وجهة نظر

المدرسة والشعر

قبل رحيلي إلى التعليم العالي (تكوين الأطر)، اشتغلت لمدة تسع عشرة سنة بالتعليم الثانوي التأهيلي. منافع كثيرة للتدريس بالتعليم الثانوي التأهيلي من الممكن أن تتحقق وقبل تغيير مسارات الحياة المهنية نحو محطات أخرى. التدريس بالتعليم الثانوي، تدريس لن أنس فضله وكرمه وخيره وما تعلمت منه. تعلمت في هذه الفترة كيف علي أن أكون “صارما” في جعل المتعلمين يحفظون العديد من متون الشعر وكفيما كان تخصصهم (آداب أو علوم ، الخ). قبل تحليل النص الشعري أو البدء في قراءته الأولية، الخ، كانت حصتي تبدأ باستظهار المتعلمين، على الأقل لخمسة أبيات من القصيدة. أتعاقد مع المتعلمين، في بداية السنة الدراسية، حول الجدوى من هذا الاستظهار وعلاقته بالنقطة النهائية وكيف من الممكن أن يكون نافعًا لهم، وكان يتم ذلك ضمن خريطة تعاقدات تربوية عديدة بيني وبينهم، بما فيها ضرورة تحسيسهم أن ممتلكات القسم هي جزء من ممتلكاتهم هم وأسرهم وكيف ينبغي التعامل معها كما نتعامل مع “صالون” الضيوف في بيوتنا المغربية، الخ. من استظهر الأبيات الأولى فقد أدى واجبه ( كان هذا الحفظ يدرج ضمن اعدادهم القبلي)، ومن حفظ واستظهر القصيدة برمتها كنت أضيف له بضع نقط في معدله النهائي لمادة اللغة العربية، الخ . وحدهن المتعلمات كن يحفظن ويستظهرن القصيدة برمتها وبسهولة. معظم الذكور لا يصلون إلى البيت الخامس إلا بمشقة !. تعلموا فيما بعد التنافس مع الإناث ولأسباب عديدة. كانت الحصة الأولى وحينما أصل إلى دروس شعرية، تكون جد رائعة. أجواء شعرية وحميمية نقضيها خلال هذه الفترة الدراسية الأولى. تعود المتعلمون على هذه الطريقة. حفظوا العديد من متون الشعر الجاهلي والاسلامي والأموي والعباسي وعصر النهضة والفترة الحديثة /المعاصرة.

يستشهدون بهذه المتون في مواضيعهم الكتابية الامتحانية . أثناء مشاركتهم الشفهية يوظفونها أيضا. كانوا يتباهون بعدد الآبيات الشعرية التي أصبحوا يحفظونها. لماذا كنت مصرا على هذه الآلية التربوية “التقليدية “؟. ببساطة لأنني عشتها صحبة المدرسين المشارقة الذين علموني في السبعينيات، وتركت لي رصيدا شعريًا لازلت أحفظه والرأس اشتعل شيبا وبدأت أنسى مفاتيح بيتي في المقهى ولا أنسى ما حفظته خلال هذه الفترة على أيادي مدرسين من سوريا والأردن وغيرهم ممن درسونا في زمن ندرة المدرسين المغاربة. رحمهم الله . أكيد أن منافع أخرى لهذا الحفظ الشعري في زمن شح التعبير لدى المتعلمين، قد تتحقق. ناهيك عن كونهم يشتغلون في بيوتهم بما هو مفيد وسيبقى لديهم طيلة حياتهم. ربما سيكون من الذين سيطلعون على هدا المقال، من مر من هذه التجربة وقد يحكي عن بعض منافعها. حفظ الشعر بجانب قراءته والاصغاء إليه وفهمه وتحليله وتذوقه وسيلة تربوية جد متميزة في تربية الأجيال الجديدة وجعلها ذات” وجدان ” في زمن اللاوجدان!. أثناء تكويني للطلبة الأساتذة أبين لهم قيمة ما كنت أقوم به وأترك لهم حرية اختيار الاجتهاد في التفاعل مع كيفية وإمكانية تطبيقه.أحيانا أطلب من بعض المتعلمين، أبناء وبنات الأصدقاء والعائلة والجيران، وفي مناسبات عديدة أن يستظهروا لي بيتا شعريًا أو سطرا شعريًا واحدا ولأي شاعر ومن أي عصر. يكون الجواب : “معنديش مع داك شي ديال الشعر!”، ويتبع هذا الجواب بضحك جماعي من لدن من حولي من فئتهم، فأصبح وكأنني قادم من عصر”حجري”. التكنولوجيا اليوم جوفت أجيالنا الحالية. ربما قد نخرت عقولهم وقلوبهم الا من رحم ربي. حفظ الشعر واستظهاره آلية تربوية “تقليدية” مفيدة لتقوية الرصيد اللغوي والنفسي والوجداني والذوقي والثقافي والإنساني والجمالي، الخ، للمتعلمين وقد يستشهدون به في وضعيات حياتية وتقويمية مختلفة. منظومتنا التربوية أمامها جهد كبير عليها ان تقوم به. حفظ الشعر، قد يساعدهم على انتشالهم من تكنولوجيات أصبحت تغزو كافة أحاسيسهم وقد تؤنسن ما تبقى فيها!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *