منتدى العمق

ويظل عمي محماد حيا شامخا…

<< كل لحباب أيا قلبي
كل لصحاب أيا قلبي
لغيابها حدود أيا قلبي لغيابها حدود
كل لطيار أيا عيني
كل لشجار أيا عيني
لفراقها وقات أيا عيني لفراقها وقات
ومحبوبي أنا إن غاب
موحال يعود أيا قلبي موحال يعود… >> مجموعة لمشاهب.

في ظل دواع كثيرة، خاصة أحيانا، عامة أخرى، أثرت الصمت طويلا، وفي دهاليزه تواريت عن دوائر القيل والقال، بما فيها حتى تلك المنابر التي تشكل في عصرنا نافذة إغاثة، أو بالأحرى، حلم أو وهم منصة لإسماع صوت، كثيرا ما يكون، هو نفسه، لا يعدو كونه أكثر من ومضة طيف، سرعان ما تتبدد وتتحلل وتتلاشى في سحابة الأحلام والأوهام العابرة الهاربة. لكن اليوم، وإذ الصدمة كبيرة، والخطب جلل، والفاجعة أعظم من أن يجدي فيها صمت، أو إصرار على الإنزواء بالذات في الظل والعتمة. لذلك، لا أرى بدا من طرقي عالم الفايسبوك من جديد، بعد غياب عنه امتد طيلة ثلاث سنوات…
اليوم، أنعي أعظم، وأنبل، وأعز رجل رأيته في حياتي، إنه عمي و أبي سي محماد أيت ياسين. وأنا إذ أفعل، أتمنى ألا تخونني الكلمات، أو تربكني دموعي، وأضيع في غمرة الكمد عما تروم نفسي الإفصاح عنه أمام هول المأساة.
لقد رحل والدي (البصير) رحمه الله، الرجل الذي نقش تاريخا نفتخر به بالسوق القديم ومخبزة إفريقيا سنة 1984، وعمري إذاك لم يتجاوز السنتين قبل حتى رسوخ صورته في ذاكرتي، لأجد عمي محماد فاتحا لي قلبه الفسيح المكرام، وبيته الرحب المشرع إلي على الدوام، بل المشرع إلى كثير من الأهل والأحباب، لأمضي في كنفه جزءا كبيرا من طفولتي، أسرح و أمرح في زواياه و أفنيته بين إخوة لم تلدهم أمي… بيت عمي محماد ليس ككل البيوت، إنه مدرسة حياة بالنسبة لساكنيه ومرتاديه، وكيف لا، وصاحبه علامة دارية، لايبرح فيه، إلا لغرض أو ضرورة، أريكته المركونة أمام مكتبة زاخرة بالكتب والمجلدات المتنوعة التي كان يصطفيها بعناية فائقة على مدى مساره العلمي الطويل. كان منها ماهو مدرج في الأدب والفنون، وماهو في الفكر والفلسفة، وفي علم الاجتماع، وفي علم النفس، وفي علوم التربية وفي رحاب التاريخ أو القانون أو السياسة، وما إلى ذلك… كان عمي يدأب على تصفح الجرائد اليومية، وفي صدارتها جريدة الاتحاد الاشتراكي التي تزيدها صورة الشهيد عمر بن جلون بهاء، الجريدة التي كانت أنذاك، عنوانا لثقافة الرفض والانتصار الكادحين والبحث عن مغرب آخر، مغرب العدل والمساواة والحرية والعدالة الاجتماعية، حلم فئات عريضة أبية من الشعب المغربي… وكنت مع نجله كمال، قريني في السن والمستوى الدراسي، وكذا إخوة هذا الأخير و أخواته الأعزاء، نتسارع إلى قراءتها، وإلى قراءة الكتب والمجلات بنهم منقطع النظير، وكأننا بصدد ممارسة لعبة مغرية ممتعة لا نمل منها ولا نكل.

في هذا البيت العامر المتنور، وأنا ما أزال طفلا، بدأ ولعي بالأدب، وقراءة الاعمال السردية، لا سيما القصصية منها، فكنت لا أفوت فرصة البحث عما يتوافر منها بين ثنايا الرفوف… وكم كان عمي محماد يسره أن يرانا منكبين على المطالعة، فيذكرنا أن خير جليس في الحياة كتاب، وأن أغلى كنوز الدنيا ما يكسبه المرء من علم نافع وخلق كريم.
حرص المرحوم أيما حرص أن نتعلم من أجود الأساتذة بزاكورة، منهم على سبيل المثال لا الحصر، لالة سكينة، وسعاد الحتيمي، والسعدية السنوسي، والمؤدي وأبو العباس. و غيرهم … حيث كنا نتردد عليهم بين مدرسة الشريف العلوي و مدرسة التمور مغترفين من سعة علمهم، مرتوين بسمو سلوكهم.

كان يأوينا بيت محاد لسوق المدينة المغطى، حيث ما تزال النخلات التي تظلل أطرافه تدين له بالوجود، فهو الذي بادر إلى غرسها والعناية بها حتى تنمو ويشتد عودها، وكذلك فعل أنى حل وارتحل. فكم من دالية كان منبتها ومتعهدها، وكم من كرمة، وكم من حوض نعناع يشهد أريجه على عرق يديه… وهو الذي عشق شجرة “المورينكا” عشق المتصوفة للأشجار المقدسة، فلم تفته مناسبة إلا ودعا الناس إلى غرسها.. كان هذا البيت مهيبا موقرا، تزيد في هيبته ووقاره حضرة عمي محماد.الذي ما إن يحدثك في هدوء حتى تعتدل في جلستك أو وقفتك، وتحسن الاصغاء، وتستفيد مما يسدي إليك من نصح أو عبرة. لقد علمنا المرحوم الصدق و الأمانة والصراحة و آداب الحوار الراقية… وكان يصر كثيرا على نبذ الأنانية والعنف والتعنت، والتشبث باحسن الطرق والطفها في التعايش مع الآخر… هكذا كان يسهر على رعيته في البيت وفي المدرسة وهو أستاذ، مشهود له عند ساكنة المدينة ، كبارها و صغارها، بمروءته وعزته وحكمته وتفانيه في خدمة النشء بكل ما أوتي من طاقة… وكذلك فعل وهو مفتش للتعليم الابتدائي، حيث كان على مدار السنة الدراسية، يقوم بجولاته متنقلا بين المركزيات والفرعيات النائية المعزولة في الفيافي، غير عابئ بسوء طقس أو وعورة مسلك، ساعيا لإدراك وجهته راكبا أو راجلا، لا يهمه في ذلك إلا أن يؤدي رسالته على أكمل وجه.

عندما تخرجت من مركز تكوين المعلمين بالرباط سنة 2002 وعمري عشرون عاما، تم تعييني بمجموعة مدارس بني سمكين بتاكونيت. استقبلني وهناني ثم أردف مازحا: « مرحبا بمعلمنا الصغير.» لتتغير نبرته ويواصل بحزم: « اسمع أ لحسن راك مسكين ولد مسكين، وا اخدم مع ولاد المساكن!..» مازالت هذه العبارة راسخة في ذاكرتي، ومازال صداها يتردد على مسمعي كلما وقفت في الصف أمام تلامذتي، فأولي على نفسي ألا أدخر جهدا في سبيل هؤلاء، وفاء بعهد هذا الرجل وسيرا على نهجه.

تألق عمي محماد في مشواره العملي، وترقى عن جدارة إلى منصب رئاسة مصلحة الشؤون التربوية بمدينة تمارة، حيث أرسى قواعد جديدة، جادة وصارمة في تسيير المصلحة التي ينخرها الفساد والاهمال والمحسوبية، فكان مثار إعجاب الكثير من الموظفين الشرفاء النزهاء المخلصين لمسؤولياتهم ومهامهم، لكن كان هناك من لم يرقهم أسلوبه في العمل، وبالأخص ما يتعلق بإجبار الموظفين الاشباح ذوي الايادي الطويلة للالتحاق بمقرات عملهم مكرهين. فهبت شرذمة من الفاسدين المفسدين يساومونه و يضايقونه ناصبين في طريقه العراقيل والمكائد حتى كادوا ينالون منه، لولا صموده في المواجهة، وإصراره على إحقاق الحق مهما كان السبيل إلى ذلك وعرا في بلد انقلبت فيه الموازين، وتحولت فيه قيم العمل من سمو إلى سفالة، ومن عفة ونزاهة إلى جشع وانتهازية… تمكن خصومه من انتزاع إعفائه من منصبه دون أن أن يثبت في حقه أدنى إخلال بالمسؤولية الموكلة إليه، وكذلك جرى رغم أنه كان قد أرسل إلى ديوان وزير التربية الوطنية أنذاك الحبيب المالكي ملفا واضحا يكشف الخروقات والتلاعبات التي تدين هؤلاء. ولأنه العارف بالقانون، فقد تابعهم في المحكمة الإدارية دون هوادة، حتى حكمت لصالحه وأنصفته منهم، منتصرا عالي الهمة. هذا قبل أن يعلن عن برنامج المغادرة الطوعية الذي انتهزه فرصة للمضي إلى حال سبيله، والانصراف إلى شؤونه الخاصة، والسهر على ذويه والاستقرار بهم في مدينة مراكش. ويعلن قطيعته بحزب اسمه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 2003 بعد إحساسه بلوعة الخذلان.

قبل هذا بعقود، وخلال سنوات الجمر والرصاص إبان ستينيات القرن الماضي ، أضرم الخونة الجبناء النار في البيت الذي يسكنه والده لحسن أيت ياسين المعروف ب(لحسن أويشو) هذا الرجل الذي سمعت عنه الكثير وجعلني فخورا بهذا الاسم الذي أحمله على الدوام، وترتب عن ذلك أن استشهد هذا المقدام المعروف ببسالته و شجاعته. رجل أجمع الكثير على أنه يشبه أخاه البصير ملامحا ومواقفا. كانا مناضلين بارزين في صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وما أدراك الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في ذلك العهد! أصر أبناء الشهيد على كشف الحقيقة، واماطة اللثام عما جرى في الدهاليز المظلمة تخطيطا لهاته الجريمة النكراء، لكن الامر ظل غامضا، إلى أن جاءت هيئة الإنصاف والمصالحة ، وكشف المستور، ليعرف من كانوا وراءها تدبيرا وتنفيذا. عرض على العائلة تعويض مهم لجبر الضرر، ولأنها عائلة أيت ياسين، فقد رفضته وقالت « لاتعويض دون محاسبة الجلاد». هذا بينما تسابق البعض للاستفادة من أموال جبر الضرر، والتمرغ في وحل الريع، ومنهم من لم يلجوا مخفرا للشرطة في حياتهم، إلا لتجديد البطاقة الوطنية.
هكذا هم أبناء الشهداء، يزرعون العهد والأمل، ويحبون الناس ويقدسون العمل، ويمضون في هذه الدنيا صفاة أنقياء صالحين، لا مكان بينهم للأنذال.

وانا اليوم أقفل الأربعين لم أسمع عمي محمادا يعيب أو يسب أحدا،وإذا حدث و أساء إليه امرؤ، ثم جاء ليعتذر منه، اكتفى بإذراف دمعة على خده، وهب يحضنه مرددا في ابتسام الحكماء الكبار: « لا عليك يا رجل..» سماحة ما مثلها من سماحة، واخوة ما مثلها من أخوة، تلك غيض من فيض مناقب عمي محماد.

انتقل المرحوم من زاكورة إلى تمارة ثم استقر أخيرا بمراكش كما سبق الذكر،لكن زاكورة لم تغادره، تناديه فيلبي النداء متحديا طول الطريق ومشقته إليها… يحضر مناسباتها المختلفة، يشاطر أهلها أفراحهم، ويواسيهم في أتراحهم، وإن لم يكن هناك باعث اجتماعي أو ديني على القدوم إليها، فإنه فقط من أجل استنشاق هوائها، والتجول في شوارعها بزيه الأمازيغي الاصيل وخنجره الفضي وعمامته البيضاء (تامخماخت)، ووجهه الحليق على الدوام،والاستئناس بأحاديث أصدقائه القدامى، وممازحة الشباب، واطلاق العنان لضحكاته المجلجلة والخاثرة في جلساته مع الناس… أنى حضر، حل الفرح والمرح، وكذلك الجد والمعقول، لايفوت فرصة إلا وتقاسم مع مجالسيه ما لقنته الحياة من تجارب ودروس ومعارف، لا يتحدث أبدا عن اعتباط أو دون مرجعية أو دليل، وكذلك همة الأفذاذ الكبار.

عندما زرته آخر مرة في مراكش، وهو على فراش المرض، أعطى لزوجتي كتابا مهما وناذرا، قائلا لها: « هذا الكتاب غير متوفر في المكتبات حاليا، وعليك قراءته، وسينفعك في دراستك الجامعية» كان المرحوم يحث على العلم ويساعد بما تيسر له في سبيل السعي إليه. وكم كان يسعده، بالرغم من تقدمه في السن، أن يتنقل بين المدن لحضور مناقشة دكتوراه، أو تخرج طبيب أو مهندس أو إطار سام من معارفه أو أقربائه، أو من أهل واد درا عموما، ويعتبر ذلك مفخرة للمنطقة و الوطن… عندما حصلت على شهادة الإجازة اتصل بي مباركا من جهة، ومعاتبا من جهة أخرى لانني أنجزت مكسبا لم يعلم به إلا عن طريق الآخرين، وكان الأجدر بي أن أكون أول من ينقل البشرى إليه، فقال ممازحا:« كنت سأغتاظ لو أنك رسبت، أما أنك نجحت، فهذا كل ما يهمني ويفرحني بغض النظر عن أي شيء آخر».

أثناء وعكته الصحية في الصيف الماضي، استطاع أن يواجه كورونا الملمة به بشجاعة عالية، واستطاع أن ينتصر عليها، ويتجاوز المحنة بسلام، ثم يستأنف قدومه الى زاكورة كلما تسنى له الأمر، لتفقد الاحباب والأصحاب، وكلما زارني في بيتي مازح ابني «نزار» كالعادة قائلا: «لقد جئت هذه المرة، لآخر منك شعرك الأسود وأعطيك شعري الأبيض»، ثم يبدأ الجدال بينهما، ليفاجأه سامي الصغير بنزع العمامة عن رأسه، ويغرق كل من في البيت في موجة ضحك صاخبة…
في وعكته الصحية الأخيرة ظل قويا يقاوم خلال مدة لم تدم طويلا، لكنه أسلم في النهاية الروح الطاهرة لبارئها. انتقل الى دار البقاء، وهو على سريره في بيته ووسط عائلته. لم نسمعه يئن من ألم أو يتحسر على فراق… ظلت إشراقة البسمة مرتسمة على وجهه المتورد حتى بعد الوفاة كما أكدت لي أمي و أخي يوسف. ظلت عبارات الاطمئنان على أهله مترددة على لسانه، ظلت نظرات الحب والعرفان من عينيه تشمل كل من يعوده ويحيط به وهو يقاوم ساعة الأجل الأخير. حكى لي أخي يوسف عن موقف أبهره وهو أن الحمى اشتدت على عمي محماد ذات مساء خلال أيامه الأخيرة ، فجاء دور يوسف لوضع كمادة باردة على جبينه، ليستجمع المرحوم قواه رغم المرض، فقط لينطق عبارة:« شكرا أ يوسف» هكذا ربانا على الشكر والكلمة الطيبة في جميع المواقف.

عزاؤنا أنه خلف من ورائه ذكرا حسنا، وذرية صالحة، وعقيلة فاضلة أناديها لالة عمي تصلها بوالدتي أطال الله عمرهما، علاقة لا أكاد أجد لها وصفا… امرأة حازمة أدارت شؤون بيتها على مر عقود بشكل منقطع النظير، أغدقت على كل مستقر أو نازل به من أفياض فضلها التي لا تعرف النضوب… أم جاهدت إلى جانب زوجها من أجل مستقبل أبنائهما كما لا يفعل إلا قلة من الآباء و الأمهات، فهاهم اليوم قد تربوا أحسن تربية، وتحلوا بأجمل خلق، وشقوا طريقهم في الحياة بكل نجاح و فلاح، سعاد وفاطمة وسميرة وسعيد وكمال وبدر و أحلام، بالنسبة لي نعم الأخوة والأخوات الذين بحضرتهم أستطيع أن أفكر بصوت مرتفع، لأن العلاقة التي تربطنا هي امتداد لعلاقة لبصير بعمي محماد، والتاريخ المشترك المشترك الحافل بأبهى الذكريات. نشاطرهم اليوم هول المصاب، وندعو لنا ولهم بالصبر والعزاء و السلوان.
كل من عرفك أيها الراحل، يتذكرك، ويبكيك، ويعدد مناقبك، ويعتز بك ويترحم عليك.. ارقد بسلام يا فقيد زاكورة العظيم، إننا هاهنا على عهد محبتك باقون، من نبل روحك مستلهمون، من حسن سيرتك معتبرون… وداعا أيها البعيد، وتحية أيها القريب….أحقا كما تغرب شمس هذا المساء، سيغرب عنا محياك؟ أحقا كما يطلع علينا بدر هذا المساء، سيطلع علينا طيفك الوضاء، لنرى أنك ما زلت، دوما، حيا بيننا؟
رحمك الله، وطيب مثواك وأسكنك فسيح الجنان.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *