منوعات

بعد سقوط الزهرة .. هل يصبح المريخ الموطن الثاني للبشر مستقبلا؟

مع توقع أن تضيق الأرض بسكانها، أوجد الخيال العلمي مند عدة عقود أرضا بديلة للبشر، وتوالت عشرات الروايات والأفلام في نسج قصص مغادرة جموع من نخبة البشر الأرض نحو كواكب مختلفة، الزهرة في البداية قبل اكتشاف أنها جهنم حقيقية، ثم المريخ، وكواكب أخرى بعيدة اخترعها الخيال لتؤوي البشر الهاربين.

وحتى في الخيال يعيش البشر حيرة في أن يجد ملجأ يؤمن مستقبل جنسه، فيخترع عواصف من نار، او زلازل تقلب الكون رأسا على عقب، إلى مخلوقات فضائية شريرة غازية، … وفي كل مشاريع الخيال لا ينجح أمر الاستقرار إلا على الأرض التي لم يحافظ عليها بفعل الجهل والجشع.

وفي كل الأحوال هل المريخ يصلح بديلا للأرض أو أرضا ثانية للبشر؟

لا شك أن رواية “آخر وأوّل الرجال” للمؤلف البريطاني أولاف ستابلديون، الصادرة عام 1930، حسب الجزيرة نت، كانت عملا غير مسبوق في تاريخ الخيال العلمي، فيها وصف مستقبل البشرية من الوقت الحاضر فصاعدا عبر مليارَيْ سنة، مُتحدِّثا عن ظهور 28 نوعا مختلفا من البشر أولهم نحن، ومُتنبئا بعلوم الهندسة الوراثية، لكن أكثر ما يُثير الانتباه لا شك كان قوله إن البشر مستقبلا سيتَّجهون إلى استصلاح الكواكب الأخرى.

توالت بعد ذلك الأعمال الروائية التي تتحدث عن استصلاح الكواكب، لكن كارل ساجان، الفلكي الأميركي واسع الشهرة، كان قد نقل الأمر إلى حيّز النقاش العلمي في الستينيات حينما قال إنه يمكن للبشر استصلاح كوكب الزهرة، مُقدِّما بعض الآليات المحتملة لذلك، الزهرة هو توأم الأرض، ويُعَدُّ نسبيا أقرب الكواكب لها، ومن الطبيعي أن يكون أول المرشحين.

لكن مع ورود نتائج المهام الفضائية الأولى إليه، أصبح الزهرة آخر المرشحين، فقد تأكدنا أنه ليس إلا جهنّم مستعرة، مع درجات حرارة هي الأعلى في المجموعة الشمسية، حتى إنه إذا قُدِّر لشخص ما أن يقف على الزهرة فستكون مشكلتنا هي: ما الذي قتله أولا، الغاز السام، أم الضغط الجوي، أم الحرارة؟

لماذا نهتم أصلا؟

هنا توجَّهت الأعين إلى المريخ، كوكب لطيف إذا قررنا استخدام لغة أدبية؛ نصف حجم الأرض تقريبا، ويومه يساوي تقريبا 24 ساعة، بعيد لكن الرحلة إليه تقطع في ستة أشهر فقط (مرشحة للنقصان)، درجة الحرارة على سطحه -في خطوط العرض المتوسطة- تساوي نحو سالب 63 مئوية، مناخ قاسٍ لكن يمكن للبشر تجاوزه، بالفعل تصل حِدَّة الطقس إلى هذا الحد في بعض المناطق القطبية هنا على الأرض.

أضف إلى ذلك أن العلماء يتوقعون أن المريخ كان، ربما، كوكبا أخضر يوما ما، قبل عدة مليارات من السنوات، المؤكد هو أن كاميرات مركباتنا رصدت بالفعل وجود أنهار قديمة جرت فيها المياه قبل زمن سحيق، لا نعرف لِمَ توقفت عن الجريان، وهو نطاق بحثي مزدهر حاليا يهدف إلى فهم التغير المناخي القاسي الذي أدى إلى ذلك، لكننا نعرف أنها إذا جرت هناك يوما ما، فيمكن أن تجري مستقبلا بطريقة ما.

هنا تحديدا يظهر سؤال مهم: لِمَ من الأساس نهتم باستصلاح كوكب آخر؟ وهو سؤال وجيه ومهم ويطرحه البعض بالفعل في أروقة الحكومات والمجالس النيابية بالدول المتقدمة، نتحدث هنا عن تريليونات الدولارات إذا بدأت خطة كهذه بالفعل، لكن هناك إجابة بسيطة عن هذا السؤال، وهي أننا سنترك الأرض يوما ما لا محالة، ببساطة لأنه لا يوجد في هذا الكون شيء أبدي.

لنبدأ بالاحتمالات الأقرب زمنيا، كان ستيفن هوكينغ على سبيل المثال قد توقع قبل سنوات من وفاته أن الحياة البشرية على الأرض مهددة بالانقراض خلال عدة مئات من السنوات وبحد أقصى ألف سنة، وهذا الاحتمال مبني على عدة أسباب منها التغير المناخي الذي يُعيد تشكيل البيئة الأرضية بالفعل. يوما بعد يوم، ترتفع معدلات الموجات الحارة والباردة والأعاصير الاستوائية والعواصف الرملية والترابية، تزداد معدلات التصحر بنِسَب فلكية، ويضرب الجفاف جوانب الكوكب فيترك الناس بلادهم ويهاجرون إلى أماكن أخرى، أضف إلى ذلك كله أننا بالفعل -بحسب فريق من العلماء- نعيش انقراضا سادسا تختفي خلاله الأنواع بمعدلات أعلى بعشرات الآلاف من الأضعاف عن الحالة الطبيعية

من جانب آخر، فإن البشر أنفسهم، كما يبدو، كائنات غير مستقرة كفاية لتقبل التطور التكنولوجي، تأمل مثلا الحرب الأوكرانية الحالية، منذ اللحظة الأولى هدَّد الروس -وما زالوا- باستخدام السلاح النووي، وهو أمر أخطر مما تظن، قد تقول إن حربا نووية ستقتل الملايين، قد تتصور أنها يمكن أن تؤثر في الزراعة والصناعة وتُسبِّب هبوطا اقتصاديا، لكن الواقع أن علماء هذا المجال مجمعون على أن احتمال أن تتسبَّب حرب نووية في تغير مناخي هائل يمكن أن يُفني البشرية جمعاء قائم بالفعل!

هذا ولم نتحدث بعد عن أن استصلاح كواكب أخرى قد يكون، يوما ما في المستقبل البعيد، أحد الحلول المهمة لنقص الموارد المُتزايد على كوكبنا يوما بعد يوم، لسبب واحد وهو أننا -ببساطة- نستهلك مواردنا بمعدلات قياسية .

كل ما سبق ليس حتميا، يمكن يوما ما أن نصلحه، لكن هناك أشياء لا يمكن أن يصلحها أحد، القمر مثلا يبتعد عن الأرض يوما بعد يوم وسوف يترك مداره يوما ما خلال مليار إلى مليار ونصف عام، الشمس نفسها ستتحوَّل في مرحلة ما إلى عملاق أحمر سيجعل من الحياة على الأرض، بشكلها الحالي، مستحيلة، الأرض نفسها ستصاب بنوع من “القفل الجيولوجي” يوما ما، كل هذه الاحتمالات بعيدة جدا زمنيا، لكنها قادمة لا محالة.

لنبدأ بالتحويل

حسنا، الهدف إذن هو أن نتمكَّن من حمل مواطن ما في هذا الكوكب إلى سفينة فضاء، ثم الذهاب في رحلة إلى المريخ وإخراجه من باب المركبة الفضائية لاستنشاق بعض الهواء الممتع والمُضي قُدما لأداء مهامه التي جاء ليُنفِّذها، هنا يكون الضغط الجوي الحالي للمريخ أكبر مشكلاتنا، فهو يساوي أقل من 1% من الضغط الجوي على كوكب الأرض.

دعنا نُعرِّف الضغط الجوي على أنه وزن عمود الهواء الذي يقف الآن فوق رأسك ووصولا إلى أعلى نقطة في الغلاف الجوي، إنه السبب في أنك تتمشى على الأرض دون أن ترتدي بزة فضائية معدّلة للضغط، ببساطة لأنك لو كنت الآن على سطح المريخ لانسحب الهواء فجأة من رئتيك بسبب فارق الضغط الهائل، هذا بجانب أن سوائل جسمك ستصل إلى مرحلة الغليان، لأن درجة الغليان تنخفض مع الضغط، وستموت خلال 10-15 ثانية. حتى على الأرض نحتاج إلى أن نعادل الضغط الجوي في الطائرات على ارتفاع عدة آلاف من الأمتار فقط!

لرفع الضغط الجوي الخاص بكوكب ما، يجب أن تقوم بملئه بالغاز، هنا يجيء دور ثاني أكسيد الكربون، كانت بعض الدراسات قد وجدت أنه لتكثيف الغلاف الجوي للمريخ يجب أن نحرر ثاني أكسيد الكربون من الثلج على الأقطاب، ومن التربة كذلك. سوف يساعد ارتفاع نِسَب ثاني أكسيد الكربون كذلك في درجة حرارة الكوكب لأنه من غازات الصوبة الزجاجية (في الواقع فإنه يرفع حرارة كوكبنا بينما نتحدث)

كانت هناك اقتراحات بابتكار تقنية لتوجيه مجموعة من المذنبات تقوم بضرب المريخ فتُثير غازاته، إنه ما حدث مع الأرض في أيامها الأولى وهو -مع آليات أخرى- ما صنع غلافها الجوي الصديق للحياة. على الجانب الآخر، اقترح فريق آخر يقوده إيلون ماسك، رجل الأعمال عالمي الشهرة، أن نضرب المريخ بآلاف القنابل النووية من الآن ولا ننتظر، سيُثير ذلك الغبار الذي نريده بالقدر الكافي، ولننتظر عدة مئات من السنوات حتى يزول أثر النووي وينضبط حال الكوكب

لكن المشكلة أن دراسة نُشرت عام 2018 في المجلة المرموقة “نيتشر أسترونومي” قد خلصت إلى أن المريخ لا يحتوي على ما يكفي من ثاني أكسيد الكربون اليوم لتحقيق المطلوب، فقط ستُحقِّق تلك الضربة النووية أو النيزكية ما مقداره 7% من درجات الحرارة وكثافة الغلاف الجوي اللازمين للحياة، كتب الباحثون: “نستنتج أن إعادة تشكيل المريخ ليصبح أرضا غير ممكن باستخدام التكنولوجيا الحالية”.

لا تقف المشكلات التي تواجه جهود تحويل المريخ إلى أرض أخرى عند هذا الحد، هناك مثلا مشكلة تتعلق بجاذبية الكوكب التي تساوي 38% من جاذبية الأرض، لو عاش البشر في مثل هذه الجاذبية المنخفضة لفترات طويلة فستظهر مشكلات صحية مثل فقدان العضلات ونزع المعادن من العظام، أضف إلى ذلك أن المريخ بلا غلاف مغناطيسي، ما قد يتسبَّب في مشكلات طبية وتكنولوجية، لأن دفقة واحدة من الرياح الشمسية يمكن أن تُعطِّل كل شيء من الكهرباء إلى الاتصالات.

وإذا لم يكن ذلك كافيا، فإليك المزيد من الصعوبات. يعرف العلماء اليوم أن كوكب المريخ غير ثابت في ميله بسبب جذب المشتري القريب، كذلك فإن قمرَيْ المريخ صغيران جدا بالنسبة للكوكب، ديموس (بقطر 15 كيلومترا فقط) وفوبوس (بقطر 25 كيلومترا)، يعتقد بعض الباحثين أن الكوكب كان بحاجة إلى قمر كبير نسبيا كي يحافظ على اتزانه.

الأرض أيضا تتأثر بعدة قوى بشكل منتظم أثناء دورانها حول الشمس، فبجانب جاذبية الشمس، هناك أيضا جاذبية الكواكب الأخرى، خاصة العملاقة منها كالمشتري، تؤثر تلك القوى الجذبية بشكل مباشر في مدار الأرض وميل محورها، الذي يقف الآن عند 23.4 درجة. لكن القمر -بكتلة كبيرة نسبيا تساوي خمس الأرض- يحافظ بدرجة أكبر على ميل الأرض، يشبه الأمر راقصيْن على الجليد، حينما يمسك كلٌّ منهما بيدَيْ الآخر ويحافظان على اتزان بعضهما، المريخ لا يمتلك تلك الميزة، لذلك كثيرا ما يتغير ميله. الأمر الخطير هو أنّ تغيرا طفيفا في الميل يضرب المناخ تماما، إذ يتركز ضوء الشمس على سطح الكوكب في مناطق دون غيرها مع كل تغير، وبالتالي تتغير قيم درجات الحرارة والبرودة والنظام المناخي بصورة جذرية، قد يكون المناخ رطبا جدا ثم يصبح جافا جدا، أو قد يتحوَّل المكان من صحراء إلى غابة مطيرة

من جانب آخر فإن الكوكب مُقفل جيولوجيا، لا يحتوي على الصفائح التكتونية، وهي الحركة الدائمة لقطع القشرة الأرضية تجاه بعضها بعضا، تلتقي الصفائح التكتونية معا فتصنع الجبال، مثل الهيمالايا، وتبتعد عن بعضها فتصنع القيعان والوديان، مثل الوادي المتصدع الكبير في شرق قارة أفريقيا، وتنزلق قبالة بعضها بعضا فتصنع البراكين، وكل ذلك كان يُعيد تدوير الماء وثاني أكسيد الكربون، ومعهما العناصر الضرورية للحياة، عبر مليارات السنوات على كوكب الأرض.

هل نجد في المجموعة الشمسية كواكب تحتوي على صفائح تكتونية متحركة؟ للأسف لا، يُعتقد أن المريخ كان كذلك يوما ما قبل عدة مليارات من الأعوام، الأمر الذي ساعده بالفعل على الحفاظ على الماء وربما النباتات والحياة، لكنه توقَّف. كذلك فإننا نمتلك فقط تقنيات محدودة لتكشف لنا مدى شيوع الصفائح التكتونية في الكواكب حول النجوم الأخرى

قصر القمر

كل ما سبق لا يوقف فكرة أننا من الممكن أن نُحوِّل المريخ إلى أرض أخرى يوما ما، لكنه فقط يؤجل الفكرة لفترة زمنية أطول مما قد يتخيّل البعض، ربما بعد عدة مئات أو آلاف من السنوات يحدث ذلك، لكن بالتأكيد ليس الآن وليس خلال هذا القرن، لكن ما الذي يمكن أن نفعله خلال هذا القرن؟

قبل عدة سنوات قال إيلون ماسك إنه بحلول عام 2050 سيحتوي المريخ على مستعمرة تحتوي على مليون شخص، ونحن نجد ذلك توقعا متفائلا إلى حدٍّ كبير في تلك الفترة الزمنية، لكن ماسك بوصفه رائد أعمال يتحدث بلغة التطور التقني الذي كان مساهما كبيرا فيه، فصواريخ ماسك التي تعود إلى أدراجها سالمة الآن تُخفِّف من تكلفة الحمولات الفضائية إلى أقل من مليون دولار بعد أن كانت عدة مئات من الملايين، لو مددنا الخطوط على استقامتها لتوصلنا إلى مرحلة ليست ببعيدة جدا ستوضع خلالها محطة على المريخ

هناك بالفعل محاولات لفعل ذلك الآن، على سبيل المثال كان فريق بحثي تابع للحكومة الصينية قد بدأ في عام 2014 مشروعا جديدا يهدف إلى خلق ظروف قمرية داخل وحدة مغلقة على الأرض، ثم تصميم هذه الوحدة لتتقبَّل وجود حياة بشرية لفترة طويلة دون الحاجة إلى إمدادات خارجية، سُمي المشروع “قصر القمر1” (Yuegong-1)، وفي عام 2017 أنهى الفريق بناء قصر القمر، الذي يتكوَّن من ثلاثة قطاعات، الأول والثاني احتويا على منشآت لزراعة النباتات، والقطاع الثالث كان المكان الذي سيسكن فيه البشر.

فكرة قصر القمر هي خلق محيط حيوي مستدام، أي ألا تحتاج إلى أي دعم خارجي قادم من الأرض لأطول فترة ممكنة لأن ذلك مكلف جدا. لذلك صُمِّم قصر القمر بحيث يحصل ساكنوه على الأكسجين والطعام من النباتات المزروعة داخله، كذلك يُعاد تدوير الماء لتنقيته واستخدامه مرة أخرى، واستُخدِم البول والبراز سمادا، بالإضافة إلى ذلك تمكَّن هذا الفريق من إنماء نوع من الديدان التي تتغذى على الفطر الذي ينمو على فضلات النبات، واستخدامه لاحقا في الطعام.

في عام 2014، دخل أربعة متطوعين إلى قصر القمر ومكثوا بالفعل داخله لمدة 110 أيام دون أية حاجة إلى التعامل مع الخارج، بعد ذلك دخلت مجموعة أخرى إلى القصر لمدة 65 يوما، وفي التجربة الثالثة أمضى فريق آخر مدة 200 يوم داخل قصر القمر. في المجمل، قضى الخاضعون للتجارب 370 يوما داخل قصر القمر دون أية حاجة إلى إمدادات خارجية، ويطمح الفريق إلى إطالة تلك المدة قدر الإمكان مستقبلا.

الأمر الخاص بالاستدامة مهم جدا، حيث يمكن أن يُكلِّف نقل لبنة واحدة إلى المريخ أكثر من مليونَيْ دولار، لذلك يفترض العلماء أن الحل سيكون في خلق بيئة تخدم نفسها قدر الإمكان، وكان فريق من جامعة مانشستر البريطانية قد رجَّح أن تُبنى بيوت المريخ المستقبلية، والقمر كذلك، باستخدام العرق والدماء والدموع البشرية!

منازل المريخ

وبحسب دراستهم، التي نُشرت في دورية “ماتيريالز توداي بايو”، فإن بعض المركبات الكيميائية الناتجة كمخرجات من جسم الإنسان يمكن أن تلتصق بتربة القمر أو المريخ وتصنع نوعا صلبا من الخرسانة. أشار الفريق في الدراسة الجديدة إلى أن أحد بروتينات بلازما الدم (الألبومين) يمكن أن يعمل على إنتاج مادة تشبه الخرسانة، يطلق عليها “أستروكريت”، ذات مقاومة انضغاطية تصل إلى 25 ميجا باسكال، وهي تقريبا نفس القوة الموجودة في الخرسانة العادية.

وتعني المقاومة الانضغاطية قدرة المادة على مقاومة القوى الضاغطة عليها محوريا، وعند الوصول إلى حدود مقاومة الانضغاط تتحطم المادة، ولذلك فإنها خاصية أساسية لقياس فاعلية الخرسانة في البناء. توصلت الدراسة كذلك إلى أن دمج اليوريا، وهو إحدى النفايات البيولوجية ينتجها الجسم ويُخرجها من خلال البول والعرق والدموع، يمكن أن يزيد من قوة مقاومة الانضغاط بحيث تصل إلى 40 ميجا باسكال، أي أقوى بكثير من الخرسانة العادية.

وبحسب الدراسة، فإنه يمكن إنتاج أكثر من نصف طن من مادة الأستروكريت عالية المقاومة خلال مهمة مدتها عامان على سطح المريخ بواسطة طاقم مُكوِّن من ستة رواد فضاء، ويُمكِّن ذلك كل فرد من أفراد الطاقم من إنتاج ما يكفي من الأستروكريت لدعم إضافة عضو جديد للطاقم، وبالتالي يزداد عدد الأعضاء شيئا فشيئا وصولا إلى تكوين مستعمرة بشرية أولية.

أما شركة “أي آي سبيس فاكتوري” فقد فازت مؤخرا بمسابقة تابعة لوكالة الفضاء والطيران الأميركية وحصلت على 500 ألف دولار جائزة، استخدم مهندسو الشركة طابعات ضخمة ثلاثية الأبعاد لبناء منازل أسطوانية كبيرة مصنوعة من البازلت المركب والألياف النباتية، سُميت “مارشا”، أو منازل المريخ.
للوهلة الأولى يبدو الأمر بسيطا، لكن المريخ ذو طبيعة مختلفة تماما عن الأرض كما أسلفنا، تقريبا لا يوجد أكسجين، مع ضغط جوي منخفض جدا وبرودة قاسية، إلى جانب ذلك فإن نِسَب الإشعاع أكبر من تلك التي تتعرَّض لها الأرض بآلاف المرات.

في تلك النقطة تظهر التحديات، ولذلك كانت كل الاقتراحات السابقة تقول إن على منازل المريخ أن تكون تحت الأرض لكي تتحقق الحماية من كل ذلك، لكنَّ مهندسي “مارشا” أشاروا إلى أن الجانب النفسي للسكنى في المريخ أساسي لحياة مستمرة ودائمة، والحياة تحت الأرض لا تدعم ذلك. لذلك ظهر البازلت مكونا للمنازل المريخية في مقترح الشركة، فجدار مزدوج منه قادر على الحماية من الإشعاع، لكن هناك أهمية إضافية للبازلت وهو أنه متوفر بكثرة على سطح المريخ بسبب البراكين التي اندلعت قبل مليارات السنين، أما الألياف النباتية فيمكن الحصول عليها من نباتات يتم إنماؤها على المريخ.

يعني ذلك، بحسب مهندسي مارشا، أن كل ما يتطلبه الأمر هو أن تُرسل الطابعات ثلاثية البُعد الضخمة إلى المريخ وتُصمَّم آلية مستدامة للوصول إلى البازلت وإنماء النباتات، ثم بناء عدد ضخم من المنازل هناك دون الحاجة إلى نقلها إلى المريخ من الأرض، إنها مدن البشر الأولى التي قد تتجهز لاستقبالهم يوما ما.

فكرة أن يكون المنزل أسطوانيا أثارت انتباه باحثي ناسا منذ اللحظة الأولى، فالمنزل بهذا الهيكل يكون فعالا للغاية في الحفاظ على الضغط وبالتالي إعطاء مناخ داخلي شبيه بالأرض، كما أنها تُقدِّم أكبر قدر من الإمكانات ضمن أقل مساحة، ما يقلل كمية مواد البناء. من جهة أخرى فإن الشركة كانت قد عملت على إضافة نوافذ زجاجية متعددة للهيكل المنزلي، الذي يرتفع إلى ثلاثة أدوار كاملة تُتيح الكثير من المهام المنزلية العادية بفاعلية شديدة.

نجحت الطابعات ثلاثية البُعد الخاصة بشركة “أي آي سبيس فاكتوري” -دون تدخل بشري- في بناء نماذج مصغرة من تلك المنازل، كانت النماذج صلبة تتحمل الضغط، ومنغلقة تماما لا تمرر أي قدر من الهواء، ما دفع ناسا إلى الإقدام على الخطوة التالية وهي البدء في تنفيذ الفكرة باستخدام مقاييس أكبر.

فقط معجزة

حسنا، إذا كنا قد نجحنا في إثارة اهتمامك، فإليك المزيد. يفترض فريق آخر من الباحثين أنه يجب أن نبدأ من الآن بإرسال الحياة إلى المريخ، لكننا سنرسل صور حياة معدلة، مثلا أمكن بالفعل معمليا أن تُحوّر الإشريكية القولونية، وهي بكتيريا تعيش بصورة طبيعية في أمعاء البشر الأصحاء والحيوانات، جينيا لتتحمَّل العيش في بيئة مريخية تتعرَّض لنِسَب أعلى من الإشعاع فوق البنفسجي، يبحث البعض الآخر عن إنماء جراثيم منتجة للميثان داخل الكوكب، وفريق ثالث يريد أن نقوم بتحوير طحالب زرقاء ثم نلقي بكميات هائلة منها هناك لإنتاج الأكسجين على سطح المريخ، إنها الطحالب نفسها التي نفثت الأكسجين في مناخ الأرض فبات قابلا لاستقبال صور الحياة المعاصرة.

بالطبع هناك تحديات هائلة تواجه تلك المحاولات، ليس أقلها مثلا عفاريت الغبار، وهي رياح مريخية ساحقة تنشأ في الربيع والصيف يمكن أن تتسبب في مشكلات لأي مستعمرة مريخية، لكن يوما ما -ربما خلال عقدين من الزمن- سيصل البشر إلى المريخ، ومن تلك النقطة يفكرون فيما يمكن أن يحدث في المستقبل البعيد.

كل ما سبق لا بد أن يشعرنا بالامتنان لطبيعة كوكبنا الدافئ، ويدفعنا للتأمل في الظروف المعقدة التي تضافرت من أجل ضمان نشأة وازدهار الحياة عليه، بشكل يجعله يوما بعد يوم أكثر تفردا مما كنا نعتقد، لنصل إلى مرحلة تجلس فيها الآن على أريكتك المفضلة وتقرأ هذا التقرير دون حاجة إلى ارتداء أجهزة مركّبة كي تتنفس، تتحمل الضغط بشكل طبيعي، تأكل ما أتيح من خيرات الأرض وحيواناتها الأنيسة، تنام في هدوء غير مرتعب بما قد يحدث غدا، ترى القمر في مساء ونيس وتحبه، تتعامل مع كل ما سبق على أنه مسلمات، لكنه فقط معجزة، بكل ما تحمله الكلمة من معان.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *