منوعات

دراسات ترصد قصته .. كيف تطور النوم؟ ولماذا ينام البشر أقل؟

في الوقت الذي ينبه فيه الخبراء إلى أن معدل النوم الصحي اليومي لا ينبغي أن يقل عن 7 ساعات، وفي الوقت الذي يعتقد فيه كثيرون أن الناس الذين يعيشون في مناطق غير متحضرة وبدائية يستمتعون بساعات إضافية مقارنة مع الذين يعيشون في المناطق الصناعية، تكشف دراسة علمية أن سكان تلك المناطق غير المتحضرة ينامون في المتوسط أقل من سبع ساعات في اليوم.

الاكتشاف الجديد فاجأ العلماء، مما دفعهم إلى البحث في تطور النوم عبر التاريخ وفي وتنوعه حسب مختلف الكائنات.

ومثل هذه البحوث، تفيد في ترشيد فهمنا لظاهرة النوم بشكل أكبر، وخاصة فيما يتعلق باختلاف مقداره الذي يجعل البشر أقل نوما من غيره من الكائنات.

فكيف يختلف مقدار النوم عند البشر عن غيره؟ وكيف تطور النوم عكس التوقعات؟ وكيف نفسر “المفارقة العجيبة لنوم البشر” حسب تعبير علماء الأنتروبولوجيا؟ وكيف أصبح التوتر الذي بات مرض عصرنا من مشكلات نومنا الأساسية؟

في التقرير التالي معالجة شاملة لقصة النوم.

البشر ينامون أقل

في الليالي القائظة، ينام الصيادون وجامعو الثمار من قبائل السان في ناميبيا بجنوب إفريقيا تحت ضوء النجوم، حسب الجزيرة نت، فلا أضواء كهربائية حولهم ولا إصدارات نيتفليكس الجديدة أمامهم تغريهم لكي يبقوا مستيقظين طوال الليل. ورغم ذلك، لم توفر لهم وتيرة حياتهم هذه على بساطتها عدد ساعات نوم إضافية تميّزهم عن سكان المدن الغربية الذين استحوذت عليهم حومة تصفح هواتفهم الذكية طوال الليل تبقيهم مستيقظين.

يرى ديفيد سامسون، عالم الأنثروبولوجيا التطورية في جامعة تورنتو بكندا، وحسب نفس المصدر، أن الأبحاث أظهرت أن متوسط عدد ساعات نوم البشر في المجتمعات غير الصناعية أو البدائية (باعتبارها البيئة الأقرب إلى نمط حياة أجدادنا قبل مئات الآلاف من السنين) أقل من سبع ساعات، وهو رقم يدعو للدهشة إذا ما قارناه بعدد ساعات النوم التي تستغرقها أقرب الحيوانات إلينا (وهي الرئيسيات).

ينام البشر عدد ساعات أقل من جميع أنواع القردة والسعادين، فالشمبانزي مثلا ينام نحو تسع ساعات ونصف، بينما تنام قردة الطمارين التي يغطي القطن رؤوسها ما يقرب من 13 ساعة، فيما يبقى الحائز على المرتبة الأولى في عدد ساعات النوم هو قرد الليل ذو الخطوط الثلاثة الذي تبلغ ساعات نومه نحو 17 ساعة، ونادرا ما يستيقظ.

أطلق سامسون على هذا التناقض اسم “المفارقة العجيبة لنوم البشر”، إذ كيف يمكن أن ننام أقل من الرئيسيات كافة، رغم أننا نعلم علم اليقين مدى الأهمية التي يُشكّلها النوم لذاكرتنا، وللوظائف المناعية، فضلا عن شتى الجوانب الصحية الأخرى. خلص أحد النماذج التنبؤية لنوم الرئيسيات -الذي اعتمد في تنبؤه على عدة عوامل، منها: كتلة الجسم، وحجم الدماغ، والنظام الغذائي- إلى ضرورة أن ينام الإنسان على الأقل تسع ساعات ونصفا يوميا وليس سبع ساعات، ما يُثير فينا شعورا بأن الأمور ليست في نصابها الصحيح.

“المفارقة العجيبة لنوم البشر”

كشفت الأبحاث التي أجراها سامسون وعلماء آخرون على الرئيسيات والبشر في المجتمعات غير الصناعية أن أنماط نومنا غير معتادة. فبجانب عدد ساعات نومنا الأقل من باقي الرئيسيات، تنقضي معظم هذه الساعات في المرحلة المعروفة باسم “حركة العين السريعة” أو “REM” (وهي مرحلة النوم النشطة التي يرافقها نشاط مكثف للدماغ، وتحدث بها معظم الأحلام).

لا تزال أسباب عادات نومنا الغريبة هذه محل نقاش، ولعلها تعود في الأصل إلى قصة نشوء الإنسان، والعادات التي تبناها أسلافنا منذ قديم الأزل.

فمنذ ملايين السنين، اتخذ أسلافنا الأشجار موطنا للعيش والنوم فيها، ولا يزال الشمبانزي والقردة العليا حتى يومنا هذا يصنعون أسِرَّة مؤقتة على الأشجار بثني فروعها أو كسرها بطريقة تشبه الأسِرّة مع إحاطتها بأغصان مُورقة تُضفي جمالا عليها (وأحيانا نرى قرودا مثل الغوريلا تبني أسِرَّة على الأرض).

انتقل أسلافنا فيما بعد من الأشجار ليستقروا على الأرض، ما يعني المجازفة بالتخلي عن جميع المزايا التي يقدمها النوم على الأشجار، بما فيها الأمان النسبي من الحيوانات المفترسة على غرار الأسود.

ولأن حفريات أسلافنا لا تكشف عما إذا كانت عادات نومهم تلك توفر لهم الراحة أم لا، قرر علماء الأنثروبولوجيا دراسة أنماط النوم لمجتمعات غير صناعية معاصرة، لاكتشاف المزيد عن نوم أسلافنا باعتبارها البديل الأقرب إليهم.

يرى سامسون، الذي سبق وتعامل مع الصيادين وجامعي الثمار من قبائل الهادزا في تنزانيا، ومجموعات مختلفة من مدغشقر وغواتيمالا وأماكن أخرى، أن التعامل مع هذه المجتمعات يُعَد شرفا عظيما وفرصة رائعة في حياة المرء، ولمتابعة أنماط النوم في هذه المجتمعات وتسجيلها، تعيّن على المشاركين في هذه الدراسة ارتداء ساعة في أيديهم مُزوَّدة بمستشعر ضوئي.

تطور النوم

في عام 2015، نشر غاندي يتيش، عالم البيئة التطوري وأستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، بالتعاون مع علماء آخرين، دراسة علمية بحثت في أنماط النوم لثلاثة مجتمعات بدائية، منها قبيلة الهادزا في تنزانيا، وقبيلة تسيماني في بوليفيا، وسان في ناميبيا. خلصت نتائج الدراسة إلى أن متوسط وقت النوم بين هذه المجتمعات يتراوح بين 5.7-7.1 ساعات.

لقد تطور البشر إذن لتصبح حاجتهم إلى النوم أقل من باقي الرئيسيات، وهذا ما أظهره سامسون في تحليل له عام 2018 شرح خلاله كيف وصلنا إلى عدد الساعات. لتوضيح قصة تطور نوم البشر بمرور الزمن، خرج سامسون بفرضية أطلق عليها “فرضية النوم في جماعات”، ونشرها في المجلة الثانوية للأنثروبولوجيا لعام 2021.

يشرح سامسون من خلال هذه الفرضية أن تطور نوم البشر يعود في الأصل إلى شعور المرء بالأمان، تحديدا الأمان الذي يستقيه من إحساسه بالانتماء إلى مجموعات تحوطه وتهدهد مخاوفه.

بانتقال البشر من الأشجار إلى الأرض، كان من الطبيعي أن يتطور نومهم، وبالأخص نوم حركة العين السريعة الذي أصبح أكثر مرونة في مواجهة خطر الافتراس، ويرى سامسون أن أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت أسلافنا ينعمون بفترات نوم هانئة ويغطون في نوم عميق هو حقيقة الشعور الرابض في أعماق أنفسهم بأنهم يغفون وسط مجموعة تحوطهم من كل جانب. تمثلت هذه المجموعات أو المعسكرات البشرية لأسلافنا كقوقعة حلزونية تحمي ما بداخلها. وبجانب الشعور بالأمان الذي وفرته هذه المجموعات، لعبت النار أيضا دورا لا يُستَهان به في تدفئتهم، وإبعاد الحشرات عنهم، فضلا عن التناوب فيما بينهم للحراسة وقت النوم.

مع الأمان الذي يوفره هذا الدرع البشري، يرى سامسون أنه بات من اليسير على المرء أن يعود في أي وقت إلى قبيلته لأخذ قيلولة، وهي عادة رآها متكررة بين قبائل الهادزا وشعب مدغشقر، غير أن يتيش -أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة كاليفورنيا- يختلف معه في هذا الأمر، لأنه نادرا ما صادف أحدا من القبائل البدائية -التي سبق أن تعامل معها- يغفو في منتصف اليوم.

في السياق ذاته، يرى سامسون أن عادات النوم في جماعات كان من شأنها أن تسهّل رحلة أسلافنا من إفريقيا إلى قارات أخرى ذات مناخات باردة، لذا فهو يؤمن بأن النوم كان حبكة فرعية لعبت دورا مهما للغاية في قصة التطور البشري. ومن جانبها، ترى إيزابيلا كابيليني، عالمة البيئة التطورية بجامعة كوينز في أيرلندا الشمالية، أن تطور نوم الإنسان ليصل إلى عدد ساعات أقل من باقي الرئيسيات التي تعيش على الأشجار هو أمر منطقي وفقا للخطر الذي كان يداهمه في أي وقت من الحيوانات المفترسة.

في عام 2008، أظهرتْ نتائج الدراسة التي أجرتها إيزابيلا كابيليني وزملاؤها أن الثدييات المُعَرّضة للافتراس بدرجة أكبر تنام في المتوسط عدد ساعات أقل من باقي الحيوانات، غير أن “كابيليني” يساورها الشك إزاء حقيقة أن نوم الإنسان يختلف عن نوم الرئيسيات الأخرى، مشيرة إلى أن البيانات المتعلقة بنوم الرئيسيات مصدرها الرئيسي هو الحيوانات الحبيسة لبيئة معينة، في حين ما زلنا نجهل الكثير عن كيفية نوم الحيوانات في البرية. قد تنام الحيوانات أقل مما هو طبيعي في بيئات محدودة، مثل حديقة الحيوان أو المختبر، جراء شعورها بالضغط والإنهاك، وأحيانا تنام أكثر من اللازم نتيجة شعورها بالملل، كما أن ظروف المختبر -بين الإضاءة والظلام كل 12 ساعة- قد لا تتوافق مع ما تختبره الحيوانات في البرية على مدار العام.

يرى عالم الأعصاب نيلز راتينبورغ، الذي يدرس نوم الطيور في معهد ماكس بلانك لعلم الطيور في ألمانيا، أن ما أدلى به سامسون بشأن تطور نوم الإنسان أمر مثير للاهتمام حقا، لكن في الوقت ذاته تعتمد صحة حديثه على مدى تحري الدقة في تتبع عدد ساعات نوم الرئيسيات الأخرى.

إذا ساور بعض العلماء الشك إزاء عدم تحري الدقة الكافية بشأن تطور نوم الإنسان فهو أمر له ما يسوّغه. وذلك ما أثبته راتينبورغ وزملاؤه عام 2008 حينما أجروا دراسة على حيوان الكسلان البري برسم تخطيط كهربائي لأدمغة ثلاثة منه، وأظهرت النتائج أن عدد ساعات نومهم بلغ نحو تسع ساعات ونصف في اليوم، في حين أظهرت دراسة سابقة أن عدد ساعات نوم حيوان الكسلان “الحبيس لبيئة معينة” بلغت 16 ساعة.

إذا أُتيح للباحثين في مجالات النوم الحصول على المزيد من البيانات المتعلِّقة بنوم الحيوانات البرية، فسيساعدهم ذلك على تحري الدقة أكثر. ومع ذلك، يقول راتينبورغ: “إن الأمر أشبه بالمستحيل حتى مع تكنولوجيا اليوم. صحيح أن التجارب على حيوان الكسلان كانت مُوَفقة، إلا أن ذلك لا يعني نجاح الأمر مع باقي الرئيسيات التي ستحاول جاهدة نزع الأجهزة والمعدات المُعَلَّقة بها”.

النوم.. بين الماضي البعيد والحاضر القريب

إن توفرت للعلماء صورة أوضح لنوم الرئيسيات في البرية، فقد يكتشفوا أن فترات نوم الإنسان ليست قصيرة كما تبدو، وعن هذا تقول كابيليني: “ما إن يظهر في كل مرة ادعاء بأننا نملك شيئا نختال به، ونمتاز عن غيرنا من المخلوقات، حتى تدحضه البيانات وتُثبت أننا لسنا بهذا القدر من التميّز”. ومن جانبه يقول يتيش، الباحث في مجال النوم بالمجتمعات الصغيرة، والذي سبق أن تعاون مع سامسون في دراسته: “أرى أن النوم وسط جماعات كان أحد الحلول لمشكلة الحفاظ على الشعور بالأمان ليلا، غير أنه في اعتقادي لم يكن الحل الوحيد”.

فمثلا، تلجأ إحدى قبائل التشيماني إلى تشييد العديد من الجدران في منازلها، ما يوفر لها بعض الأمان دون الحاجة إلى مراقبة بشرية، فضلا عن أصوات الحيوانات التي توقظ معظم الناس في الليل، فيزيد ذلك من مستوى الحماية. يرى يتيش أن النوم وسط جماعات -سواء كان هناك خطر يحدق بهم أم لا- هو أيضا امتداد طبيعي للطريقة التي يحيا بها الناس في المجتمعات الصغيرة أثناء النهار، لذا نادرا ما تجد شخصا من هؤلاء يتخلله شعور بالوحدة”.

إن تأملنا قليلا في الطريقة التي تقضي بها هذه القبائل أمسياتها المعتادة، فسنهتدي إلى السبب الذي جعلنا نتبنى فترات نوم قصيرة. فبحسب وصف يتيش لإحدى الأمسيات العادية لقبيلة التشيماني، فإن معظم القبيلة تجتمع بعد انقضاء النهار في العمل، ثم يجلسون ملتفين حول النار أثناء طهي الطعام، يتشاركون وجبتهم، ويطول بهم الجلوس حول النار إلى أن يبدأ الأطفال وأمهاتهم تدريجيا في مغادرة الساحة والذهاب إلى النوم، فيما يستمر الآخرون في الجلوس، وتبدأ أصواتهم تتدفق بأحاديث عابرة وحكايات مُسلية.

إن دراسة هذه القبائل يسهّل علينا أن نتصور كيف كان يقضي أسلافنا أمسياتهم. لعلهم اقتطعوا بضع ساعات من أوقات نومهم أيضا واستغلوها في الأحاديث وتبادل المعلومات والثقافات في جو مفعم بالونس والسكينة حول نيران خافتة. وبصورة تدعو للتأمل، استطاعوا تحويل ساعات الظلمة الحالكة والموحشة إلى أوقات مُثمرة حقا. وربما تعمدوا تقليل ساعات نومهم لاستغلالها -من وجهة نظرهم- في أشياء أهم من الراحة.

لذا ففي عام 2017، قرر سامسون وفريقه إجراء دراسة على 37 فردا من قبائل الهادزا بسؤالهم عن شعورهم حيال نومهم، أفاد 34 منهم بأنهم حظوا بكمية نوم كافية، رغم أن نتائج الدراسة أظهرت أن متوسط عدد ساعات نومهم بلغ نحو 6.25 ساعة تخللتها في المنتصف فترات يقظة متكررة. توصلت دراسة أخرى شملت 500 شخص من شيكاغو في عام 2016 إلى أن إجمالي عدد ساعات نومهم الفعلي كان مساويا تقريبا لعدد ساعات نوم قبائل الهادزا. ومع ذلك، أفاد 87% من المشاركين في استطلاع أُجري على البالغين في الولايات المتحدة عام 2020، بأن ثمة يوما واحدا على الأقل في الأسبوع لا تقر أعينهم فيه بنوم هانئ ومريح.

يُسنِد “سامسون” و”يتيش” مشكلات نومنا إلى التوتر الذي بات مرض عصرنا، فضلا عن الاضطرابات التي تحدث في إيقاع الساعة البيولوجية. ولعل مشكلات النوم تنبع في الأساس من افتقارنا لما اعتاد عليه أسلافنا قديما، وهو وجود حشد حولنا. وما إن نقف لنتأمل مدى المشقة التي نكابدها اليوم للحصول على قسط كافٍ من النوم، حتى ندرك الاختلاف الشاسع بين الطريقة التي اعتاد عليها أسلافنا، وما وصلنا إليه اليوم. وعن هذا يقول سامسون: “في ضوء هذا الانعزال الواضح الذي بات يبتلعنا جميعا، تبقى مشكلات النوم هي الأكثر تأثرا في عصرنا الحالي”.

إن تطرق الأمر إلى درجة من العمق وفهمنا أكثر كيف تطور نوم الإنسان، فقد يساعد ذلك الناس على أن ينعموا بنوم أفضل، أو ربما يزيد من شعورهم بالرضا حيال كمية النوم التي حصلوا عليها بالفعل. كثيرا ما يهوّل الناس من مشكلات النوم التي تواجههم، ويتصورونها أعقد مما هي عليه بالأساس، فالأرق على سبيل المثال قد يكون يقظة مفرطة توارثناها عن أسلافنا الذين اتخذوها وسيلة للتكيّف مع النوم في العراء.

لذا يرى يتيش في النهاية أن دراسة النوم في المجتمعات الصغيرة غيرت وجهة نظره تماما، وعلى عكس الجهود المبذولة من الغرب تجاه قضايا النوم والاهتمام الواسع بها، نجد المجتمعات الصغيرة لا تلقي لهذه القضية بالا، ولا يشغل شعبها مقدار النوم الذي قد يحصلون عليه، فما إن يطرق النوم أجفانهم، حتى ‏يستسلمون إليه ببساطة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *