وجهة نظر

الشعب، أخنوش، ابن كيران، وقضايا أخرى (الجزء الثاني)

ـ ما معنى حزب العدالة والتنمية حزب سياسي كباقي الأحزاب في نظر الدولة؟

ـ قراءة في نتائج انتخابات 8 شتنبر قانونيا وسياسيا:

ـ الموقف السياسي المناسب:

ـ الدعوة إلى انتخابات سابقة لأوانها، لماذا؟

ـ أين دور حزب العدالة والتنمية وقادته في:

1ـ تأطير الشعب.

2ـ الدفاع عن مصالحه الاجتماعية والاقتصادية من موقع المعارضة.

3ـ واقع حقوق الإنسان.

4ـ تقديم أطروحة سياسية شجاعة ومتقدمة.

هذه هي الأسئلة التي سيحاول الجزء الثاني من هذا الموضوع الإجابة عن جزء منها بنوع من التفصيل، على اعتبار أن بعضها يعرف نقاشا محتشما داخل الحزب، بل يمكن القول ـ بكل موضوعية ـ إن النقاش فيها شبه غائب نظرا لوجود طابو غير مرئي، وضعه بعض قادة الحزب على أعضاءه، هذا ما يفسر غياب فضاءات تنظيمية تستوعب وتنظم وتشجع النقاشات السياسية والحقوقية داخل الحزب.

ـ ما معنى أن حزب العدالة والتنمية حزب سياسي كباقي الأحزاب في نظر الدولة؟

في كلمة سابقة صرح فيها الأستاذ عبد الإله ابن كيران أن الملك قال له إنه يعتبر حزب العدالة والتنمية حزبا كباقي الأحزاب السياسية المغربية، واعتبر ابن كيران أن كلام الملك هو تطور مهم في موقف الدولة من حزب العدالة والتنمية، بإزالة تلك الصورة المشوهة والمخيفة التي حاول بعض مناوئي وخصوم الحزب تصويرها للملك، وبذلك أصبحت الدولة في شخص رئيسها تعترف بحزب العدالة والتنمية ككيان سياسي مرحب به داخل النسق السياسي المغربي.

فهل هذا هو التأويل الوحيد الذي يمكن إعطاؤه لكلام الملك في حق حزب العدالة والتنمية؟ أم إنه من الممكن أن يكون هناك تأويل مختلف أو فهم آخر غير الذي فهمه ابن كيران؟ هل ينصرف المقصود بـ “أن حزب العدالة والتنمية هو كباقي الأحزاب المغربية” إلى مستوى الوضعية القانونية، أم إلى علاقته بالدولة، أم إلى مستوى التنظيمي والنضالي، أم مستوى الديمقراطية الداخلية، أم قوته الانتخابية وعمقه الشعبي.

وقبل الإجابة عن هذا السؤال، لابد أن نستحضر واقع كل الأحزاب المغربية في العهد الجديد، تنظيميا ونضاليا وشعبيا وديمقراطية داخلية.. ونتائج وظروف انتخابات 8 شتنبر، وبعدها نسقط هذا التشبيه الملكي بين حزب العدالة والتنمية وكل هذه الأحزاب.. وبقليل من التحليل البسيط يمكن أن نصل إلى أقرب فهم للتشبيه المذكور.

ومن المعلوم بالضرورة أنه لا يمكن لأي تجمع بشري أن يصبح حزبا سياسيا وفق قانون الأحزاب المغربي إلا بعد أن يستجمع الشروط القانونية التي يفرضها القانون المتعلق بالأحزاب السياسية، المتعلقة أساسا بالمرجعية والثوابت والأهداف وغير ذلك من الشروط الواضحة في القانون، وبمجرد ما يحصل أي حزب مغربي على الوصل القانوني إلا ويصبح حزبا سياسيا كغيره من الأحزاب السياسية، لا فرق بينه وبين أي حزب آخر، خاصة على مستوى الحقوق والواجبات، وخضوعه للقانون. فلو لم يكن كذلك ـ مثله مثل باقي الأحزاب  ما حصل على الوصل القانوني، وما سمح له بالمشاركة في كل الانتخابات، وما كان له نواب برلمانيون ومستشارون ووزراء، وبالتالي القول بأن حزب العدالة والتنمية هو حزب كباقي الأحزاب السياسية المغربية (على هذا المستوى) عبارة عن تحصيل حاصل، وفهم سطحي لكلام الملك، لذلك من المستبعد جدا أن يكون هذا هو قصده من هذا الكلام.

وبطبيعة الحال، لا يمكن أن يشمل هذا التشابه مستوى الديمقراطية الداخلية، فحزب العدالة والتنمية أبان خلال مساره التنظيمي تفوقا كبيرا على مستوى ديمقراطيته الداخلية، واحترامه لقوانينه ومساطره ومقرراته. مقارنة بباقي الأحزاب السياسية الأخرى، والملك على رأس من يدرك ذلك جيدا، هذا فضلا عن تفوقه على مستوى عمقه الشعبي ونضالية أعضاءه.

أما على مستوى علاقته بالدولة، فلا يخفى على أحد ظهور توترات في هذه العلاقة، على مراحل متعددة في مساره التاريخي، بخلاف الأحزاب السياسية الأخرى المنخرطة في النسق السياسي المغربي التي كانت تشتغل تحت وصاية ورعاية وحماية الدولة، باستثناء حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية خلال فترة عبد الرحمان اليوسفي وإيثاره الانسحاب من العمل السياسي بعد انتخابات 2002، ليصبح هذا الحزب العتيد في عهد لشكرا حزبا دون الأحزاب الإدارية الأخرى قيمة واعتبارا، بل أصبح حزبا إداريا متشردا ومتسولا في سوق السياسة.

وعلى هذا المستوى، فحزب العدالة والتنمية ليس كباقي الأحزاب الأخرى، فقد كان الحزب ما يزال عنصر إزعاج كبير بالنسبة للدولة، لذلك قررت في كل محطة انتخابية تقليص حضوره، ومضايقة عمله، ومحاصرة انتشاره منذ انتخابات 1997 التي تم تزوير بعض نتائجها لفائدة الاتحاد الاشتراكي، ومرورا بانتخابات 2003 التي تدخلت الدولة فيها بشكل مباشر بمنع الحزب من الترشح في العديد من الدوائر الانتخابية، واستمر التوتر مع الحزب على مستوى الفريق البرلماني إلى غاية الربيع العربي وحركة 20 فبراير التي كانت موجة غير متوقعة، سهلت على الحزب ركوبها، وأوصلته بسهولة إلى تصدر المشهد السياسي وحصوله على المرتبة الأولى على غرار كل دول الربيع العربي التي ساهمت في بروز الأحزاب المنبثقة عن الحركة الإسلامية.

إن التوتر بين حزب العدالة والتنمية والدولة لم يتوقف رغم ترأس عبد الإله ابن كيران ـ كبير المدافعين عن الملكية التنفيذية ـ للحكومة، إلى درجة أنه وصف بعض رجالات الدولة الذين يعرقلون عمله بالتماسيح والعفاريت، بل وفي لحظة غضب وفلتة لسان قال ما مفاده: هل هناك دولة داخل الدولة، ليتراجع عن هذا الكلام فيما بعد.

وظهرت ذروة هذا التوتر مع نتائج انتخابات 2016 والعرقلة الممنهجة التي واكبت تشكيل حكومة ابن كيران الثانية، ليتم إعفاؤه بتلك الطريقة المأساوية. وهذا دليل قاطع على أن حزب العدالة والتنمية ليس كباقي الأحزاب في نظر الدولة، ولن يكون كذلك إلا بعد إجراء عملية قيصرية عليه تغير ملامحه وأسلوب عمله، وتغيير نظرة الناس إليه، ولا أدري إلى أي مستوى من التغيير وصلت هذه العملية.

إذن، فمن الناحية القانونية والدستورية فإن حزب العدالة والتنمية هو كباقي الأحزاب الأخرى، وهذا لا يحتاج إلى تشبيه أو تأكيد ملكي، أما من الناحية الواقعية والسياسية فهو حزب ليس كباقي الأحزاب في نظر الدولة، فما هو التأويل المنطقي الذي يمكن إعطاؤه للتشبيه الذي قدمه الملك إلى ابن كيران؟

إن العملية القيصرية التي قامت بها الدولة في جسم حزب العدالة والتنمية استهدفت ما يلي:

1/  هيمنته على المشهد السياسي واعتماد الخطاب الأخلاقي: لذلك عمدت الدولة إلى ضرب بعض رموزه ورموز الحركة الإسلامية بسلاح الأخلاق الذي يستعمله الحزب، فتابعت بعضهم بتهم أخلاقية، ونشرت لآخرين صورا في أوضاع “متناقضة مع قيمه” عبر صحافة التشهير، وهو ما يمكن أن نطلق عليه: (ضرب منظومة القيم والأخلاق عند قادته).

2/ تصادمه مع مرجعية الدولة واختياراتها السياسية والاقتصادية والثقافية: إن الدولة المغربية ليبرالية الفكر والثقافة والاقتصاد، وهذا واضح من خلال إعلامها وتعليمها وعلاقات رجالاتها التجارية، إضافة إلى تبعية الدولة الاقتصادية والثقافية إلى فرنسا، كما أن علاقتها الاستراتيجية العميقة مع الكيان اليهودي/الصهيوني لا تخطئها العين، وهو ما يناقض توجه ومذهب الحزب في هذه القضايا، الأمر الذي يسبب للدولة إزعاجا كبيرا عمدت إلى التخلص منه بتوريط الحزب في تمرير قوانين مصادمة لمرجعيته وهويته وورقته المذهبية المؤسسة (اتفاقية سيداو في عهد ابن كيران، وقانون القنب الهندي وقانون الإطار وتوقيع اتفاقية السلام مع الكيان في عهد العثماني)، لتنتهي معه مرحلة تغني حزب العدالة والتنمية بمسألة المرجعية وتعنيه بالقيم ومقاومة التطبيع.

3/ قدرته التنظيمية: لقد أظهر الحزب منذ تأسيسه على صلابة تنظيمية وانضباط تنظيمي من طرف معظم أعضائه، ورغم بعض حالات الانفلات هنا وهناك في كل محطة انتخابية، إلا أن ذلك لم ينل من تماسكه ووحدة صفه، خاصة عندما يشعر الحزب أنه مستهدف من طرف فلول الدولة العميقة، فيرجع توا إلى جمع شمله وتوحيد صفوفه.

إلا أن هذه الوضعية أصبحت تعرف تلاشيا وضعفا متواترا، ويمكن الجزم بأن الإرهاصات الأولى لهذا التلاشي بدأت مع انتخابات 2003، عندما قرر الحزب أن يفتح باب العضوية على مصراعيه بتخفيف شروط العضوية إلى أدنى مستوى ممكن، وللتاريخ، أذكر أنني عندما كنت أحد أعضاء لجنة القوانين والمساطير، كنت ضد هذا الاقتراح نظرا لضعف بنية الاستقبال لدى الحزب، وغياب برنامج تكويني من أجل تأطير الأعضاء الوافدين، وأخبرت حينها المسؤول عن اللجنة أن الحزب لا محالة سيؤدي مستقبلا ثمن هذا الانفتاح غير العقلاني وغير المنضبط، والمفتقد لأي منهجية استيعابية أو برنامج تأطيري يحصن الأعضاء والحزب.

لا ينتابني شك أن ثمة اختراقات استهدفت الحزب تنظيميا وقيميا وفكريا. بعضها كان بهدف الوصول إلى تحقيق مآرب شخصية من قبيل الحصول على تزكيات وتمثيليات جماعية أو برلمانية، وكان هدف بعضها الآخر التأثير في منظومة قيم الحزب، واستدراج بعض أعضائه ضعيفي التكوين والانضباط إلى قيم غريبة عنه، واختراقات أخرى بهدف زرع الخلاف والشقاق بين أعضاء الحزب في أفق زرع انقسامات تنظيمية وخلافات سياسية وتدبيرية. ولكن أهم هذه الخلافات كانت بسبب الانتخابات الجماعية والبرلمانية التي كان التنافس بسببها مستعرا ومحموما أجهزت على جزء كبير من قيم الأخوة والتضحية والإيثار وغير ذلك من القيم التي كان الحزب يحث أعضاءه عليها.

ظهرت هذه الآفات بوضوح وقوة في انتخابات 8 شتنبر الأخيرة، الأمر الذي دفع ببعض من كان يعتبرون من قادة الحزب إلى تغيير انتمائهم مثل تغيير أحذيتهم، ومن ضمنهم من كانوا مفضلين من طرف ابن كيران نفسه، ويقدمهم بقوة عن غيرهم من الأعضاء الأوفياء والأكفاء (الرباط نموذجا)، فتخلوا عن الحزب في لحظة تعرض هذا الأخير إلى حملة شعواء وتشهير ممنهج وتبخيس مفضوح من طرف الدولة العميقة وفلولها. فساهم كل ذلك في المزيد من ترهل وإضعاف الحزب إلى مستوى غير مسبوق في تاريخه.

4/ النجاح المتصاعد للحزب على مستوى النتائج الانتخابية: هذه من القضايا التي شكلت إزعاجا حقيقيا للدولة، ولم تستطع في كل المحطات الانتخابية إيقاف زحف المصباح المتواصل والمطرد، وبلغ أوجه في انتخابات 2016 رغم كل محاولات التشويش والتضييق والتلاعب، ودعم مرشحي أحزاب أخرى ضدا على التقاليد الديمقراطية وواجب الحياد والنزاهة.

فرغم كل ما قامت به الدولة من أجل إضعاف الحزب، كما تم تفصيله أعلاه، إلا أن الدولة بقيت متوجسة ومتخوفة من أي نتيجة مفاجئة، فقررت تمرير قانون انتخابي يتصادم مع الدستور والتقاليد الديمقراطية والأعراف الانتخابية، هذا القانون الذي أصبح أضحوكة القانونيين والسياسيين وعوام المواطنين، ولم تنته المجزرة القانونية تلك إلا بمجزرة انتخابية كان التزوير والتلاعب بإغراق البلاد بآلاف مكاتب التصويت بشكل يعجز الحزب عن تغطيتها كلها وحرمان مراقبي الحزب من محاضر التصويت سيدة الموقف، الأمر الذي اكتفت معه قيادة الحزب بالتعليق أن نتائج هذه الانتخابات غير مفهومة؟ وبذلك ألقت الدولة بالحزب أرضا من الطابق 17 حسب تعبير ابن كيران.

والخلاصة التي يمكن استنتاجها من هذا المسار الذي أخذته الدولة من أجل محاربة ومحاصرة حزب العدالة والتنمية، هو أن هذا الحزب الذي يتغنى بقيمه ويتعنى بنتائجه أصبح كأي حزب سياسي عادي، منقسم، متحكم فيه، يمكن التلاعب به وبأعضائه بسهولة، يمكن إسقاطه في رمشة عين من القمة إلى أدنى مرتبة انتخابية، غير مسموع، وليس له أدنى تأثير أو حضور، سيصبح كأي حزب إداري صغير تستعمله الدولة بالشكل الذي تريد، وفي الوقت الذي تريد، هذه هي رسالة الملك إلى ابن كيران التي ربما لم يفهمها بالشكل الجيد، والأيام التي أتت بعد هذا التشبيه أسفرت عن حقيقة وصحة هذا التأويل.

فهل ستنجح الدولة في الإبقاء الحزب على حالة الترهل والضعف هذه في أفق انقسامه وتقسيمه؟ أم سينجح الحزب في مقاومة هذا المخط ويجمع شتاته ويوحد صفوفه والخروج من وضعه المؤسف هذا مع رؤية سياسية وأطروحة نضالية تدفع بالحزب من جديد إلى تصدر المشهد السياسي المغربي؟

يتبع: في الجزء القادم مع مقاربة الأسئلة المتبقية

 

اقرأ المزيد: الشعب، أخنوش، ابن كيران، وقضايا أخرى (الجزء الأول)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *