وجهة نظر

سقراط: من نصيحة راعية إلى مواجهة الغباء

بقلم: أحمد الفراك *

مقدمة

وُلد سقراط (باليونانية: Σωκράτης‏) سنة 469ق.م بأثينا، من أبٍ نحَّاتٍ يسمى “سوفرونيسكو” وأمٍّ تدعى “فيناريت” كانت قابلة تُولد النساء. عاش بأثينا ومات بها، عُرف بتواضعه، وسعة فكره، وحِدة ذكائه، ودقة منهجه، وذماتة خُلقه، وقِصر قامته وبياض لحيته، مع بساطة عيشه حيث يقنع بثوب بسيط رث يلبسه طول السنة، ويفضل الحفاء على الأحذية كما وصفه كل من أفلاطون وأكسانوفون. ويعده أغلب المختصين والمهتمين بتاريخ الفلسفة من أعظم الفلاسفة في التاريخ، ولم يشتهر بشيء شهرته بكونه: مُعلم حكمة ومُحاور جمهور ومعارض سياسي.

كيف بدأ سقراط في التفلسف؟ وما هي معالم منهجه الفلسفي؟ وكيف قوام الابتذال والظلم وواجه جهالات عصره بشجاعة؟ وكيف استقبل حكم المحكمة بإعدامه؟

نصيحة الراعية:

يعترف سقراط بأن ما اكتسبه من فلسفة يرجع إلى نصيحة امرأة التقاها ذات يوم فحرَّضته على تعلم الحكمة لما اكتشفت فيه من فطنة وحُسن خلق. فما أن التقى تلك المرأة التي تُدعى “بولون” حتى بادرت إلى نصيحته بإلحاح بأن يطلب الحكمة ليصير حكيماً، فوجدت النصيحة في نفسه استعدادا للقبول والتمثل، وما أن انتهت من بذل النصح حتى حمل نفسه على طلب الحكمة بإقدام وشجاعة.

وهو يعاني من قسوة زوجته “زانتيب” عليه والتي كانت سليطة اللسان، كثيرة النقد، حادة الطبع، تتضايق من انشغاله بالفلسفة التي لا طائل منها، ومكثه طيلة اليوم مع الشباب، مقابل كسله عن العمل من أجل كسب قوت أبنائه. وقد تكون حجتها صحيحة، غير أن رغبة سقراط منعته من الالتفات إلى التهمم بالمعاش اليومي.

وفاء بدعوة الراعية التي صادفت ميلا نفسيا سيميه فيما بعد “جِني سقراط”، وكأن جنيا يسكنه يدفعه إلى التفلسف، تبادر إلى ذهنه السؤال: ممن تُطلب الحكمة؟ مَن الحكماء؟ مَن مِن الناس المؤهل لتعليم الحكمة؟

غباء أهل السياسة

بعد حيرة السؤال ورغبة التحصيل التي انقدحت في ذهنه جراء التقائه بالراعيةِ الحكيمة توجه سقراط إلى السياسيين ورجال السلطة لعله يجد عندهم الحكمة التي يبحث عنها بشغف، ظنا منه أنهم ما داموا يسوسون الناس ويُسيرون شؤونهم فلا بد أنهم حكماء نالوا من الحكمة النصيب الأوفر، إلا أنه بعد حوارهم فوجئ بأنهم يفتقرون إلى الحكمة. وأن قصدهم الوحيد هو الجاه والسلطة وحب الظهور والشهرة، وهذا في نظر سقراط غباء ما بعده غباء، فقال قولته الشهيرة معلقا على ما لاقاه “أكثرُ الناس شهرة أكثرهم غباء”.

ثم انصرف عنهم يائسا مما هم فيه من

إلهام الشعراء وأوهامهم:

بعد خيبة أمله في رجال السياسة توجه نحو الشعراء، فهم يقولون شعرا جميلا؛ موزونا مقفى معجِبا مبهِرا، وقد يمتلكون قدرا من الحكمة. جمع مجموعة من أشعارهم وحملها معه إليهم كي يدارسهم مضمونها، لكنه اكتشف أنهم يكتبون ما لا يفهمون وكأنهم مُلهمَون أو متنبئون يقولون ما لا يفهمون، فاعتبرهم جُهالا “يهرفون بما لا يعلمون”، ثم غادرهم.

غرور الصناع

غادر الشعراء دون حكمةٍ، وتوجه إلى الصُّناع لعله يظفر عندهم بقبس من الحكمة، إلا أنه بعد مجالستهم أيضا ومحاورتهم وجدهم يتكبرون بصناعتهم ويحتقرون غيرهم من الناس وكأنهم أذكى الخلق وأفضلهم على الإطلاق، فقال فيهم قولته الشهيرة “ذهبت سيئةُ الغرور بحسنة الحكمة”.

رجع سقراط من هذه الجولة موقنا بأنه أكثر منهم حكمة وأحسن حالا، وبينما هو في تجوله لطلب الحكمة دخل إلى معبد “دلف” وتأثر بحكمة مكتوبة فيه تقول: “اعرف نفسك بنفسك”، فحاول اتخاذها برنامج حياة يعمل بها في ما تبقى من حياته.

المنهج التوليدي/ الحواري:

المتتبع للتراث الذي وصلنا عن سقراط من خلال محاورات أفلاطون يتبين له بوضوح أن أهم ما يميزه هو منهجه الحواري التوليدي النقدي الذي من خلاله يولد أفكار الناس ويستفز أذهانهم، وكان يقوم بوظيفة القابلة (والقابلة باليونانية: μαῖα maia)، يقول: “كانت أُمي قابلة تُولد النساء وأنا أُولد الأفكار”، إذ كان يتوجه إلى محاوريه بأسئلة منظمة تستدرجهم إلى التخلي عن أفكارهم الجاهزة وقناعتهم المسبقة… تجنب الخوض في الإلهيات وحرَّض الشباب على النقد والتساؤل والحوار، وكان يقوم بالنهي عن التبعية العمياء والتقليد الساذج. سخر من القول بالصدفة في الوجود، لأن العالم يخضع لقوانين صارمة لا عبث فيها، يقول: “في الكون من الأمثلة الدالة على التناسق المدهش العجيب، ومن الخطة الواضحة المرسومة، ما لا يصح معه أن يعزى وجود العالم إلى الصدفة المحضة أو إلى أية علة غير عاقلة”.

التفَّ الشباب حول سقراط وتأثروا بمنهجه وأخلاقه، فتشكلت جماعة من المتفلسفة الصغار المحبين لأستاذهم، فأغضب ذلك حُكام أثينا وأغنياءها وكُبراءها مما دفعهم إلى التفكير في تدبير مكيدةٍ للخلاص من الفيلسوف المشاغب ومن منهجه الذي انتشر في الناس وتداولوه في كل مجلس، بل في كل بيت حتى اعتقدوا في صحته.

ذُبابة الخيل

نظرا للقدرة النقدية الكبيرة والمهارة العالية في الحوار في مقابل غباء حكام أثينا وتخوفهم من أن ينافسهم في السلطة، حيث لا يخفى تشويش أفكاره على سمعتهم، وفضح منهجه لادعائهم، وكشف شجاعته لكذبهم .. لذلك أضحى النعت المتداول بينهم عن سقراط هو: “ذُبابة الخيل”. ومعلوم أنه من أجل تخليص الخيل من ألم الذبابة وإزعاجها ينبغي قتلها

وبناء عليه وُوجِه سقراط بتهمتين خطيرتين:

ـ 1-التهمة الأولى:  إفساد عقول الشباب.

ـ 2-التهمة الثانية: إدخال آلهة جديدة والإساءة إلى آلهة أثينا.

من أجل التخلص من الذُّبابة وإبعاد الشباب عنها وتبخيس الفلسفة حقها، وقع تحريض سكان أثينا عامةً والآباء خاصةً على نبذ سقراط وكراهيته، بالإضافة إلى اتهامه في عقيدته حتى ينال سخط الآلهة وعبّادها… إذ غالبًا ما كان “سقراط” يشير إلى الإله بصيغة المفرد لا بصيغة الجمع، في مقابل رفضه الشديد لهيكل البانثيون الإغريقي المتعدد اللآلهة من الذكور والإناث ولم يستشهد بهم إلا كأمثلة لتوضيح ما يتصفون به من ضلال وخطأ في التفكير.

صورة محفورة لـ “سقراط” من العقيق الأحمر – في روما – ترجع للفترة من القرن الأول قبل الميلاد حتى القرن الأول بعد الميلاد

 

يوم المحاكمة ونهاية المعاناة:

كان يوما خاصا في أثينا: أثينا تُحاكم عقلها!

اعتقلت سلطات أثينا سقراط وودعته السجن، أتيحت له فرصة للهرب لكنه رفض إلا أن يمتثل للعدالة. تم تقديمه للمحاكمة، وعرضت قضيته على محكمةٍ قوامُها 501 قاضٍ، حكموا عليه بالإعدام بعد مرافعات كثيرة قابلها سقراط بدفاع قوي وسخرية لا تخلو من تهكم. لكن إصرار الحكام أدى إلى قتل حكيم الشباب عن طريق شرب السّم المستخلص من نبات “الشوكران”، فتجرع السم راضيا بحكم العدالة وهو في السبعين من عُمره.

فيما بيننا وبين سقراط

هل شخصية سقراط حقيقية؟ وهل حقا سقراط الذي نتحدث عنه هو كما هو؟ ألا يمكن أن يكون مجرد شخصية متوهمة لتلاميذه؟ أو على الأقل زِيدَ في خصالها حتى أمست مقدسة؟

للأسف لم يترك سقراط كُتباً نتدارسها، وإنما ترك قلة من التلاميذ نقلوا عنه فلسفته وهم معجبون به محبون له، أشهرهم أفلاطون وزينوفون وإسكنيز الاسفتوزي. وأشهرهم أرسطو قليس الملقب بـ”أفلاطون” التي تعني عريض الجبهة والكتفين، وإن كنا لا نستطيع التأكد من صحة رواية أفلاطون عن أستاذه، فلا مندوحة لنا عنها ولا خيار، حتى وإن خلط فيها بين أقواله وأقوال الفيلسوف الشهيد، مع العلم ديوجين ليرتيوس يؤكد الشك في ما نقله أفلاطون عن سقراط بقوله: “يقولون إن سقراط حين سمع أفلاطون يقرأ الليسيس Lysis صاح قائلاً: أي هرقل! ما أكثر الأكاذيب التي قالها عني هذا الشاب! ذلك بأن أفلاطون قد أنطق سقراط بأشياء كثيرة لم ينطق هو بشيء منها” كما نجد عند صاحب قصة الحضارة.

وقد ذهب أرسطو إلى محاورة الذكريات Memorabilia ومحاورة المائدة Banquet من القصص الموضوعة التي تخيلها أفلاطون أو نسبها إلى سقراط وهي من إنتاج الفيلسوف أكسنوفان الذي عاش هو الآخر مضطهَدا جراء إبطاله القول بتعدد الآلهة، وإيمانه بوحدانية الإله. وهو القائل في شهادته عن سقراط أنه: “بلغ من إنصافه أنه لم يظلم إنساناً حتى في أتفه الأمور، وبلغ من عدالته أنه لم يفضل في وقت من الأوقات اللذة عن الفضيلة، وبلغ من حكمته أنه لم يخطئ قط في تمييز الخبيث من الطيب، ومن قدرته على تبين أخلاق الناس ومن حضهم على اتباع سبيل الفضيلة والشرف أن بدا أنه بلغ أحسن ما يأمله أحسن الناس وأسعدهم”.

لوحة موت “سقراط” للرسام جاك لوي ديفيد 

 

وعن لحظة الإعدام ننقل هذا النص ليسوف كرم في كتابه تاريخ الفلسفة اليونانية:

” مُفسِد الشباب على حد تعبير أعداء المعرفة والحكمة، وأول شهيد في الفلسفة، حكموا عليه أن يتجرع سموم جهلهم، رفض أن يطلب الرحمة من الجماهير التي احتقرها دائماً. جاء أصدقاؤه إلى سجنه وعرضوا عليه مهرباً سهلاً، لكنه أبى ذلك! ربما اعتقد أن الوقت حان ليُفارق الحياة، وكان له ذلك عام 399 ق.م

يقولُ أفلاطون: نهضَ سقراط ودخل غرفة الحمَّام الكبير مع كريتو الذي طلب منا أن ننتظر، وانتظرنا نفكِّر ونتحدَّث، وعندما خرج علينا جلس معنا مرة ثانية. دخل السجَّان فقال له سقراط: هل تدلّني كيف أفعل وكيف أتقدم في شرب السّم؟ أجابه السجَّان: عليك أن تمشي فقط إلى أن تشعر بثقل قدميك فتستلقي، وبهذا يسري السّم في جسدك، وفي نفس الوقت قدم الكأس إلى سقراط الذي أخذه بأسهل و ألطف طريقة، ورفع الكأس إلى شفتيه في هدوء تام وابتهاج.
وانهمرت دموعي – يقول أفلاطون – على الرغم مني فغطيت وجهي وبكيت على نفسي لمجرد تفكيري بمصيبتي لفقدي مثل هذا الصديق. واستمر سقراط في المشي إلى أن بدأت قدماه تخوناه، فاستلقى على ظهره وبدأ البرود يصل إلى فخذيه. وبعد دقيقة سمعنا حركة، حيث قام الخادم بتغطيته، وقام كريتو بإغلاق عينيه وفمه. هكذا كانت نهاية صديقنا الذي أسميه بحقّ أحكم وأعدل جميع الرجال الذين عرفتهم في حياتي”. انتهى قول يوسف كرم.

 من أقوال سقراط:

1. “الشيء الوحيد الذي أعرفه تمام المعرفة هو أنني لا أعرف شيئا “.

2. “لا راحة لمن تعجَّل الراحة بكسله”.

3. “قلة الدِّين، قلة الأدب وقلة الندامة عند الخطأ، و قلة قَبول العتاب، أمراضٌ لا دواء لها”.

4. “نصيحتي لك هي أن تتزوج، فأنت إن وجدت زوجة صالحة ستسعد، وإن لم تجد ستصبح فيلسوفاً”.

5. “الحياة من دون ابتلاء لا تستحق العيش.”

قال عنه الحكيم الروماني شيشرون”: لقد أنزل سقراط الفلسفة من السماء إلى الأرض”

وقال عغنه أرسطو: “ثمة اكتشافان يمكن بحق عزو الفضل فيهما إلى سقراط: المقال الاستقرائي والتعريف العام، وكلاهما للعلم نقطة انطلاق”.

وقال أكسينوفون: “ما من أحد رأى قط سقراط أو سمعه يفعل أو يقول شيئًا فيه تدنيس للمقدسات أو كفر، كما أنه ما كان يناقش خلافًا لمعظم الاخرين حول طبيعة الكون، وما كان يبحث كيف ولد ما يسميه الفلاسفة العالم”.

ولذلك كان سقراط مثالا للفلسفة الحية التي تقصد الحكمة حيث كانت الحكمة وتدفع الثمن غاليا لتصنع المثال في الصمود، لا الفلسفة المتماوتة التي تدور مع العطاء حيث كان العطاء، وبئس الفلسفة هي…

* أستاذ الفلسفة والمنطق بكلية أصول الدين – عبد المالك السعدي بتطوان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • حكيم الوادي
    منذ 7 أشهر

    دمت مثالا أنيقا