيف يمكن تطوير نظام تعليمي بديل يمكن من أن ينتج تعليما أكثر كفاءة و أرقى نوعية و بتكلفة مادية ملائمة ؟

مما سبق عرضه , يظهر لنا مدى الاهتمام بالكيفية التي بها يمول التعليم أيا كان , ونوعيته وصوره وأشكاله , وكون العبء الأكبر في أكثر الأحوال يقع على الدولة خاصة في تأمين الموارد المالية , ومع هذا فهناك عدة مجالات يمكن بها تقليل الاعتماد على الدولة متى ما تم مراجعة واستشراف الأمور ذات العلاقة بنمط التعليم عامة والتي تتمثل في جملة أمور منها:

1- تبني مفهوم المدرسة المنتجة حيث تعمل على زيادة مواردها من الخدمات -غير التعلمية – التي تقدمها للآخرين،مع المحافظة على التزاماتها العلمية والثقافية تجاه المجتمع، دون اغفال مبدأ مجانية التعليم.
2- سن القوانين والتشريعات اللازمة لتفعيل كثير من أوجه الإحسان ( الوقف , الصدقات ،الزكاة , التبرعات) في إنشاء وتدبير المدارس والمعاهد , والمرافق الجامعية , وتغيير نظرة الناس إلى أن الأجر والثواب يحصل فيها كما يحصل في بناء المساجد ومدارس تحفيظ القرآن الكريم.
3 ـ دراسة خصائص سوق العمل , وتحديد متطلباته من المهن والتأهيل والمهارات , واستشراف الاتجاهات والتوجهات العالمية والمحلية , والحالية والمستقبلية فيما يتعلق بنوعية إعداد التربويين , وتقدير فرص العمل الجيدة المتوقعة لهم , وإمكانية تسويق التخصصات التربوية المطلوبة لسوق العمل واحتياجات التنمية.
4- اللجوء الى التمويل المختلط والتحرر من بيروقراطيات المالية العامة ومبادئها المتجمدة، وذلك عن طريق إشراك رجال الأعمال والصناعة في عمليات الإنفاق اذا ما استحضرنا بطبيعة الحال توجه الدولة نحو التخصصات المهنية .
6- تعبئة الطاقات الهائلة التي تتيحهامنظمات المجتمع المدني.

ختاما يمكن القول أن التفسير الذي يتفق عليه الجميع الآن هو “الاهتمام بالتعليم”. وخير مثال على ذلك ما أورده أحد المحللين الاقتصاديين ننسخ مقتطفا منه:

“في عام 1960 لم يكن هناك فارق في الدخل القومي بين باكستان وكوريا الجنوبية، ولكن الفارق الكبير كان بين المسجلين في الدراسة فبينما نسبة المسجلين في التعليم الابتدائي في الباكستان 30 % من عدد الأطفال جميعاً، تجاوزت نسبة المسجلين هذه في كوريا الجنوبية إلى 94 % وفي نهاية الثمانينات تضاعف الدخل القومي في كوريا الجنوبية إلى ثلاث مرات الدخل القومي في الباكستان !”

ومعنى هذا أن الاهتمام بتعليم جيل واحد (عشرين عاماً أو 30 عاماً) تسبب في مضاعفة الدخل ثلاث مرات…أليس فيكم رجل رشيد؟؟؟..