لنا ذاكرة

لاستباق آثار الجفاف.. هكذا ادخر المغاربة أقواتهم قديما في المخازن والمطامير

عاش المغرب خلال العصر الوسيط عشرات الكوارث الطبيعية، كانت أشبه بسلسلة مترابطة تبتدئ دوما بالجفاف، حيث إن موجات القحط الحادة التي ضربت مناطق عدة من المغرب بشكل متلاحق، تسببت في الغلاء وشح الغذاء ثم المجاعات بعد ذلك، فالأوبئة والجوائح التي حصدت عشرات آلاف الأرواح.

هاجس الادخار

لقد تضافرت كل هذه التقلبات الطبيعية والحروب لتشكل هواجس أثرت في عقلية سكان المغرب آنذاك، ليصبح عندهم الادخار والاقتصاد في الإنفاق، سواء الفردي المتعلق بالأشخاص أو الرسمي المرتبط بالدولة، عادة راسخة، بل ضرورة ملحة، فتم تخزين الأطعمة، خصوصا الحبوب، في المطامير والمخازن.

وفي هذا الصدد يقول صاحب كتاب “الكوارث الطبيعية وأثرها في سلوك وذهنيات الإنسان في المغرب والأندلس” إن سكان مراكش تعودوا، إبان المجاعات الدورية التي ألمت بهم على اتخاذ مخازن، حيث لم تنفرج المجاعة الشديدة التي حلت سنتي 1235 و1236 إلا باستخراج الحبوب من مخازن عرب الخلط الجماعية.

أما سكان مدينة سبتة فقد أحدثت المجاعة العظيمة لعام 1239 تغييرا عميقا في سلوكهم وعاداتهم، “فصاروا يختزنون المطامير في كل عام حيطة على أنفسهم من مثل هذه المجاعة التي لم يعهد مثلها في الأعوام الفارطة قبلها”، كما جاء في “اختصار الأخبار”.

وفي مدينة فاس مركز المرينيين، تنافس السكان في خزن ما يكفيهم من المؤن مدة سنتين، حيث “أفرطوا في نظر العواقب، حتى إن الرجل منهم ليدخر قوت سنتين من حبوب الحنطة، ویباکر الأسواق لشراء قوته ليوم، مخافة أن يرزأ شيئا من مدخره”، حسب ما ورد في مقدمة ابن خلدون.

وتميزت المخازن والمستودعات في عهد المرينيين بطاقتها الاستيعابية الكبيرة، حيث تفردوا في بناء مخازن ذات طوابق وممرات تسمح بدخول دواب النقل إلى أفنيتها، وأدخلوا التحسينات على تصاميمها، يقول صاحب كتاب “اختصار الأخبار” في وصف فنادقهم: “ومن ضخامته أن له بابين، باب إلى صحنه، والآخر إلى الشوارع المحملة الدائرة بالطبقة الثانية لكون الأرض مرتفعة من تلك الجهة، تدخل على البابين الجمال بأحمالها مع الارتفاع والاتساع الكبير، فإذا أبصر الرائي ما يدخل منها على الباب الأعلى ودورانها في تلك الشوارع بأقتابها وغرائر الزرع المحملة عليها هاله ذلك وتعجب منه”.

حفظ المدخرات من التلف

ولحفظ الطعام المخزن أطول مدة ممكنة، دعا علماء الفلاحة إلى تعميم بعض الخلطات في مستودعات البوادي، حيث تكون فعالية هذه المخازن أكبر إذا “نقع قثاء الحمير في الماء وعجن به رماد لم يستعمل وطلي به باطن البيت، أي ذلك صنعت لم يقرب الطعام سوس ولا فأر”، كما جاء في “المعيار المعرب”.

ومن نصائح علماء الفلاحة لحفظ المدخرات من التلف أن يحصد الشعير “وفيه بقية رطوبة، والقمح إذا لم تبق فيه رطوبة، وأما الدارس فأحسنه الذي يدرس ساعة حصاده فإن ذلك يمنعه من السوس”، و”الأفضل للزرع أن يترك في سنبله”، وأما المخازن فيستحسن أن “لا تجعل فيها كوة مما يلي القبلة، ولا تجاور بها المطابخ ولا مرابط الدواب لحرّها”، كما “يبقى أحسن شيء في التخزين أن يكون باب المخزن للغرب أو للجنوب وكذلك يكون البيت”، بحسب ما نقل صاحب “الكوارث الطبيعية وأثرها في سلوك وذهنيات الإنسان في المغرب والأندلس”، عن عدد من المصادر التاريخية.

هكذا حرص مهندسوا المستودعات على ضرورة توفر عنصر التهوية اللازمة لسلامة المدخرات من التلف والفساد فاعتبروا ذلك شرطا ضروريا عند بنائها، وذلك بأن تكون لها “كوى من قبل المشرق والمغرب لتخترقها الريح ويخرج منها وهج الحرارة”، كما أورد ابن حجاج في “المقنع في الفلاحة”.

واستعملت الدول في المغرب مخازن ومطامير ومستودعات، بنيت وفق شروط استحضر القائمون عليها أهمية المناخ وطبيعة التضاريس لصيانة المواد المدخرة من التلف، إلى جانب اختيار المواقع الاستراتيجية، وهي الشروط التي توفرت بعضها في المخازن المرابطية، حيث يروي الأنصاري في “اختصار الأخبار”، في سياق حديثه عن آثارهم بسبتة، أن “عدد المخازن ثمانية عشر مخزنا بالمدينة… منها الطالع الكبير الغد النظير طالع سبتة، الذي بأعلى جبل مينائها المعروف عند الناس بالناظور… وبه قلهرة كبيرة وبداخل القلهرة مسجد”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *