منوعات

هل يرث الأبناء الأزمات النفسية لآبائهم جينيا؟.. علماء يجيبون

من الأسئلة الحساسة التي استقطبت اهتمام العلماء مؤخرا، وقد تفرض نفسها في مجال التربية والتنشئة الاجتماعية وصحة الأسرة المستدامة، والتي تتطلب من آباء المستقبل بالخصوص استيعاب جوابها بشكل علمي ودقيق، سؤال: هل ما نعيشه من صدمات وأزمات نفسية ننقلها إلى أبنائنا عبر نظام الوراثة الجينية؟

والأمر هنا لا يتعلق بترف فكري أو تفلسف، بل بحقائق علمية رصدها باحثون عبر دراسات علمية همت أجيالا.

وتضيف هذه المعرفة الجديدة مسؤولية جديدة على الآباء في تدبير أزماتهم، وأن يدركوا أن ما ستخلفه تلك الأزمات في نفوسهم من جراح قد ينتقل إلى أبنائهم. مما يزيد من ثقل مسؤولية الآباء والأسرة، ومن ضرورات التسلح بالعدة المناسبة لمواجهة الأزمات، فالأمر لا يتعلق فقط بأن نحمي نحن أنفسنا من تأثيراتها المدمرة، بل أيضا حماية أبنائنا ونسلهم من تلك التأثيرات.

هذا الموضوع الحساس سيتناوله هذا التقرير، حسب الجزيرة نت، من خلال عدد من الدراسات والأبحاث، ويجيب عن السؤال المركزي: من ضحايا هتلر إلى مآسي بينوشيه.. هل تنتقل الصدمات النفسية من الآباء إلى الأبناء عبر الجينات؟

“لم يبدأ الأمر معك”

يروي مارك وولين في كتابه “لم يبدأ الأمر معك” قصة الشاب العشريني جيسي، الذي عانى من الأرق وكان يستيقظ ليلا وهو يرتجف من البرد، مع شعور عارم بالخوف من أن يحدث له شيء وهو نائم، وبالبحث علم جيسي أن عمه توفي عن عمر يناهز 19 عاما في عاصفة ثلجية في الولايات المتحدة حيث تجمد وهو نائم حتى الموت، وهكذا سيطر على جيسي شعور بأن الاستسلام للنوم يعني الموت.

في عام 1992، لاحظت “راشيل يهودا” أن عددا كبيرا من المترددين على عيادتها في كليفلاند للحصول على علاج للتوتر والقلق كانوا من أطفال الناجين من الهولوكوست، لتمضي الطبيبة النفسية وعالمة الأعصاب في إثبات الاحتمال الذي بدا لها السبب الوحيد؛ وهو أن بعض الآلام القوية والمفاجئة التي تُصيبنا في مواقف بعينها، والاستجابات غير المنطقية والعاطفية للغاية التي تعصف بنا فجأة، لا يفسرها سوى صدمة كبيرة في تاريخ العائلة.

الجوع الذي لم ينسه الهولنديون

في شتاء عام 1944، أثناء الحرب العالمية الثانية، احتل النازيون هولندا ووضعوا قيودا على نقل الطعام لمعاقبة الحكومة الهولندية على دعم الحلفاء، كان الشتاء قارسا والمحاصيل سيئة، وكان نصيب الفرد الواحد من الحصص الغذائية أقل من 900 سعرة حرارية في اليوم، واستمر ذلك لعدة شهور مات خلالها اثنان وعشرون ألف شخص.

وبعد عقود، كشفت دراسة نشرتها مجلة “ساينس أدفانسيز” (SCIENCE ADVANCES) عام 2018 سِمَات عامة مشتركة لنسل النساء الحوامل خلال ذلك الوقت، حيث كانت أوزانهن أكثر من المتوسط ، وكانت لديهن مستويات أعلى من الدهون الثلاثية وكوليسترول البروتين الدهني منخفض الكثافة (LDL)، وكُنَّ أكثر عُرضة للإصابة بالسمنة ومرض السكري. الأهم أنه كان هناك ارتباط بين تعرُّض الأم للمجاعة قبل الولادة وصحة التمثيل الغذائي لدى أبنائها (حتى في الكبر)، ومن ثم مؤشر كتلة الجسم لديهم، بحيث بدا رغم توفر الطعام أن أجسامهم تحاول حمايتهم من خطر مجاعة لم تنسها العوامل الوراثية المُتحكِّمة في أجسادهم.

بالمثل، في الدراسة التي نشرتها مجلة “ذا أميركان جورنال أوف سايكاتري” (The American Journal of Psychiatry) عام 1996 حول البالغين من أبناء الناجين من الهولوكوست، وجدت راشيل يهودا وفريقها علاقة بين اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) لدى الناجين من الهولوكوست وأطفالهم، حيث كان أبناء الناجين أكثر عُرضة للإصابة باضطراب ما بعد الصدمة عند تعرُّضهم لحوادث أليمة أكثر من غيرهم، وكانت شدة الأعراض وتأثيرها مماثلة لتلك التي أُصيب بها آباؤهم.

بالتوسع في الأمر وجد العلماء صدمات موروثة لدى أطفال المجتمعات الأميركية الأصلية، وأبناء أسرى الحرب الأهلية، وعديد من المجتمعات التي تعرَّضت لحوادث مفزعة غيَّرت مجرى الحياة لدى قطاع كبير من أفرادها، وهو ما أثار تساؤلات حول إذا ما كنا نرث حقا تأثير التجارب الصادمة والخبرات الأليمة من آبائنا.

انتقال الصدمات النفسية عبر الأجيال

في عام 2010، تعقَّب الباحثون ملامح الصدمة بين جيل الأحفاد ممَّن تعرَّض أجدادهم للتعذيب والقمع بعد انقلاب 11 سبتمبر/أيلول 1973 على الرئيس الاشتراكي سلفادور أليندي وقيام الديكتاتورية العسكرية في تشيلي بقيادة أوغستو بينوشيه، وذلك في دراسة نشرتها مجلة “ربيستا دى سيكولوخيا” (Revista de Psicolog a) بعنوان “مقاربات لدراسة انتقال الصدمات النفسية عبر الأجيال”.

كانت الدكتاتورية العسكرية ترتكب ضد المعارضين جرائم القتل والخطف والاختفاء والإعدام والنفي والمداهمات الجماعية، وصاحب ذلك أساليب متعددة لإخفاء ما حدث للضحايا، حيث فرضت السلطات رقابة صارمة على الصحافة ووسائل الإعلام، وأنكرت ارتكابها للفظائع، وقدَّمت معلومات كاذبة لعائلات المعتقلين، الذين أُصيبوا بصدمات نفسية ظهرت في أعراض مثل الاكتئاب، وردود الفعل العدوانية، واضطرابات النوم، والنوبات الذهانية، وصعوبات التركيز، والشعور بالذنب، كما آثر كثيرون منهم الانسحاب والعزلة، كان هذا في الجيل الأول.

لاحقا، ظهرت لدى الجيل الثاني من أطفال السجناء السياسيين السابقين، الذين كانوا صغارا وقت اعتقال والديهم، صفتان رُصدتا بوضوح؛ الأولى هي تجنُّبهم للحديث حول ما يعرفونه عن التجربة في أوساط أُسرهم بسبب شعورهم بالألم، أما الثانية فهي الشعور بالذنب بسبب “مسؤوليتهم” عن بعض تلك المواقف. أما لدى الجيل الثالث فأشارت الدراسة إلى انتقال الصدمة إليهم رغم عدم توفر دراسات كافية ترصد آثارها، لكنها أكَّدت وجود آثار لصدمات العنف السياسي لدى أبناء هذا الجيل في جميع أنحاء أميركا اللاتينية.

تغيُّر يُصيب الجينات

في بحثها، وضعت راشيل بين التفسيرات المحتملة أن يكون هذا الشعور بالصدمة والتأثير الذي اتضح في سلوك الأطفال المترددين عليها قد انتقل من خلال سلوك الآباء والأمهات واتجاهاتهم في التربية، وميلهم على سبيل المثال إلى حماية أطفالهم بشكل مبالغ فيه، لكن الدراسة التي قامت بها لاحقا ونشرتها مجلة “بايولوجيكال سايكاتري” عام 2016 كانت تؤكد وجود عنصر وراثي وراء هذا التأثير.

بدأت الباحثة مع فريقها في فحص المستويات الهرمونية لنسل ضحايا الهولوكوست، لتجد أن العلامات اللاجينية نفسها التي كانت موجودة في الحمض النووي لوالديهم ونتج عنها تلك الاستجابة للصدمات كانت موجودة في الجيل التالي. لقد انتقلت أعراض الصدمات من جيل إلى جيل، فظهرت لدى الأبناء أعراض مثل الاكتئاب والقلق والرهاب والشعور بالذنب.

قبل أشهر قليلة، كتبت راشيل يهودا في موقع “ساينتفيك أميركان” (Scientific american) عن تجربتها في ملاحظة أبناء الأمهات اللاتي كُنَّ حوامل خلال أحداث انهيار برجَيْ مركز التجارة العالمي في 11 سبتمبر/أيلول 2001، بناء على فحص أجراه الأطباء في مدرسة إيكان للطب في مانهاتن لما يقرب من مئتي امرأة حامل تعرَّضن للصدمة وعانت بعضهن من اضطراب ما بعد الصدمة خلال تلك الأحداث.

كان لدى الأمهات اللاتي عانين من اضطراب ما بعد الصدمة مستويات منخفضة من هرمون الكورتيزول المرتبط بالتوتر، وكان من المثير للدهشة والقلق أن لعاب الأطفال في الأشهر الأولى كشف أيضا عن انخفاض الكورتيزول، وخاصة الأطفال الذين كانت أمهاتهم في الأشهر الثلاثة الأخيرة من فترة الحمل خلال الأحداث. الملاحظة الثانية الجديرة بالانتباه أن حجم هؤلاء الأطفال كان أصغر من نظرائهم الذين وُلدوا لأمهات لم يتعرَّضن للصدمة.

في دراسة أخرى نشرتها مجلة “نيتشر نيوروساينس” (Nature Neuroscience) عام 2014 حول تأثير تجربة الشم لدى الوالدين على السلوك والبنية العصبية في الأجيال اللاحقة، أجرى الباحثون تجربة على الفئران لدراسة الوراثة اللاجينية، حيث تم تدريب الفئران على الخوف من رائحة الأسيتوفينون التي تشبه رائحة الكرز واللوز، عبر تعريضهم لصدمات كهربائية مؤلمة مباشرة بعد التعرُّض للرائحة.

سرعان ما ربطت الفئران الرائحة بالخوف، واستمر هذا الشعور حتى عندما توقف الباحثون عن صعق الفئران، واصل الباحثون تتبُّع نسل تلك الفئران، ليتبيَّن أن لديها حساسية من رائحة الكرز واللوز رغم عدم تعرُّضها للصدمات الكهربائية مطلقا، لكنها كانت ترتجف حين تشم الرائحة، كان الجيل الأول يعاني الخوف، بينما شعر الجيل الثاني بحساسية تجاه الرائحة نفسها فأظهر بعض التوتر، بما يؤكد إمكانية تأثُّرنا بالتجربة الشمية لأحد الوالدين وإمكانية حدوث تغييرات في التشريح العصبي الشمي وما يرتبط به من سلوكيات.

علم التخلق يفسر الأمر

في التسعينيات، كانت النتائج الماثلة أمام العلماء تؤكد أن الجينات يمكن أن تتغير وفق عوامل غير مكتوبة في شفرتنا الجينية، ونشأ عندها “علم التخلق” (Epigenetics) الذي يدرس ما يُطلق عليه “ما فوق الجينات”، وتعني التغييرات التي تحدث في الطريقة التي تنشط بها العوامل الوراثية لدينا. فبينما يصف علم الوراثة تسلسل الحمض النووي، فإن علم التخلق الذي أثار جدلا كبيرا يتخصص في نشاط العوامل الوراثية أو تثبيطها استجابة للتغيرات البيئية والسلوكية

توفِّر الجينات القوالب لإنتاج بروتينات الحمض النووي، ويعتمد مقدار البروتينات المُنتجة على البيئة، يشبه الأمر عمل مقدار كبير من الكعك بالمكونات نفسها، قد يخرج بعضه بشكل مختلف فقط لمجرد تغير درجة حرارة الخَبْز، أو زيادة وقت التخمير، أو أي عامل آخر. من هنا كانت دراسة كل ما يؤثر على التعبير الجيني مهمة لفهم البيولوجيا العصبية لاضطراب ما بعد الصدمة، وكيف يمكن لبعض تأثيرات الصدمة أن تستمر إلى ما بعد زوال تهديداتها لتنتقل إلى الأجيال اللاحقة

لا يزال علم التخلق حديث العهد عموما، ولا تزال آليات الوراثة اللاجينية تحتاج إلى المزيد من الدراسة على نطاق عدة أجيال للتوصل إلى استنتاجات مؤكدة. يُعرف الأمر اليوم تحت مصطلح “تأثير الجيل الثاني”، ويحدث في الغالب بسبب أحداث ذات نطاق مجتمعي واسع فتؤثر في مجموعة من الناس في الوقت نفسه، مثل الحروب والإرهاب والديكتاتوريات والكوارث الطبيعية والحوادث المميتة، كما تتسبَّب فيها أحيانا حوادث على نطاق أصغر على المستوى الفردي مثل العنف أو الإساءة أو الاغتصاب أو القتل، أو حتى التعرُّض لحوادث طبيعية أو مشاهدة حوادث أو وفيات، الأمر الذي ينتقل أثره من الجيل الذي عانى الويلات إلى الأجيال التالية.

تكون هذه الاستجابات في معظمها لدى الأجيال اللاحقة بمنزلة آليات دفاعية تحميهم من صدمة كبيرة تعرَّض لها أحد الأجداد يوما. نعم، يبدو أن ما نرثه من تأثيرات ما بعد الصدمة (في صورة جينات) يسمح لنا بالبقاء على قيد الحياة، فيحمينا من صدمات الأجداد لنعيش حياة أفضل، لكن المشكلة تبدأ عندما لا تعود هذه الجينات تخدمنا، فتعوق حياة البعض أحيانا حين تصبح الاستجابات مبالغا فيها، هنا نحتاج إلى معرفة ما يحدث في أجسامنا للتوصل إلى تدخلات وعلاجات تحمينا وتقي أطفالنا من صدمات قد لا يكونون على وعي بها أو بتأثيرها، لكنها تُشكِّل فرقا لا يُستهان به في مجريات حياتهم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *