رمضانيات

الصيام والخمول والكسل .. أية علاقة؟ 

الخمول الكسل

تكرست العديد من الكليشيهات السلبية حول رمضان في أذهان عدد كبير من المسلمين. ومع كل بزوغ هلال رمضان تنبعث في لاشعورهم الصور النمطية السلبية المخزنة فيه لتقود سلوكيات تتناقض مع روح رمضان ومقاصده الاجتماعية والاقتصادية.

وبفعل تلك الصور النمطية يرى كثيرون أن الأنسب لقضاء شهر رمضان هو الراحة والعطالة، لذلك تنتشر كثير من العادات التي تربط بين الصيام والنوم نهارا والكسل والخمول، والتهرب من العمل الجاد.

ومن مفارقات هذا المنظور السلبي للصيام خلال شهر رمضان، هو أن معتنقي نظرية الكسل والخمول فيه لا يتوقف كسلهم وخمولهم على نهاره، بل يمتد إلى ليله نتيجة عادات أخرى تتعلق بالإفراط في الأكل وقضاء معظم الوقت أمام التلفاز.

وفي ظل انتشار ثقافة الكسل والخمول في رمضان، يواجه كثيرون ممن يضطرون إلى العمل، وكثيرون ممن لهم برامج رياضية، عقبة سيكولوجية للقيام بمهامهم وعاداتهم الصحية.

جذور عميقة

الصيام ليس فقط شعيرة دينية واجبة على المسلمين، أو حتى وسيلة لخفض الوزن أو تحسين الصحة في العموم، حسب الجزيرة نت، بل هو -من منظور أوسع- ضرورة تكيفية أسهمت في بقاء الجنس البشري على قيد الحياة.

ففي الزمن الذي كان يعيش فيه الإنسان العاقل حياة التنقل والتَّرحال من أجل الصيد وجمع الثمار، لم يكن الغذاء بالوفرة المتاحة لنا الآن، لم ينعم أجدادنا بثلاث وجبات ساخنة يوميا، مع وجبات خفيفة فيما بينها، بل كان الحصول على وجبة واحدة أمرا شاقا وقد يستهلك اليوم بأكمله، أحيانا دون النجاح في صيد فريسة مشبعة.

الصيام في تلك الحالة كان إجباريا، وكان للأشخاص الأكثر قدرة على تحمل الصيام والجوع ميزة البقاء والتكاثر. تلك الفئة -تحديدا- امتلكت قدرات ذهنية أعلى من حيث حل المشكلات والإبداع واستكشاف الأماكن، وهي ميزات ساعدت أصحابها على العثور على الطعام بطريقة أكثر كفاءة من منافسيهم، ومنحتهم ونسلهم فرصة أكبر للبقاء(1).

ومع مرور الزمن، بقيت لدى الإنسان المعاصر آليات للحفاظ على الطاقة خلال ساعات الصيام، ورثها عن جدوده قبل عشرات الآلاف من السنين، على الرغم من انتفاء الحاجة التكيفية للصيام الآن مع وفرة الطعام.

بل إن الأمر لا يقتصر على الإنسان فقط، فحتى في الكائنات الدقيقة، فإن الانتقال من بيئة غزيرة الغذاء إلى أخرى فقيرة، يدفع هذه الكائنات -مثل بكتيريا الإيكولاي المعدّلة على سبيل المثال- إلى دخول حالة تشبه الصيام؛ ما يساعدها على الحفاظ على الطاقة والبقاء لفترة أطول بـ4 مرات من نظيرتها الموجودة في الطبيعة(2). لكن هنا ربما تسأل: إذا كان الصيام ارتبط في الماضي بقدرات ذهنية أعلى، فلماذا تَحوَّل الآن إلى دافع للكسل والتراخي؟

وجبة من النوم

“مدفع الإفطار.. اضرب”، ينطلق النداء المحبب إلى النفس قبل لحظات من أذان المغرب، وبعد ترديد الأذكار يندفع الجميع لشرب العصائر وأكل التمور، ثم الانقضاض على محتويات المائدة الشهية، من المحاشي واللحوم والطيور والحلوى، تلك الأصناف الدسمة التي لا تقوى على القيام من مكانك بعد تناولها.

هنا عليك أن تدرك الفخ الأول الذي تقع فيه لتُصاب بالكسل الرمضاني، وهو فخ التخمة. بعد تناول وجبة دسمة وكبيرة كعادة وجبات الإفطار في رمضان، يندفع الدم بغزارة نحو المعدة، ويوجه جسمك معظم طاقته نحو عملية الهضم؛ ما يؤثر على باقي الجسم ويُشعِرك بالإنهاك وعدم القدرة على الحركة.

هناك أيضا ذلك الدوار والرغبة الشديدة في النوم اللذان يداهمانك فور انتهاء وجبتك الدسمة، ويرجع هذا التأثير إلى زيادة هرمون الإنسولين في الدم استجابةً للمحتوى النشوي في وجبتك؛ ما يساعد مادة “التريبتوفان (Tryptophan)” على عبور الحاجز الدموي الدماغي (blood-brain barrier) وصولا إلى الدماغ، مسببا الدوار. هذا التريبتوفان هو المُكوّن الأساسي لهرمون السيروتونين (Serotonin)، وهو الهرمون الذي يلعب دورا حيويا في تنظيم النوم؛ ما يفسر رغبتك في النوم بعد تناول الطعام(3)

الحل الواضح لذلك كله إذن هو تخفيف تلك الهجمة قدر الإمكان، الصيام هذا العام في معظم الدول العربية يمتد لنحو 15 ساعة في المتوسط، ما يمنحك حوالي 9 ساعات من الإفطار لتناول عدة وجبات صغيرة، تمنحك الطاقة اللازمة للقيام بعملك أو استذكار دروسك، وتمنح جسدك فائضا جيدا لتخزين الطاقة لليوم التالي.

جرِّبْ تناول وجبة خفيفة لكسر الصيام، بعض التمر واللبن على سبيل المثال، وتجنب تناول الكثير من العصائر السكرية، لأنها ستؤدي إلى اندفاع الإنسولين بغزارة في الدم؛ ما يسبب النعاس فيما بعد. هكذا يمكنك استغلال فترة ما بعد الإفطار مباشرة في الاستذكار لساعة أو اثنتين، أو تسليم المهمة المطلوبة منك على سبيل المثال، ثم تناول وجبتك الرئيسية باعتدال أيضا لتجنب التخمة.

بالإضافة إلى استغلال هذا الوقت في رفع إنتاجيتك، يمكنك أيضا ممارسة رياضتك المفضلة بعد تناول وجبة خفيفة بساعة واحدة، حيث توفر لك تلك الوجبة الطاقة التي تحتاج إليها للتمرين، دون أن تكون دسمة للحد الذي يسبب الغثيان أو ألم المعدة أثناء التمرين. ممارسة الرياضة بانتظام، بالإضافة إلى الصيام، يعملان على رفع مستوى التركيز والقدرات العقلية؛ ما يساعدك أكثر على أداء مهماتك الإبداعية بعد الإفطار

بعد تناول وجبة السحور، يبدأ الجسم فورا عمله في معالجة الطعام. بعد ابتلاع الطعام ووصوله إلى المعدة، تبدأ المعدة عملية هضم البروتينات القاسية، قبل أن ينتقل الطعام إلى الأمعاء الدقيقة لاستكمال هضم باقي مكونات الطعام. تستهلك هذه العملية من ساعتين إلى 4 ساعات في المتوسط حسب كمية الطعام ونوعه، لذا كلما كانت وجبة السحور دسمة ومتنوعة وكبيرة، استهلكت وقتا أكثر في الهضم(4). إن كنت ممن ينشطون صباحا، فربما عليك تجنب وجبة السحور الدسمة حتى تحتفظ بتركيزك ونشاطك لأداء مهماتك الإبداعية بعد الفجر.

لكن، ماذا عن النوم؟ لا يوجد وصفة واحدة مناسبة للجميع تتعلق بالنوم في رمضان، إذ إن المتحكم الأكبر في جدول النوم سيكون مواعيد العمل والتزامات كل فرد. إن كنت موظفا صباحيا تعمل من التاسعة صباحا، فعليك نيل قسط جيد من النوم خلال الليل حتى تستطيع مواصلة اليوم بتركيز جيد مع الصيام. إن كان هذا متعثرا، فاحرص على الأقل على أخذ قيلولة خلال ساعات الصيام، تمدك ببعض النشاط لمواصلة اليوم.

كيمياء الصيام

بعد تناول وجباتك وامتصاصها، يتم تخزين الفائض من الجلوكوز في الكبد على هيئة جزيئات جليكوجين في عملية تسمى “Glycogenesis”، أي تكوين الجليكوجين. هذا المخزون الكبدي يمكن تكسيره واستخدامه لاحقا مصدرا للطاقة في فترات الصيام. يُقدّر وزن الجليكوجين المُخزّن في الكبد بـ8-10% من وزن الكبد(5). جسدك الآن مستعد لمواجهة يوم طويل من الصيام بمخزون جيد من الجلوكوز.

تنخفض نسبة السكر في الدم بعد تناول وجبتك بحوالي 4-6 ساعات، ومن ثم تبدأ أعراض نقص السكر في الدم في الظهور ربما وأنت في الساعة الأولى من عملك الصباحي، أو أثناء المحاضرة الأولى في الجامعة(6). بالطبع تختلف هذه المدة من شخص لآخر، وفقا لنوع الطعام الذي تناولته آخر مرة، والمجهود البدني الذي بذلته، ومعدل الأيض الخاص بك. عندما تبدأ بالشعور بصداع خفيف أو دوار بسيط، وربما رعشة في اليد أو برودة في الأطراف، وربما فقدان التركيز فيما تفعل والعصبية والتوتر، قد تكون هذه علامات على نقص سكر الدم.

في حالة الصيام، ومع عجزك عن تعويض نقص السكر من مصدر خارجي، يؤدي انخفاض الجلوكوز إلى تنشيط عملية تكسير الجليكوجين المُخزّن في الكبد. يتحول الجليكوجين إلى جلوكوز، وتستعيد نشاطك وتركيزك من جديد لبعض الوقت بعد حوالي 8-12 ساعة من وجبة السحور(7). استغل هذه النافذة للقيام بأكثر المهمات التي تتطلب تركيزا، حيث يسكن شعور الجوع قليلا، وتزول أعراض نقص السكر بالدم؛ ما يتيح لك فرصة قَدْرها بضع ساعات لإنجاز مهماتك.

يُستنزف مخزون الكبد من الجليكوجين خلال 24 ساعة تقريبا، ما يعني أنه من المفترض أن يكفيك لتظل نشيطا طوال ساعات الصيام، ولكن هذا لا يحدث، إذ بعد مرور عدة ساعات، وعند انخفاض مخزون الجليكوجين من الكبد، تصبح الأولوية في توزيع الطاقة للأجهزة الحيوية، كالمخ والقلب والكُلَى، وتتراجع أهمية العمليات العقلية والبدنية. ولكن ما زالت الكبد تمتلك حيلة أخرى، قد تنجح في مدك بدفعة أخيرة من الطاقة، لتحمل الساعات الأخيرة من الصيام.

فمع اقتراب مخزون الكبد من النفاد، تبدأ الكبد في تكسير الدهون وأحيانا العضلات، وتحويل جزيئاتها إلى جزيئات جلوكوز؛ ما يمنحك دفعة من الطاقة تكفي لبقائك حيّا ولكن دون القيام بمجهود كبير(8). لذلك، تجنب العمل الإبداعي في الساعات الأخيرة قبل الفطور، حيث تكون نسبة الجلوكوز في الدم في أقل معدلاتها. أيضا تجنب ممارسة الرياضة أثناء ساعات الصيام، إذ إن المجهود العضلي العنيف قد يستنزف مخزون الكبد من الطاقة في أقل من ساعتين؛ ما يتركك باقي اليوم مُجهَدا وفاقدا التركيز تماما. نسِّق جدولك بحيث تقع تمارينك الرياضية دائما في فترة الإفطار. ربما يمكنك النوم قليلا قبل حلول موعد الإفطار للحفاظ على ما تبقى من طاقتك

في النهاية، من المفيد أن تراقب نفسك في الأيام الأولى من رمضان، وتحدد الأوقات التي تشعر فيها بنشاط مفاجئ أثناء فترة الصيام. تلك الأوقات تخبرك أن الكبد بدأت في تزويدك بالطاقة من مخزونها، أو بخلق جلوكوز من عناصر أخرى لتستطيع الاستمرار. استغل هذه الفترات وابنِ لنفسك جدولا يوميا وفقا لها، لتكون المهمات التي تتطلب تركيزا عاليا متركزة في الساعات التي تشعر فيها بالتحسن، سواء خلال ساعات الصيام أو الإفطار.

كذلك تجنب الضغط العصبي، خاصة إذا كان مرتبطا باستذكار دروسك أو اقتراب امتحاناتك، أو لو كنت ممن يعملون في مجال إبداعي يتطلب تركيزا ومواعيد نهائية. ركز على ما يمكنك تغييره فقط، وما يمكنك التحكم به، مثل ساعات نومك ونوعية طعامك والساعات التي ستختار تخصيصها للمذاكرة أو العمل. كن مستعدا لاتخاذ بعض القرارات الصعبة، كالتحكم في كمية الطعام التي تتناولها على الإفطار، خاصة في التجمعات العائلية والولائم الرمضانية الوافرة بالمحاشي والسمبوسك والبقلاوة الشهية.

ربما يكون شهر رمضان مرتبطا في أذهاننا بالطعام الشهي، ورفع القيود عن الممنوع من الطعام، والتخلي عن الحمية الغذائية لبعض الوقت، وأيضا التخلي عن الإنجاز والإبداع، والاستسلام للكسل. لذا، إذا كنت ترغب في تخطي هذا الشهر بروح جديدة وإنتاجية عالية، فلا بد من اتخاذ قرار واعٍ بتغيير العادات الرمضانية غير الصحية، والتي تجعل ساعات الصيام أكثر صعوبة، وساعات الإفطار أكثر خمولا، واعتناق عادات جديدة صحية، تنعكس بشكل إيجابي على صحتك وإنتاجيتك على حد سواء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *