العمق TV

أمازيغية الإنسان وأمازيغيات اللسان

شكل الخطاب الملكي التاريخي بأجدير في 17 أكتوبر 2001 مرجعاً سامياً في التعاطي مع المكون الأمازيغي للهوية الوطنية المغربية، إلى جانب المكونات الأخرى، وصار بوصلة في تنزيل الثقافة الأمازيغية بمختلف تجلياتها القانونية والتنظيمية واللغوية والتواصلية …

فالمقاربة اللغوية للهوية الأمازيغية نعرف جميعا المحطات التي انتقلت منها، بدءاً بالتصورات التمهيدية والتوافقات إلى غاية الاقتراح المتعلق بالكتابة الحرفية للغة الأمازيغية.

وتتفق جميع أطياف الأمازيغيين عبر العالم أن الهوية الأمازيغية واحدة موحدة في أغلب تمظهراتها إلا من بعض الاختلافات البسيطة، والتقاليد والعادات والطقوس التي يحيا بها الإنسان الأمازيغي أينما كان تُبرز بالفعل غنى تاريخه وعظمة موروثه. فكثيراً ما تتشابه أساليب العيش وتدبير الحياة وتنظيم الروابط والأواصر وتخليد المناسبات والاحتفالات بين جميع أمازيغيي العالم، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على عالمية الإنسان الأمازيغي من حيث نمط الحياة وخصائص الوجود.

لكن في مقابل مميزات المعيش اليومي للإنسان الأمازيغي، تُطرح إشكالية التواصل بين معشر الأمازيغ، والأمر في الحقيقة ليس بإشكالية تسترعي الحل والتسوية، بقدر ما هي خصوصية لسانية ينبغي تقديرها ولا يجب النظر إليها كعرقلة تُجاه سعي البعض إلى التوحيد اللغوي بين الأمازيغ، وهذا ما يجب توضيحه.

فما يهمنا في هذا الصدد هو النموذج المغربي، حيث وبعد إقرار حرف تيفيناغ للكتابة الأمازيغية في فبراير 2003، حاول المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ومعه فعاليات أكاديمية وجمعوية تسخير مختلف الجهود والإمكانات للإرتقاء بالحرف الأمازيغي وبلورة منظومة لغوية تُعين على الكتابة والقراءة والفهم والتدريس والاتصال والتواصل بحرف تيفيناغ المتوافق عليه، ولا يمكن لأي أحد إنكار التعبئة التي انصبت لإقرار آلية رسمية تعكس “اللسان” الأمازيغي.

إلا أنه، في المقابل، يجب الإقرار بأن أمازيغية المغرب هي أمازيغيات، أو لنقل إن اللسان الأمازيغي المغربي يتمثل في لسانيات أمازيغية متعددة قد تكون محلية وليس بالضرورة متقاربة، بمعنى أن المكون الأمازيغي الوطني المغربي بقدر ما هو مكون هوياتي موحد إلا أن ألسنته تختلف، وبالتالي تعددت التعبيرات بالأمازيغية.

فأمازيغيو الريف يتحدثون الريفية، وأمازيغيو سوس ونواحيها يعبرون ب”تشلحيت”، بينما سكان الأطلس وماجاوره لسانهم بالأمازيغية، ولكل لسان قواعده ودلالاته وانعكاساته، دون إغفال ما للطبيعة والتموقع المجالي من دور في بلورة هذا اللسان.

فكلنا نتذكر يوم أعلن الوزير الأول الراحل عبد اللطيف الفيلالي تحت قبة البرلمان عن الشروع في بث نشرات الأخبار بالأمازيغية، حيث نال هذا التصريح تصفيقات النواب، أغلبية ومعارضة، وعند انطلاق تلك النشرات تبين أنها تعكس ثلاث “لهجات” (ألسن): تريفيت، تشلحيت، تمازيغت.

بل إن مجلس النواب، حالياً، عندما شرع في بث الترجمة (هي في الحقيقة دبلجة) لجلسات الأسئلة الشفهية، حدد ثلاثة تعبيرات لسانية: تشلحيت، تمزيغت، تريفيت.

بطبيعة الحال هذا التصنيف ليس عبثا ولا يمكن تجاهل أساسه ولا خلفياته ولا أصله، فالحقيقة والواقع يؤكدان أن أمازيغية الإنسان المغربي تتجلى في أمازيغيات، فمقابل أمازيغيته تتشكل أمازيغيات لسانه.

وهذا يدفعنا إلى محاكاة هذا الغنى وهذا التنوع اللساني مع الآلية المعتمدة للتعبير الرسمي الممثلة في حرف تيفيناغ.

فإذا كانت اللغة هي تنزيل لتعبير تواصلي قائم أصلاً، فإن اللغة الأمازيغية لا يمكن اختزالها، قسراً، في حروف معينة يسعى البعض إلى جعلها الوسيلة الواحدة والوحيدة والحصرية للتراسل بين الأمازيغ أو بين من يتحدثون لسانا أمازيغيا…

ويجب على من يعتقد في نفسه أنه يتبوأ الصفوف الأمامية في جهود نصرة الثقافة الأمازيغية، أن يعي أن فئات عريضة وواسعة من أمازيغ هذه البلاد السعيدة ليست مستعدة أن تتنازل عن وسيلتها التعبيرية التواصلية (نُسميها لهجة أو لغة أو أي تعبير آخر) لأجل لغة جنيسة تنبني على حروف غير مألوفة لا تعكس واقعهم التعبيري، لا كتابة لا قراءة.

فالأمازيغي في فكيك لا يقبل أن يضحي بتراثه المحلي وبلسانه الأمازيغي المُعبر به مقابل تبني لغة وافدة على تاريخه، فقط لأجل سيادتها والإكثار من المنتسبين إليها، والأمازيغي في ورزازات ليس في مُخيلته تأهبٌ ما لكي يُجبَر على ترك رصيد أمازيغي غني وزاخر لأجل سواد عيون لغة تيفيناغ المسلطة على ألسنة قبائله، وكيف يوافق أمازيغي طاطا أن نُكرهه على التخلي عن أداته الاتصالية لفائدة لغويين جدد، وقس على ذلك جميع أمازيغيي الوطن المغربي.

فلماذا تكون هذه ” التيفيناغ” تعكس أمازيغية أحد هؤلاء في التعبير والمقروئية ولا تعكس آخرين؟ ولماذا يجب أن يتنازل أغلبهم عن لسانه مقابل لسان “معين” لنجعله رسميا ورئيسياً؟؟ بطبيعة الحال لا يمكن، لأن كلا منهم يسمي الأشياء بمسميات تراثه وتقاليد منطقته، ولكل منهم لسانه الأمازيغي.

ما نعرف أن لغة ما لا يمكن إنشاؤها والتعبئة لإيجاد قواعد وأسس وأساليب خاصة بها ونحث الناس على أن ينسوا ما يتحدثون به لكي يتعلموا ما يجب التحدث به، كل ذلك في سباق مع الزمن.

إذا كان الحرف التيفيناغي وسيلة لكتابة اللسان الأمازيغي، فإن قراءته وصياغة العبارات المُطابقة متروكة لكل أمازيغي يعكس به حقيقة ما ينطق به في معيشه وحياته وتواتر أعراف منطقته، وليس النطق بعبارات وتعابير لم يألفها وإنما ألفها غيره الأمازيغي في منطقة ما وفي حقبة زمنية ما.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • أمين
    منذ سنتين

    متفق معك....في منطقتي نقول "أدّود" وتعني بالعربية "تعال" وبالفرنسية viens...ولا يمكن أن نبدلها بعبارة "أشكيد" من أجل تيفيناغ....كل منا لغته...