منتدى العمق

في التكامل بين مؤتمر عالمي ومنهاج دراسي وطني

المتتبع للمؤتمر العالمي الثالث للسيرة النبوية الذي عقد بالعاصمة العلمية للمملكة المغربية ـ فاس ـ يخرج بجملة من الخلاصات القيمة والآفاق الواسعة للعمل العلمي والبحث الأكاديمي المتين الرصين .

وإن مما انقدح في الذهن وجال في الخاطر وأنا أتابع هذا المؤتمر وتوصياته أنه دعا الدول الإسلامية إلى اعتماد السيرة النبوية محورا رئيسا في مناهجها وبرامجها ومقرراتها الدراسية. نعم ، قلت في نفسي لعل واضعي المنهاج الجديد لمادة التربية الإسلامية عندنا في المغرب سمعوا هذه التوصية ونخلوها وتأملوا فيها قبل أن ينطق بها هذا المؤتمر، و هذا من تطابق التخطيط الحسن والنظر العلمي المؤسس على هدى الوحي، فلعل تجربتنا المغربية في شقيها العلمي والتربوي إذا أحسن التعامل معها تنظيرا وتنزيلا قابلة لأن تعمم على العالم كله بله على الدول الإسلامية؛ إنها تجربة منهاجية وعلمية قمينة بأن تستنسخ لإعادة الروح إلى هذه الأمة؛ روح هذه الحياة التي لا تشبهها حياة، روح هذه السيرة الحافلة بأنوار الوحي وتجلياته المحمدية في أبهى وأجلى وأحلى أمثلتها .

فالمنهاج الدراسي الجديد لمادة التربية الإسلامية عندنا في المغرب جعل السيرة النبوية بالإضافة إلى القرآن الكريم قطب الرحى وبوصلة السير لجميع مفردات البرنامج، على أنه تجدر الإشارة إلى أن الفهم الأمثل ـ كما صرح بذلك كثير من المحاضرين والمتدخلين في المؤتمر العالمي ـ للسيرة يستوعب القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف لأن هذه السيرة نزل خلالها القرآن وتحدث خلالها النبي صلى الله عليه وسلم بحديثه الطاهر المطهر . وفي هذا لفت لنظر بعض الغيورين ممن يدعو إلى إعادة الاعتبار للحديث الشريف في المنهاج الدراسي الجديد لمادة التربية الإسلامية؛ ذلك أن المفهوم من المنهاج أن السيرة النبوية مستوعبة للحديث، كما أن الحديث يستند عليه من الناحية التشريعية في شرح كثير من دروس مدخل الاستجابة وغيره، وبهذا تكون السيرة والقرآن مستوعبين لكل المداخل ومؤطرين لجميع القيم الناظمة للمنهاج وهي : الإخلاص والحرية والاستقامة والإحسان والمحبة .

إلا أنني همست في نفسي همسة وقلت : لو أن الإخوة المرابطين على ثغر البحث العلمي في مؤسسة مبدع الرائدة بقيادة الشيخ المربي الدكتور الشاهد البوشيخي حفظه الله انتبهوا ـ ولعلهم انتبهوا ـ إلى أن ما يقومون به هو مشروع أمة نعم ، ولكنه قبل ذلك ـ ومراعاة للخصوصية المغربية هو مشروع تحتاج إليه المدرسة المغربية، خصوصا إذا علمنا أن هذه المدرسة بقطبيها العمومي والخصوصي تدرس ما يقارب أو يفوق اثني عشر مليونا من المتعلمين والمتعلمات ممن سيكونون بحول الله تعالى وقوته جيلا جديدا في هذا الوطن، وتأخير مثل هذه المشاريع الضخمة لربما يؤخر استفادة جيل كامل من مخرجاته الموقظة لأجيال هذه الأمة والمربية لها على شمائل نبيها عليه الصلاة والسلام .

وتبرز الحاجة الملحة لما أقوله إذا التفتنا أيضا إلى ما بين أيدينا اليوم في المكتبات والخزانات والأعمال العلمية الحديثة عن السيرة النبوية ، فإنه لا يعدو أن يكون متفرقات وأشتاتا بينها كثير من التمفصلات والانفصال الذي يحتاج إلى اتصال .

وهذا المشروع العلمي الضخم سيكون لبنة عظيمة في تاريخ الكتابة للسيرة النبوية منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم، كما سيكون معينا ديداكتيكيا رئيسا للسادة الأساتذة والمشرفين وكافة المربين .

ولن تفوتني فرصة هذا المقال دون أن أهمس في آذان الإخوة في مؤسسة مبدع أن يشدوا العزم على محاولة إنجاز مشروعهم في مدة لا تفوق السنتين أو الثلاث حتى يتمكن أساتذة مؤسساتنا التعليمية بأن يستفيدوا من هذه الخبرة العلمية ويسعفهم هذا العمل في تربية وتأهيل جيل كامل والاستجابة لمطالبه الدينية اليومية وأهمها مطلب الاقتداء وتقديم الأنموذج البشري العملي والكامل في أوضح صورة .

نعم يا سادتي إن هذا العمل قد يستغرق عمرا بأكمله ولكن إذا أحسن تدبير هذا الملف العلمي بالعمل المشترك والتنسيق اليومي والجندية اللازمة والتضحية الفائقة بالجهد والمال والوقت من الأفراد والمؤسسات والدولة المغربية سخاء في الإنفاق ومتابعة من آباء البحث العلمي في المغرب وهم علماء هذا البلد وغيره من بلدان المسلمين .

ويمكن في الأخير أن أقترح صوى في هذا الطريق الممتع كما يأتي :

   اعتبار سيرة ابن هشام وما ألف عنها أو حولها مادة أساسية في مشروع السيرة النبوية الكاملة الشاملة .

   اعتبار القرآن الكريم مادة مركزية في المشروع بوضع كل سورة أو آية موضعها الزماني المناسب في سيرة النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام مع تطعيم ذلك بشيء من الشرح المختصر اليسير المستعان فيه بكتب التفسير الجامعة غير المفصلة

   اعتبار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح مادة رئيسة ووضع كل حديث في موضعه بما يخدم الترتيب الزماني المتناسق للسيرة الكاملة .

   التساهل ما أمكن ذلك في إدراج الأخبار المكملة للصورة الواضحة لحياة رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى يكتمل البناء .

   الانفتاح على التراث المعاصر الذي كتب في فقه السيرة والذي يربط بينها وبين واقع الأمة المعاصر بما ينفث في تلك السيرة الكاملة روح المقاصد الذي من أجلها كان هذا الفعل أو ذاك من أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقواله…مع استخلاص الدروس النافعة للجيل في إعادة تشكيله بمنهج رباني وسيرة محمدية عطرة تضفي على حياته أنوار النبوة وشمائلها وطريقتها الراشدة في التصرف في كل السلوكات الحياتية .

وأرجو الله تعالى أن تتضافر جهود العلماء والباحثين كل من موقعه وتخصصه بما يخدم هذا المشروع الذي هو مشروعنا ومشروع أجيال الغد، وأن يضع كل من يرى من نفسه القدرة على الانخراط في هذا الورش المفتوح النافع نفسه رهن الإشارة ؛ فكم من مشاريع كبيرة وجدت همما عالية فاكتملت واقتطفت ثمارها على الوجه المرتضى في مدة وجيزة . والله الهادي والموفق إلى أفضل السبل .