وجهة نظر

لا تنغصوا على الناس فرحة يومهم

إن اختلاف العقول في بيان الحكم من الاحتفال بالمولد النبوي مرده؛ إما إلى قصور علم الناظر، وبعده عن فهم المقاصد العامة للتشريع، وإما إلى إهماله قواعد التفكير المنطقي المسدد بالشرع ـ عمدة أصول الفقه ـ بعيدا عن إملاءات النفس التي تؤمن بالأفكار على سبيل الشيوع. ولذلك وجب القول، إن اختلاف الناس في أمر الاحتفال له شائبتان؛ الأولى سبق الوهم إلى الذهن أن كل من قصد إلى الفعل قاصد إلى الابتداع، رافض للإتباع وهو الأصل. الثانية عدم الفصل بين “نوع الاحتفال” و”أصل الاحتفال”، وذلك عدم التمييز بين حكم “نفس الأمر” وما يختلط مع نفسه من أمور، فكأن الناس تخلط بين “حكم الشيء” و”كيفية أدائه” أو “هيئات تنزيله”.

ولا يقال: إن أصل الاحتفال لا يدخل تحت لسان الدليل العام للشريعة الإسلامية{1}. ولم يثبت أن الصحابة رضوان الله عليهم فعلوا ذلك تعظيما للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم. لأنه حينئذ سيكون كل جديد من باب البدع، وهو أمر مردود لاعتبارات عدة، منها:

– قصد الصحابة أنفسهم إلى فعل ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في جمع القرآن ونقطه وتصنيفه إلى مكي ومدني… وغير ذلك مما لم يكن زمن النبوة، لكنه يخدم صالح الشريعة.

– أن السواد الأعظم من الأمة، دأبوا على التذكير بـ”الهجرة النبوية” والتأريخ لها، وتمجيدها بأسلوب حضاري بعيد عن مزاحمة الشريعة الإسلامية بما يسيء إليها، وهو نوع احتفاء.

– أن تمجيد جمهرة المسلين للتاريخ الإسلامي وإنجازاته العظيمة، نوع احتفال.

– أنه ليس من الصواب الدعوة إلى تجفيف العقل المسلم من إرثه وتاريخه، حتى لا تنضاف إلى أزماته أزمة أخرى بحجة نبذ كل جديد.

– أن تعظيم اليوم، لجلاله وقيمته ليس يعني مزاحمة الشرع بقصد التشريع ـ إلا من شذ ـ وإنما أشباه الأمر ونظائره من التحسينات المرغب بها شرعا. والشاهد ما جاء منْ طريق ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:”قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ. هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ”{2}. فإن قيل: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:” لاتطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله”.{3} قلنا: إن النهي عن الإطراء لايعني النهي عن الإحتفال بالمولد النبوي، وتمجيد النبي صلى الله عليه وسلم بما يليق به وهو خير البرية، إذ “الإطراء، الإفراط في المديح ومجاوزة الحد، وقيل هو المديح بالباطل والكذب فيه”{4} فدل ذلك على أن النص الحديثي، إن كان يمكن الاحتجاج به في أمر الإحتفال، فمن باب الحديث في “كيفه” لا في “أصله” فتأمل، ولا تطاوع هوى الشائعات. فإنما المراد من قوله “لا تطروني” بضم التاء، تجنب التقديس والتمجيد إلى حد التأليه كما غالت الأمم السابقة مع أنبيائها.

وبناء على الفرش السابق نقول: إن أصل الإحتفال ـ في تقديرنا ـ قائم، لا على سبيل الوجوب، بل على سبيل الترغيب والتعظيم. أما الذي ينبغي مناقشته والفصل فيه فهو “نوع الاحتفال وكيفه”، ولذلكم وجب القول: إن الشهر الذي عرف ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم وعرف هجرته وعرف وفاته، مناسبة، لها من الجلال والعظمة، ما يستوجب التوقف عندها شكرا للحق سبحانه على نعمة بعث المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه إلى الناس بقصد الهداية والإرشاد. خاصة مع فساد الزمان واكتفاء الناس، إلا بالواجبات الشرعية.

فمع التسليم بأن المولد النبوي ليس عيدا بالمعنى الشرعي{5}، إلا أن الاحتفاء به وتخصيصه بنوع من التمجيد الحضاري البعيد عن الخرافة يدخل في عموم الشريعة الإسلامية كالصوم والذكر وقراءة القرآن وصلة الرحم… حتى تتطبع النفس على شكر النعمة في هكذا ذكرى. ولذلك، “يكون الإزدراء بهذه المناسبة السارة وكأنها ليست بشيء من باب كفر النعمة”. {6}

هذا فصل القول في الشائبة الثانية مما سبق. أما الأولى وذلك سبق الوهم، فهو ناشيء عن سوء الظن بمن قصد الاحتفال بالذكرى، وهو باطل من وجوه عدة، منها:

– عدم تحقيق المناط الخاص والعام. ونقصد بهما في هنا، فقه تنزيل الحكم الشرعي بمراعاة الملابسة والمناسبة والحال والمآل، إن على مستوى الفرد، أو على مستوى المجتمع.

– عدم استصحاب البراءة الأصلية، وذلك بقاء ما كان على ما كان، حتى يرد دليل المنع؛ لأن الشيء على أصل الإباحة آباد الزمان، في غياب المانع الشرعي أو العقلي.

– ومنها إغفال قاعدة تسعة أعشار العلم، الاستحسان وهو استثناء يقلص من حيز إعمال القاعدة بمرجح ينقدح في ذهن المجتهد.

– ومنها، ترك العمل بالمصالح المرسلة، تلك التي لم يشهد لها الشارع بالاعتبار أو الإلغاء. ناهيك عن غياب النظر إلى أمر الإحتفال من الجهات كلها، وذلك استقراء ايجابيات الإقدام على الاحتفال بالمناسبة، وسلبيات الاحجام عنه.

إن إلصاق تهمة الابتداع بمن قصد تعظيم المناسبة النبوية، كيفما كان نوع الاحتفال وطبيعته مرده إلى الاستدلال بما لا ينهض حجة لتحريم أصل الاحتفال بالذكرى، وليس ذلك من العلم. كالاحتجاج بما جاء من طريق أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله عنها حين قولها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ” رواه البخاري ومسلم: وفي رواية لمسلم: ” من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد “{7} فإنه ليس يفيد نفي اعتبار كل جديد، وإلا للزم أن يكون العهد النبوي بفعاله قدرا محتوما لا تضاف إليه فعال ألبتة. وذلك تكليف ما لا يطاق، لأن فيه معنى الحفاظ على رتابة الأفعال{8} وذلك لا يتوقع وإلا لكانت حياة الناس ضربا من الزمن الماضي في الحاضر.

فالحديث النبوي إذن يحمل، لا على نفي كل أمر لم يكن زمن النبوة والصحابة أقرب الناس إلى عهد النبوة، ولكن يحمل على نفي المقاصد والمعاني والمصالح المضادة للدين. فهذا الذي ليس من “أمرنا” فوجب رفضه وعدم العمل به, وهكذا كل أمر ينبغي أن يفهم، فلو فرق الناس بين “أصل الشيء” و” نوعه”، بين “نفس الأمر” و “كيفية تنزيله” وجعلت نوايا المكلفين وأرواح النصوص في الحسبان، وتخلصوا من سبق الوهم والفكر المشاعة، لانتصر الحق لنفسه، ولكن الناس تبني على فساد الفهم وقصوره في حين تحسب حسن الصنيع وتخالف عناوين الشريعة العامة في حين تعتقد موافقتها. {9}

وحتى لا نسجد لسهو الزيادة على الواجب، نكتفي بهذا القدر فإن تمام الإيضاح فيه تطويل، مع أن الأمر له غور كبير، يحتاج إلى تأمل آخر. ، وحسبنا بالمختصر القول: إن المولد النبوي ليس عيدا فنزاحم به تصنيف الشريعة، ونأثم بقصد التشريع، ولا هو يوم للاستخفاف والتجاهل، والازدراء تحت لواء حجة الإتباع ونبذ الابتداع.
ــــــــــــــ
{1} نعني به المقصد العام من التشريع وهو رعاية المصلحة التي تحقق صالح الإنسان في المعاش والمعاد.

{2} صحيح الإمام البخاري، باب صيام يوم عاشوراء، ج 7 ، ص 127، وانظر الموطأ، للإمام مالك، باب صيام يوم عاشوراء، ج 2 ، ص 381 . والحديث مترر في جل كتب المتون. .{الموسوعة الشاملة}

{3} المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي، “باب لا تطروني…”،ج 1، ص 435./ المعجم الأوسط للطبراني، ج 4، ص 469. وكتب متون أخرى. .{الموسوعة الشاملة}

{4} أنظر هامش الكتاب السابق { ج 1، ص 435}. {الموسوعة الشاملة}

{5} مع التسليم بأن كل ما يعود ويتكرر يسمى عيدا بالمعنيين اللغوي والعرفي، إلا أنه حينما يستشري الجهل، ويختلط المعنى الشرعي باللغوي، يقع الحرج في بيان الحكم الشرعي من الإحتفال من عدمه. فيتعين بذلك الفصل بين المعنيين ضمانا لصحة التعبد من جهة، وضمانا لعدم مزاحمة تحسينات الشريعة الإسلامية لضروراتها في الحكم والفعل.

{6} عن الدكتور مصطفى بن حمزة المغربي، في إحدى مداخلاته على الرابط التالي على الشبكة العنكبوتية: http://www.youtube.com/watch?v=HkZSWvBd9mo

{7} صحيح الإمام البخاري، باب نقض الأحكام الباطلة ورد المحدثات، ج 9، ص 119، صحيح الإمام مسلم، باب نقض الأحكام الباطلة ورد المحدثات، ج 9، ص 119.{الموسوعة الشاملة}، وانظر الأربعين النووية، باب إبطال المنكرات والبدع.

{8} نرمي من خلال القول السابق إلى أن مظاهر الحياة الاجتماعية في العهد النبوي كما نقلت إلينا بتفاصيلها الدقيقة، إنما للاستئناس، لا للتشريع .

{9} أحب أن أشير هنا إلى أن الغلو في الإحجام عن الاحتفال، بلغ ببعض المسلين حدا يحاول من خلاله كل فرد منهم، أن يظهر الكآبة على مظهره في يوم الذكرى، حتى لا يتهم بالمبتدع في الدين ما ليس منه، بل ويتعامل مع الآبرياء ممن لا يضمرون قصد التشريع، بقمع شديد لمجرد التهنئة بالمناسبة النبوية، مع أن تعظيم المناسبة لا يرفع حكما شرعيا أو يقلل من شأنه، ما يستدعي مراجعة جادة ومسؤولة، حتى لا ننغص على الناس فرحة يومهم.