وجهة نظر

الإصلاح الإداري بالمغرب

تعد الإدارة آلية أساسية لتنفيذ برامج الدولة وسياساتها العمومية، في المجال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. كما تجسد وسيلة لخدمة حاجيات المواطنين بشتى أصنافها، وفق مبادئ ومعايير تدبيرية معينة يحددها الدستور. وقد حرص المغرب منذ استقلاله على بناء وإرساء دعائم الإدارة، وتماشيا مع تيارات التحديث عمد المغرب إلى القيام بإصلاحات مهمة، تهدف إلى تأمين النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي مع ضرورة الانفتاح على العالم.

وقد كان ميدان الإدارة من أبرز الميادين المستهدفة من قبل الإصلاح الذي جاء نتيجة دوافع عالمية خارجية وأخرى داخلية، كذلك أعلنت عن ضرورة ملحة لتحسين وعصرنة التسيير الإداري وتحديث المؤسسات العمومية، التي تعتبر حلقة مكملة لباقي الإصلاحات في مجالات أخرى. فالإدارة السليمة للاقتصاد لا تقتصر على السياسات التي تتبعها وإنما تعتمد على المؤسسات التي تترجمها على أرض الواقع وتسهم في نجاعتها. فما هي دوافع هذا الإصلاح ومراحله؟ ما هي الأسس التي قام عليها وما هي أهدافه؟ كيف لعبت تكنولوجيا المعلومات دورها في تحديث الإدارة؟

وللإجابة عن هذه الأسئلة سنتطرق للمحاور التالية:

المحور الأول: دوافع ومراحل الإصلاح الإداري في المغرب

المحور الثاني: أسس وأهداف الإصلاح

المحور الثالث: تحديث الإدارة عبر تكنولوجيا الاتصال

المحور الأول: دوافع ومراحل الإصلاح

دوافع الإصلاح الإداري:
إن سياسة الإصلاح الإداري هي نتاج لعدة عوامل، فدوافع الإصلاح سواء كانت داخلية أو خارجية لا يمكنها أن تتأثر إلا من خلال محرك عالمي، متمثل في ظاهرة العولمة وما خلفته من قضايا تهم العالم كالشفافية؛ الديمقراطية وضمان حقوق الإنسان… ومجموعة من المبادئ يستحيل العمل بها دون إصلاحات جذرية. حيث تعتبر هذه العناصر من المحركات الخارجية، إلى جانب ارتفاع وتيرة التبادل بين الدول، الشيء الذي فتح التنافس أمام اقتصاد المغرب، مما يستدعي ذلك تطوير كل المقومات الذاتية بما فيها الإدارة العمومية سعيا وراء التكيف مع الواقع الدولي.

تجدر الإشارة كذلك إلى استجابة المغرب للمؤسسات المالية الدولية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي من خلال توجيهاتهما بضرورة إعادة هيكلة النظام الإداري وذلك إثر التقرير الذي أصدره البنك الدولي سنة 1989 مفاده أن أزمة إفريقيا هي أزمة تسيير بالأساس، لذلك بدأت هذه المنظمة في تقديم قروضها من لتطبيق برامج الإصلاح.

أما الدوافع الداخلية فتتمظهر في التطورات التي عرفها المغرب في مختلف الميادين، والتي أبانت عن تيارات سياسية واجتماعية تنادي بمشروع إصلاحي شامل، خاصة وأن الإدارة ظلت تراكم اختلالات جوهرية متعددة. إضافة إلى الإرادة الملكية التي لا تخلو خطبها من المناداة بالتحديث وجعل خدمة الصالح العام من أولى أولوياته.

إلى جانب ذلك تعددت صيغ الأسباب الداخلية سواء من الناحية السياسية وما صاحبها من إجراءات قانونية وتنظيمية، لعل أبرزها ميثاق اللامركزية، أو من الناحية الاقتصادية وتبني مبدأ الخوصصة وإنعاش الاستثمار، كل ذلك نتج عنه التصويت على دستور جديد سنة 2011 وما نتج عنه من تطورات نوعية.

مراحل الإصلاح الإداري
سنة 1981 بدأت بوادر إصلاح الإدارة العمومية بتشكيل المغرب لجنة وطنية للإصلاح، فبعد تشخيصها للمشاكل التي تواجهها الإدارة أصدرت توصيات لمعالجتها، إلا أن هذه المعالجة تمحورت حول المشاكل القانونية المتمثلة في مراجعة القانون الأساسي للوظيفة العمومية وإصلاح الهياكل الإدارية.

سنة 1995 أصدر البنك الدولي تقريره بهذا الخصوص يرصد فيه مجموعة من الاختلالات البنيوية أهمها: عدم فعالية المساطر، والتسيير الروتيني المتميز بالتماطل في اتخاذ القرارات، إضافة إلى التمركز المفرط في العاصمة وضعف إنتاجية الموارد البشرية.

سنة 1996 صدور تقرير الأمم المتحدة للتنمية PNUD، الذي قام بتحديد الخطوات اللازمة لإحداث برنامج تحديث الإدارة المغربية، حيث أطلق عليه اسم البرنامج الوطني لتحديث وتطوير القدرات التسييرية، إذ ضمّ ثلاثة محاور:

-دعم اللاتركيز الإداري؛

-تسيير الموارد البشرية؛

– تبسيط المساطر والإجراءات الإدارية.

سنة 1999 ميثاق حسن التدبير الذي أصدرته حكومة التناوب السياسي، ارتكز على الأهداف التالية: تخليق المرفق العمومي؛ عقلنة التدبير؛ نهج سياسة فعالة للتواصل الإداري مع المواطنين.

سنة 2003 انعقدت المناظرة الوطنية الأولى حول الإصلاح الإداري بالمغرب، والتي رصدت مجموعة من مظاهر القصور في أداء الإدارة من بينها: تضخم أعداد البنايات الإدارية (من حيث عدد الوزارات(؛ غياب المحاسبة والمساءلة وضعف أداء التفتيش؛ هزالة الخدمات الإدارية وتفشي الزبونية والرشوة وإهدار المال العام.

سنة 2010 ظهرت محاولات جادة لإصلاح الإدارة على غرار التدابير التالية: إعادة تنظيم الهياكل الإدارية؛ محاربة كل الأفعال المنافية لأخلاقيات المرفق العام؛ تأهيل الموارد البشرية وترشيد التدبير العمومي.

سنة 2011 تم تكريس التوجه الإصلاحي دستوريا وتأكيده على الحكامة الجيدة لتغيير النمط البيروقراطي، الأمر الذي تمت بلورته عبر برنامج تحديثي )2014-2016(، أما في سنة 2018 فتم إقرار مرسوم بمثابة ميثاق وطني للاتمركز الإداري.

وهنا يمكن القول إن كل مرحلة تعمقت فيها رغبة الإصلاح نتج عنها الطموح في أسلوب إداري يرقى إلى معايير الدولة الحديثة، وأي خطوة بإمكانها أن تكشف عن اختلالات إلا ومكنت من تحديد غايات وسبل أكثر فاعلية، وقد نتج عن ذلك إطلاق الخطة الوطنية لإصلاح الإدارة تمتد من سنة 2018 إلى 2021.

المحور الثاني: مظاهر وأهداف الإصلاح الإداري
من أجل تحسين المردودية وترشيد الجهود، وترجمة مساعي الإصلاح على أرض الواقع، حضي المرفق العام بتغيرات جذرية تراهن على التقدم والتطور، وهي عبارة عن مشاريع طبعت مرحلة جديدة من حياة الإدارة المغربية، سنتطرق لها في هذا المحور.

1- أهداف الإصلاح الإداري
– تحقيق إدارة القرب: وذلك بجعل خدمة المواطن المحور الرئيسي الذي تقاس به نجاعة الخدمات بإشراكه في التعبير عن وجهة نظره في أداء الإدارة، إضافة إلى تعزيز جودة التواصل مع المرتفقين والاستجابة لرغباتهم وهي مقاربة مهمة لرعاية المصالح العمومية والشؤون المحلية.

– المساهمة في التنمية البشرية والمستدامة، إذ أن كفاءة هذا الجهاز من عدمها هي معيار في الحكم على قدرة النظام على الاستجابة للمطالب الحيوية للمجتمع، على اعتبار أن الإدارة مدخل أساسي للمساهمة في التنمية وذلك عبر سرعة استجابتها للخدمات، الشيء الذي يشجع وتيرة المبادرات المجتمعية لهذا تم إطلاق شعار “من أجل إدارة مواطنة”.

– تحسين المردودية: بعد اكتشاف ضعف الأداء مقارنة مع الميزانية التي تستنفذ هذا القطاع، وفائض العمالة الإدارية، وكذا تجمع سلطة القرار في القطب المركزي، لهذا كان لا بد من مراجعة طرق العمل وأساليب التسيير، فتوجهت غايات الإصلاح نحو ثلاثة منطلقات: أولها أخلاقي وهو مطلب أساسي داخل المرفق العمومي يؤدي إلى ترجمة الإصلاحات عمليا والقضاء على الفساد؛ منطلق ثان ترشيدي يهدف إلى عقلنة التسيير والتحكم في تكلفته و تطبيق المحاسبة؛ منطلق تواصلي متمثل في تبني مبدأ الشفافية وتعزيز روابط الثقة بإرساء علاقتها مع المحيط.

2- مظاهر الإصلاح
– تفعيل دعم اللاتمركز الإداري واللامركزية وإعادة تنظيم مهام الإدارة، وفق الميثاق الوطني للاتمركز الإداري، وهو التنظيم الذي يواكب اللامركزية القائمة على الجهوية المتقدمة، قوامها نقل بعض السلط إلى الوحدات المحلية لتفعيل السياسة العمومية على المستوى الترابي.

– دعم الأخلاقيات في المرفق العمومي، من خلالها تم إقرار مجموعة من الإجراءات استهدفت:

+ربط المسؤولية بالمحاسبة

+قانون التصريح بالممتلكات

+ تعزيز دور المفتشيات العامة

+ الرقم الأخضر للتبليغ عن الرشوة وحماية الشهود والمبلغين

– تحسين علاقة الإدارة بمتعاقدين معها من خلال:

+ الاستقبال الجيد ومعالجة الشكايات إضافة إلى تقليص آجال الرد على طلبات المرتفقين

+ إلزام الإدارة بتعليل قراراتها

– تدبير وتأهيل الموارد البشرية من خلال جلب الأطر المؤهلة عبر مباريات التوظيف كوسيلة وحيدة، إضافة إلى تحسين النظام الأساسي في التوظيف والتنقيط والتكوين المستمر والترقية.

– إصلاح منظومة الأجور وذلك بالحد من الفوارق الشاسعة بين الأجور العليا والدنيا؛

– تبسيط المساطر والإجراءات الإدارية: التقليص من الوثائق الإجرائية للمرتفقين؛

– تنمية استعمال تكنولوجيا المعلومات وتطوير الإدارة الرقمية.

المحور الثالث: تحديث الإدارة عبر تكنولوجيا المعلومات
أصبحت وسائط التكنولوجيا من الآليات الأساسية في الحياة العامة، الأمر الذي كان له انعكاس على الأسلوب الجديد في تسيير المرافق العمومية وشبه العمومية التي تعتبر قاطرة في تحريك عجلة التنمية بالمغرب، فاستعمال وسائط التكنولوجيا بالإدارة أصبح أمرا ضروريا إن لم نقل إلزاميا في ظل موجة التقدم العلمي الذي يشهده العالم، إذ بات يفرض نفسه بقوة متخذا شعاره عصر السرعة، لذلك بدأ البحث عن ضرورة اتساق الإدارة مع التطور التكنولوجي وجعلها أكثر فاعلية في سرعة خدماتها لتكون بذلك متطابقة مع العصر وتطوراته المستمرة، وهذا يتطلب اعتماد رؤية استراتيجية لتطوير الإدارة من خلال العمل على تأهيل الموظف والمرتفق على حد سواء .

1- تحسين وظائف الإدارة عبر الرقمنة
أصبحت وسائل التكنولوجيا الحديثة في الخدمات الإدارية أمرا مؤكدا لجميع العاملين مع هذا الجهاز، إذ تعتبر آلية مهمة تمكن من تحسين وإرساء علاقات متميزة بين الإدارة والمنتفعين من منطلق الحق في المعلومة الذي ينص عليه الفصل 27 من الدستور، مما فرض بث جميع الوثائق عبر شبكة الأنترنيت للاستفادة منها بسلاسة، وذلك يتطلب أساسا متينا لتطبيق مبادئ الحكامة الإلكترونية، مما يؤدي إلى خلق مناخ إيجابي في معاملات إلكترونية سليمة في ما بينها وبين المواطنين بغرض تقليص النفقات وتحسين جودة الخدمات المقدمة، كما تعمل هذه الضرورة على تحقيق عدة مميزات أهمها:

* الرفع من كفاءة الجهاز الإداري: فاستثمار التكنولوجيا داخل الإدارة يتأتى معه تحسين هياكل الإدارة من جهة، والتطوير من أسلوب تنظيم المرافق وتنمية قدرات الموظف وتكيفه مع تقنيات المعلوميات.

* فتح قنوات اتصال جديدة بين الإدارة والمواطنين، فاعتماد الإدارة الإلكترونية تقاس نجاعتها بمدى تحقيق التفوق في خدماتها وذلك من خلال الإلمام باحتياجات المتعاملين معها، وقياس مدى درجة رضاهم كجزء أساسي من خطوات تطوير الخدمات بتطبيق مشروع الرقمنة الإدارية ليجعل منها أكثر قربا من المواطنين.

* تعزيز آلية الشراكة بين القطاعين العام والخاص وذلك عن طريق الاستفادة من الآليات التي تعتمدها مؤسسة القطاع الخاص التي تحظى بتقدم في مجال تكنولوجيا المعلومات، إلى جانب تفعيل دور المؤسسات الوطنية ذات الارتباط بتتبع وتقييم ورصد مدى اندماج الإدارة العمومية في التوظيف الأمثل للتكنولوجيا، لذلك يتطلب إعداد الدراسات بهذا الشأن لاختيار الأساليب الملائمة لطبيعة عمل الإدارة.

2- انفتاح الإدارة المغربية على المجال الرقمي:
لتحقيق أهداف التحديث ومسايرتها لتكنولوجيا المعلومات بصورة أوسع أطلقت استراتيجية المغرب الرقمي 2013-2009 بإرادة ملكية، والهدف منها تسريع وتيرة مشروع الإدارة الإلكترونية لتقريب المرفق العمومي من المواطنين وتبسيط المساطر، وتحسين الخدمات من حيث الجودة والفعالية والشفافية وسرعة الأداء. في هذا الإطار عملت مجموعة من القطاعات الوزارية على الانفتاح على تقنيات وطرق جديدة للاتصال، كما أحدثت تغييرا على طبيعة مجموعة من الخدمات على الخط، كخدمات استخلاص الضرائب وطلب الوثائق الرسمية وكذا مختلف الوثائق الإدارية. كذلك تجدر الإشارة إلى ما تم تحقيقه أثناء جائحة كوفيد-19 من تقدم على مستوى رقمنة جميع الخدمات بكافة القطاعات. كما أن الإرادة في تسريع ورش التحول الرقمي لم تتوقف عند هذه المرحلة بل اعتمدت الحكومة حاليا خطة بعنوان “مذكرة التوجهات العامة للتنمية الرقمية بالمغرب في أفق سنة 2025 “، وتتمثل الأهداف المتوقعة لهذه الرؤية، إرساء إدارة رقمية تتسم بالكفاءة والفعالية من خلال تقديم خدمات آمنة ذات قيمة مضافة، كما تطمح إلى وضع معالم التنمية الرقمية في جميع القطاعات على مدى الخمس السنوات المقبلة، من خلال:

+ تنزيل نظام تشغيل بيني وتجديد ورقمنة الإجراءات الإدارية؛

+ تحسين جودة الخدمات وسد الخصاص في الولوج إلى المجال الرقمي بتحقيق المساواة وتكافؤ الفرص في سهولة الولوج إلى الخدمات الإدارية؛

+تعزيز مكانة المغرب إفريقيا كقائد في مجال التكنولوجيا والإدارة الرقمية…

وقد أدى هذا التوجه إلى العمل نحو تأسيس وكالة مختصة في التنمية الرقمية وإطلاقها من طرف الحكومة لإضفاء الطابع الرسمي على هذه الرؤية وتأطيرها مؤسساتيا وقانونيا لضمان تحقيق الأهداف المنشودة.

لقد أثرت مجموعة من العوامل في بناء ترسانة إصلاحية على مدى سنين طويلة، مكنت من الرفع من جودة وأداء الإدارة المغربية وتعزيز مكانتها في المجتمع، ولما كان الحرص على تحقيق إدارة مواطنة مواكبة لتطورات العصر هدفا يتوخى الاستمرارية، بات مشروع الإدارة الإلكترونية واقعا أساسيا في خطوات إصلاح الإدارة المغربية، حيث يعتبر تحديا تنمويا في المقام الأول، ومبدأ ضروريا لإدارة حديثة متطورة قريبة من المرتفق ومستجيبة لبيئتها. مما فرض وضع خطط استراتيجية تطابق مواصفات الاستعداد لولوج العالم الرقمي عبر الخدمات الإدارية، مما يستدعي تشييد أسس متينة تمكن المغرب من دخول غمار الدول المساهمة في التكنولوجيا. وعلى إثره ما زال يحرص هذا القطاع على تنمية هذا المشروع من خلال خطط طويلة الأمد تتسم بطابع رسمي ينبني على أسس قانونية ومؤسساتية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *