اقتصاد، مجتمع، ملف

تحقيق: “سيارات البوطا”.. قنابل موقوتة تهدد طرق المغرب أم ملاذ آمن من لهيب الأسعار؟

قنينة الغاز شيشاوة

يعتبرها البعض “قنابل موقوتة” ويراها آخرون حلا عمليا للعزلة وملاذا آمنا من غلاء المحروقات، إنها سيارات تشتغل بغاز البوتان المستمد من “البوطا”، تنتشر بشكل واسع في مناطق وقرى محددة أكثر من غيرها، ويعد أهم روادها هم “أرباب النقل السري” أو “النقل غير المرخص له” المعروف في الشارع باسم “الخطافة”.

هذه السيارات يلفها كثير من الغموض والتستر، ويرفض أصحابها الكشف عن استخدامهم للغاز، بالرغم من كونها تشترك في التقنية مع محركات استخراج المياه من الآبار والمنتشرة علانية في جميع القرى والبوادي المغربية دون أن يخشى أي أحد إلقاء القبض عليه أو مصادرة محركه.

جريدة “العمق” حاولت في هذا التحقيق تسليط الضوء على واحد من المواضيع الذي شكل في أكثر من مناسبة موضوع قرارات منع وحملات أمنية مكثفة، منذ ثمانينات القرن الماضي، دون أن تمكن من الحد منه ودون أن تسير الدولة على اللحاق بالركب العالمي الذي قننه وأبدع له وسائله الآمنة.

ولتتبع خيوط القضية، لبست جريدة “العمق”، في أكثر من مناسبة، جلباب “فلاح” يسعى إلى إجراء تعديلات على سيارته التي لن تتجاوز حدود إقليم شيشاوة، في محاولة منها للوصول إلى معلومات أكثر حول الموضوع الذي تلفه هالة من السرية والاحتياط قبل الخوض فيه، وتمكنت من الوصول إلى أكثر من متحدث من ذوي الخبرة ومن مستعملي “القنبلة” التي يجمع كل عشاقها على أنها آمنة.

تعديلات بسيطة

يؤكد محمد (اسم مستعار)، وهو ميكانيكي في إحدى مدن الشرق، أن عملية تعديل السيارات للاشتغال بالغاز لا تتطلب خبرة ولا تكلفة كبيرة، وأنها عملية “بسيطة جدا”، بشرط واحد فقط وهو أن تكون السيارة مزودة بمحرك يشتغل بالبنزين.

أما عن طريقة التشغيل، فيشرح الميكانيكي الذي أكد للجريدة “توبته” عقب الحملة الأمنية لسنة 2017، أنه يتم إضافة قطعة تسمى “Pressure Regulator and Vaporiser”، تعمل على تعديل درجة حرارة الغاز المنبعث من “البوطا” لتحويله من الحالة الغازية إلى الحالة السائلة.

وتتألف القطعة المذكورة من مدخل للغاز يتم ربطه بقنينة الغاز، ومخرج يتم توصيله بـ”الكاربيراتو” (الجهاز المسؤول على دمج البنزين مع الهواء والتحكم في حجمهما المطلوب حسب السرعة، قبل دفعهما إلى غرفة الاحتراق داخل المحرك)، إضافة إلى مدخل ومخرج للماء، ناهيك عن موصل كهربائي يتصل بمفتاح السيارة للسماح للجهاز بالاشتغال بعد تشغيل السيارة.

بيع LPG على موقع صيني

وبخصوص تواجد الجهاز المذكور في السوق المغربية رغم منع تشغيل السيارات بقنينات الغاز، يبتسم محمد متهكما، ويجيب “إذا كانت هذه التقنية ممنوعة يجب توقيف اشتغال مئات آلاف آبار سقي الضيعات الفلاحية”، مؤكدا أن التقنية ذاتها التي يتم تشغيل السيارات بها هي ذاتها المعتمدة في محركات استخراج الماء من الآبار في جميع الضيعات التي تستعمل قنينات الغاز.

وحتى في حالة تثبيت نظام الاشتغال بغاز البوتان في السيارة، يبقى دور البنزين مهما وتعتمد عليه السيارة في عملية التشغيل الأول، خصوصا في الطقس البارد الذي لا يسمح للغاز بالتحول إلى الحالة السائلة قبل تشغيل السيارة.

وفيما يخص التكلفة، يؤكد محمد أنها لا تتجاوز مبلغ 2000 درهم، حيث يتم اقتناء الجهاز بحوالي 1500 درهم ولا تتجاوز قيمة تركيبه 500 درهم، وتستهل العملية حوالي ساعة عمل على أكثر تقدير.

أما بخصوص مصدر الجهاز، يؤكد محمد أنه كان يستورد من إيطاليا في وقت سابق، قبل أن تغرق تركيا السوق الدولية به وبثمن أقل بكثير من النظير الإيطالي.

وتمكنت جريدة “العمق” من العثور على الجهاز يباع في الإنترنيت في عدد من المواقع العالمية بأسعار تتراوح بين 450 و800 درهم، وتصل في عروض التخفيضات حتى سعر 250 درهم دون احتساب مبلغ التوصيل.

وفي الوقت الذي ترفض بعض الشركات الكبرى مثل “أمازون” توصيله إلى المغرب نظرا لعدم ترخيص السلطات لإدخال الجهاز، أكد تاجر في موقع “علي إكسبريس” الصيني أنه سبق له إرساله إلى المغرب أكثر من مرة دون أي مشاكل.

بيع LPG على موقع صيني

عواصم وروافد

وبمجرد الحديث عن “سيارات البوطا”، وسط مجمع من الناس وبالأخص مهنيي النقل، تسمع على أكثر من لسان عبارتي “سيد المختار” و”بركان”، بصفتهما “عاصمتين” لتشغيل السيارات بغاز البوتان، وهو ما جعل جريدة “العمق” تنطلق في هذا التحقيق من “العاصمة” الأكثر شهرة وهي جماعة سيد المختار بإقليم شيشاوة، هي الجماعة التي بمجرد أن تطأ قدمك على أرضها حتى تعتقد أن الزمن عاد بك إلى سنوات التسعينات أو قبلها نظرا للعدد الهائل من السيارات القديمة الطراز.

غير أن المعلومة “الصادمة” التي صادفتها جريدة “العمق” في آخر أيام التحقيق، هي بداية انتشار الظاهرة في المدن الكبرى، حيث صادفت ميكانيكيا وسط مدينة مراكش يقوم بعملية التعديل على سيارة من نوع “داسيا” لا تظهر عليها آثار الزمن و”الشيخوخة”، كما أن بعض مهنيي إحدى قطاعات النقل أكدوا في حديث لجريدة “العمق” أن الظاهرة أخذت في الانتشار بشكل “مخيف” داخل المدينة الحمراء ومدن أخرى.

تطور بإنزكان

وفي الوقت الذي تعتمد التقنية المعتمدة في معظم المناطق على تجهيزات بسيطة، قال ممتهن نقل سري صاحبته جريدة “العمق” في رحلة قصيرة من مركز جماعة سيد المختار إلى السوق الأسبوعي، إن “من له إمكانيات مادية يعتمد تقنية أكثر تطورا تقوم على تقسيم خزان الوقود إلى قسمين اثنين وتزويد النصف الثاني بمضخة تمكنه من تفريغ الغاز من “البوطا” إلى الخزان الجديد، وهو ما يجعل سيارته تسير بطاقة غاز البوتان دون أن يوجد بها أي دليل مرئي”.

وتابع حديثه الذي لم تعثر جريدة “العمق” على ما يؤكده أو يكذبه، “كاين من يحول الرزيرفوار (الخزان) كله إلى الغاز يضع البنزين في رزيفوار الماء ديال السويكلاص (مساحات الزجاج الأمامي)”.

وحسب أكثر من مصدر فإن التقنية التي “ابتكرها” ميكانيكيو سوس تكلف سعر 3000 درهم تشمل الخزان والمضخة، دون احتساب سعر تحويل المحرك إلى الاشتغال بالغاز كما تم شرحه سابقا.

مبررات اقتصادية

أما عن دوافع استعمال فأجمع كل من تحدثت إليهم جريدة “العمق” خلال تتبعها خيوط هذا الملف، على أن الدافع الرئيسي هو “تخفيض كلفة التنقل”، مبرزين أن “بوطة” واحدة من الحجم الكبير، تمكنهم من قطع مسافة قد تصل حتى 170 كيلومترا خصوصا في الأجواء الدافئة وفصل الصيف، وتنخفض المسافة إلى 130 كيلومترا في عز الشتاء والطقس البارد.

وبإجراء عملية حسابية بسيطة عبر مقارنة سعر البنزين الذي يقارب سعره، أثناء إجراء هذا التحقيق، حوالي 15 درهما، بسعر قنينة الغاز البلغ ثمنها 40 درهما، يتبين أن “خرق القانون” يساوي اقتصاد حوالي 75 في المائة من ميزانية استخدام السيارات.

من جهة أخرى، يعمد بعض ممتهني النقل السري إلى استخدام قنينات الغاز بسبب “تنقلهم بين دواوير وفي مناطق نائية لا تتوفر فيها محطات الوقود”، على حد قول مالك سيارة شخصية يستخدم غاز البوتان، صاحب جريدة “العمق” في جولة داخل تراب سيد المختار.

طرق التحايل

بعد طول تفاوض، اقتنع عمر (اسم مستعار) بشرح طريقة تشغيل سيارته لجريدة “العمق”، بعد أن ظل يرفض الحديث مخافة فضح طرق التحايل على رجال الأمن والدرك، خاصة في السدود القضائية والأمنية وقطع الطريق على استعمال قنينات الغاز التي يراها “الحل الأمثل لمواجهة ارتفاع أسعار المحروقات”، على حد قوله.

وأول ما كشفه عمر لجريدة “العمق”، زر تم تثبيته قرب لوحة تحكم السيارة يمكنه من تحويل مصدر طاقة المحرك من الغاز إلى البنزين والعكس، وقال “أستطيع تحويل مصدر الطاقة بمسافة قصيرة من الباراجات لمنع انبعاث رائحة الغاز من السيارة، وبذلك لا يصعب أن يشك الأمن والدرك في استخدامي لقنينة الغاز”، مؤكدا أن رائحة غاز البوتان مميزة جدا ويسهل على المراقبين اكتشافها بمجرد وقوف السيارة لبضع ثوان، مضيفا أن المحرك يصدر أيضا صوتا مميزا عند اشتغاله بالغاز، لكن بمجرد تحويله إلى البنزين تختفي هذه الأدلة.

وواصل عمر حديثه، “ولتفادي اكتشاف قنينة الغاز داخل الصندوق الخلفي للسيارة، قمت بصناعة حاجز من الألمونيوم المغطى بالجلد والثوب، يقسم الصندوق الخلفي إلى قسمين، بحيث لا يدري من يفتح الصندوق أنه له امتداد يمكن الوصول له عبر إنزال الكراسي الخلفية”.

وبما أن عمر يضطر إلى حمل قنينتين في سيارته لتفادي انتهاء إحداها خارج المجال الحضري أو في مكان لا يمكنه إخراج “البوطا” أمام الملأ، يقول إنه أعاد تبليط الجزء المعزول من الصندوق بمادة جلدية، ويضع حاجزا بين القنينتين لمنع التصادم أو إصدار صوت في المطبات والحفر، كما يؤكد أنه “ابتكر حزاما” يجعل القنينة ملتصقة بمكانها، على عكس العديد من أصحاب السيارات الذين يتركون قنينة الغاز دون تثبيت.

خطر كبير

بالرغم من المميزات الاقتصادية والبيئية لتشغيل السيارات بالغاز، تبقى الطريقة المعتمدة في المغرب محفوفة بالعديد من المخاطر سواء المرتبطة بسلامة الأشخاص أو بجودة المركبات، ناهيك عن المخاطر البيئية المتعددة، حيث تبقى التقنية المعتمدة غير ضامنة لتحقيق احتراق كامل داخل المحرك، وهو ما يؤدي إلى إنتاج أحادي أكسيد الكربون الذي يسبب الاختناق ويعد من ضمن الانبعاثات التي تسعى اتفاقيات المناخ إلى الحد منها نظرا لضرره الكبير على البيئة.

وفي هذا السياق، يوضح أستاذ العلوم الفيزيائية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، رضوان البهجاوي، أن غاز البوتان الذي يعد من الهيدروكاربونات (من عائلة الألكان)، يعتبر أكثر حساسية للبرودة من غاز البروبان الذي يستعمل في تشغيل السيارات في الدول التي ترخص لاستعمال الغاز، مشددا على أن الاستعمال الخارجي للغاز يفضل فيه البروبان (ذو الصيغة الكيميائية C3H8) لأنه لا يصل إلى الغليان إلا بعد نزول الحرارة إلى -44 درجة مئوية، في حين أن البوتان (ذو الصيغة الكيميائية C4H10) يغلي في درجة حرارة الصفر.

غير أن الأستاذ الجامعي أبرز من جهة أخرى في حديثه لجريدة “العمق”، أن غاز البوتان يتميز بقدرته الطاقية التي تصل إلى 32 كيلو واط لكل متر مكعب منه، مقابل 25 كيلو واط لنفس الكمية من غاز البروبان، وهو ما يجعل قدرة “البوطا” المستعملة في المغرب أكبر وبالتالي تمكن من اقتصاد مصاريف الطاقة.

لكن هذا الامتياز لغاز البوتان لا يعطيه أية أفضلية على البروبان أو غيره من الغازات المستعملة دوليا في تشغيل السيارات، وهو ما أكده البهجاوي لجريدة “العمق”، حيث أوضح أن البوتان والذي يسمى أيضا “الغاز المنزلي” نظرا لأن استعماله شبه محصور في الاستعمال داخل المطبخ، يتميز بكلته الكبيرة مقارنة مع الأوكسجين وهو ما يجعله “يصطاد الأكسجين في حالات التسرب”، وبالتالي فإن أي تسرب صغير قد يؤدي إلى الاختناق وإلى الرجفان البطيني في حال غياب التهوية ويزيد احتمال اشتغال النار وقد يصل الأمر إلى حد انفجار السيارة.

ممارسات أخطر

خلال تتبعها لتفاصيل القضية، وقفت جريدة “العمق” في نواحي جماعة سيد المختار بإقليم شيشاوة، على ممارسات تعد أكثر خطورة من استخدام “البوطا”، والتي مازلت موضوع نقاش وخلاف، وهي الممارسات التي تظهر بشكل خاص لدى ممتهني النقل السري المستعملين للغاز، تتجلى أساسا في “السياقة بدون رخصة”، و”عدم التوفر على وثائق السيارة من تأمين وبطاقة رمادية وضريبة… الخ)، ناهيك عن إخضاع المركبات للفحص التقني بالرغم من أن معظمها من السيارات المعمرة التي لا يقل عمرها عن 15 سنة على أقل تقدير.

ومن المشاهد التي عاينتها جريدة “العمق” بمحيط السوق الأسبوعي لسيد المختار، الذي يصبح فيه المحظور علنيا ويحظر فيه الجميع باستثناء عناصر الدرك الملكي والمراقبة الطرقية، إقدام هذه المركبات على نقل عدد كبير من الأشخاص يفوق قدرتها الاستيعابية وكما هائلا من الأثقال في صندوق السيارة وفوقها، إضافة إلى وضع قنينات الغاز وسط مواد قابلة للاحتراق وتأجيج النار مثل التبن والقمح والمواد الغذائية المختلفة.

سجل نظيف

في المقابل، يؤكد مستعملو التقنية أن سجلها نظيف من أي حوادث تذكر، حيث يقول عبد الرحمن وهو موظف بالقطاع العام في منطقة سيد المختار: “لم يسبق مطلقا أن اشتعلت النيران في أي سيارة بسبب البوطا”، مسترسلا “معظم الناس هنا، مهنيون أو خواص يستخدمون البوطا في سياراتهم إلا القلة القليلة، ولم يتم تسجيل أي حالة احتراق أو انفجار”.

وأصر أكثر من متدخل من أبناء المنطقة، حاولت جريدة “العمق” استقصاءهم أثناء جلسة شاي بأحد المنازل، على أن “البوطا أكثر أمانا من البنزين”، معتبرين أن “البوطا الكبيرة الحجم لا تنفجر أبدا حتى داخل المنازل فما بالك في السيارة التي تسير في الهواء الطلق”.

كما دافع المتحدثون عن أصحاب سيارات النقل غير المرخص له الذين يستعملون “البوطا”، مؤكدين أن نشاطهم يتم في أماكن بعيدة عن محطات التزود بالبنزين ويقومون بدور هام يبرر استخدامهم للغاز، حيث يؤكد متحدث أنهم “ينوبون عن الدولة في كل شيء، يوصلون المعلمات والمعلمين إلى مدارسهم، وينقلون سكان الدواوير إلى السوق الأسبوعي ويحملون بضائعهم، ويوصلون المرضى وضحايا لسعات العقارب من الدواوير إلى الطرق المعبدة لتتمكن سيارات الإسعاف من نقلهم…”، ويقاطع شخص آخر متهكما:”حتى صناديق الانتخابات هم من يحملها من المكاتب النائية إلى المكاتب المركزية”، معتبرا في هذا السياق أن “الدولة لن تحاربهم لأنها تحتاج لهم بشدة، وحتى إذا وقعت حادثة لا قدر الله يتم التغاضي عن البوطا في المحاضر”، يقول الشخص ذاته.

حملات أمنية

وشكل موضوع تشغيل السيارات بقنينات غاز البوتان قلقا لدى الفاعل العمومي المغربي خلال السنوات الأخيرة، وأطلقت على إثره الدولة مجموعة من الحملات التمشيطية والأمنية للحد من الظاهرة، ومع ذلك مازالت عدة سيارات تتجول في طرق المغرب خصوصا في المجال القروي حاملة في صناديقها الخلفية “قنابل موقوتة”.

في هذا الصدد، سبق للمدير العام للأمن الوطني عبد اللطيف الحموشي تعميم مذكرة أمنية على ولاة أمن ورؤساء المناطق سنة 2016، أبرز من خلالها أن “الصناديق الخلفية لعدد كبير من سيارات الأجرة والنقل السري والسيارات الخاصة، تحمل مئات قارورات الغاز، وتتجول بالمدن والقرى مشكلة خطرا على السكان وراكبي السيارات”.

وأصدر الحموشي في مذكرته يومها، تعليمات بالتصدي لمستعملي سيارات المشتغلة بقارورات الغاز بدل البنزين، مشددا على أن “الظاهرة انتشرت بشكل كبير، وصارت قاعدة وليس استثناء لدى أرباب سيارات تستعمل للنقل السري، إضافة إلى مواطنين عاديين أصبحوا يلجؤون إلى خدمات تركيب قنينات الغاز”.

وفي أوائل سنة 2017، أسفرت الجهود الأمنية عن ضبط 238 سيارة تستعمل قنينات الغاز وتم تقديم مالكيها أمام العدالة بموجب مساطر قضائية، وتربعت مدينة أكادير على رأس حصيلة المخالفات حيث تم ضبط فيها 123 سيارة، متبوعة بكل من العيون ووجدة وسطات.

وأوردت المديرية العامة للأمن الوطني أن “العمليات تندرج في إطار زجر الاستعمال غير المشروع لقنينات غاز البوتان كمصدر لتحريك السيارات في إطار تنزيل الإستراتيجية الوطنية للسلامة الطرقية، في شقها المتعلق بضمان احترام المعايير والمواصفات الدولية ذات الصلة بأمن المركبات، لاسيما تلك المتعلقة باعتماد مصادر الطاقة والشروط التقنية المصادق عليها”.

فراغ قانوني

بالرغم من المخاطر المترتبة على تشغيل السيارات بقنينات الغاز وبالحملات الأمنية للحد من الظاهرة، تبقى المسألة غير مؤطرة قانونيا بما يتلاءم مع خطورة المسألة، فباستثناء دورية لوزير الطاقة والمعادن صادرة سنة 1985 تتعلق بمنع تشغيل المركبات بغاز البوتان، تبقى المسألة مطروحة أمام الاجتهاد القانوني والقضائي، كما أن مدونة السير لم ترتب عقوبات على تغيير الخصائص بقدر ما رتبتها على “عدم المصادقة عليها”.

وفي هذا الصدد، يبرز الباحث سعيد بواطاس في مقال علمي نشره بالعدد رقم 5 لمجلة “منازعات الأعمال”، يحمل عنوان “موقف القانون المغربي من تشغيل المركبة بغاز البوتان”، أن المشرع المغربي “لم يجرم فعل تغيير الخصائص التقنية للمركبة بتشغيلها بغاز بالبوتان كفعل مستقل بحد ذاته، وإنما جرم فعل رفض أو إهمال إخضاع المركبة للمصادقة بعد هذا التغيير”.

من هذا المنطلق، يشير الباحث إلى أن “أول الآثار الزجرية التي يصطدم بها مشغل المركبة بغاز البوتان حتى قبل وصول قضيته إلى القضاء هو إمكانية وضعه تحت الحراسة النظرية لمدة لا تتجاوز 48 ساعة من طرف ضابط الشرطة القضائية من غير حاجة إلى إدخال القضاء إلا فيما يتعلق بالإشعار البعدي للنيابة العامة بإجراء الوضع تحت الحراسة النظرية، اعتبارا لكون الأمر يتعلق بحالة التلبس بجنحة طبقا للمادة 66 من قانون المسطرة الجنائية”.

ويتابع “وعند إحالة المتهم على القضاء ومحاكمته نجد المادة 157 من مدونة السير على الطرق ترتب على من وقع في جريمة رفض أو إهمال إخضاع مركبته التي غير من خصائصها التقنية ــ كما في حالة تشغيلها بغاز البوتان ــ للمصادقة من جديد، عقوبة ميزت فيها بين ما إذا كان مالك المركبة المخالف شخصا طبيعيا أو كان شخصا معنويا. وهكذا، فإذا كان المخالف شخصا طبيعيا كانت العقوبة في الحالة العادية بغرامة من 5000 درهم إلى 30 ألف درهم، أما في حالة العود التي تتحقق بصدور حكم حائز لقوة الشيء المحكوم به بخصوص هذه الجنحة وارتكاب المتهم نفس الفعل قبل مضي خمس سنوات من تمام تنفيذ أو تقادم العقوبة الصادر بها الحكم الأول، فإن العقوبة تكون بغرامة من 10 آلاف إلى 60 ألف والحبس من 3 أشهر إلى سنة أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط”.

“وسواء كان الشخص المخالف شخصا طبيعيا أو كان شخصا معنويا فإن للقاضي بما له من سلطة تقديرية في تطبيق العقوبات الإضافية أن يحكم بمصادرة المركبة التي تم تشغيلها بغاز البوتان لفائدة الدولة”، يورد بواطاس في المقال نفسه.

خطر قانوني آخر سلط عليه المقال العلمي المذكور الضوء، وهو “بطلان عقد التأمين” بخصوص المركبات التي تشتغل بغاز البوتان، وفق ما ترتبه المادة 30 من مدونة التأمينات والذي “ينطبق على حالة التعاقد مع المؤمن بشأن عربة تم تغيير خصائصها التقنية بتشغيلها بغاز البوتان قبل إبرام عقد التأمين دون إطلاعه على ذلك، حيث يصبح المؤمن له حينها في حكم طالب التأمين الذي يكتم على المؤمن ظرفا من شأنه أن يغير في نظر المؤمن موضوع الخطر أو يزيد من أهميته، فيكون صاحب المركبة في حال وقوع الحادث محل التأمين ملزما بتحمل التعويضات التي كان من المفروض أن تؤدى له لو صرح بحالة مركبته بدقة، أو على الأقل سيتحمل قسطا منها بتخفيضها تناسبيا بين نسبة الأقساط المؤداة ونسبة الأقساط التي كان من المفروض أن تؤدى لو صرح بالأخطار كاملة في حالة عدم ثبوت سوء نيته في إغفال التصريح بأن المركبة يتم تشغيلها بغاز البوتان طبقا للمادة 31 من مدونة التأمينات”.

هذا الفراغ القانوني، يفسر أيضا باضطرار جماعة مدينة العيون التي تعرف بدورها انتشارا كبيرا للظاهرة، إلى إصدار قرار صادق عليه المجلس الجماعي في دورة فبراير الماضي، يقضي بـ”منع سير وجولان المركبات ذات المحرك المستعملة لغاز البوتان (البوطا)”، وعللت القرار بـ”الحفاظ على حياة الساكنة وحمايتها في ظل تعدد حوادث الحرائق بمركبات الكويرات (المعروفة في وسط المغرب باسم الهوندا، وتحمل الركاب وليس البضائع) وما يمكن أن يكون لاستعمال غاز البوتان من تداعيات صحية سلبية وخطيرة على حياة المواطن”.

أحكام جد مخففة

وبخصوص مصير الموقوفين في الحملات الأمنية المذكورة، تتبعت جريدة “العمق” مسار محاكمة مستعملي غاز البوتان لتشغيل سياراتهم، والذين يعد معظمهم من ممتهني النقل السري، لتتفاجأ بالعقوبات المخففة، والتي لم تتجاوز الغرامات المالية في بعض المحاكم، حيث قضت المحكمة الابتدائية بأكادير في 38 ملفا اطلعت عليه جريدة “العمق”، بغرامة قدرها 1000 درهم من أجل تهمة “تغيير الخصائص التقنية للمركبة”، وأضافت غرامة 500 درهم على جنحة “نقل الركاب بدون رخصة”، في حين قضت المحكمة الابتدائية بمدينة العيون بشهرين حبسا موقوف التنفيذ وغرامة مالية قدرها 500 درهم في ثلاثة ملفات عرضت على أنظارها سنة 2017.

وفي تحليل للأحكام الصادرة بخصوص الملفات المذكورة، اعتبر قاض أصر على عدم ذكر اسمه، أن “تخفيف الأحكام” أمر طبيعي، معللا بأن الملف يعد “جديدا على القضاء، وليس مؤطرا بنصوص قانونية خاصة باستثناء ما جاء في مدونة السير حول إخضاع المركبة للمصادقة بعد إجراء تعديلات على خصائصها”، وأبرز أن لم يحصل بعد أي اجتهاد قضائي أو قرار لمحكمة النقض، وتابع “وربما لأن المسألة لم تأخذ حجمها الطبيعي نظرا لكونها حالات نادرة التكرار ولا تعرض على أنظار جميع المحاكم”.

جريدة “العمق” في هذا الصدد، ساءلت القاضي ذاته عن موقع القانون الجنائي من المسألة، فأجاب بأن القانون الجنائي “لم يجرم بصفة مطلقة تعريض سلامة الناس للخطر مقارنة بنظيره الفرنسي، بل اكتفى بالتنصيص على مجموعة من الأفعال المحددة والتي لا يندرج ضمنها ما يمكن القياس عليه في حالة تشغيل المركبات بالغاز، وهو ما يستوجب اجتهادا من المشرع”.

أما الباحث سعيد بواطاس في مقاله العلمي ذاته، وبعد إشارته إلى عدم “تجريم فعل تغيير الخصائص التقنية للمركبة”، علق بقوله “وهو ما يجعلنا نلاحظ على متابعات بعض النيابات العامة أنها تكون معيبة بهذا الخصوص حينما تتابع المتهم بجنحة تغيير الخصائص التقنية للعربة طبقا للمادة 157 من مدونة السير على الطرق، فتقع بذلك في خرق مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، وتدفع بمحكمة الموضوع إلى استعمال ما لها من سلطة إعادة التكييف بإعادة تكييف الفعل حتى يكون مطابقا لما جرمه النص القانوني المذكور”.

إقبال دولي

وفي الوقت الذي مازال مواطنو بعض البلدان يضطرون إلى إجراء تعديلات سرية على السيارات لاستعمال “الغاز المسال” في سياراتهم (البوتان في المغرب، والبروبان في دول أخرى)، يسير العالم بسرعة كبيرة للانتقال نحو الغاز في أفق الارتقاء إلى تشغيل السيارات بالهيدروجين الأخضر، حيث تشجع دول مواطنيها لاستعمال الغاز بدل البنزين، وترخص لعمل شركات متخصصة في تحويل أنظمة المحركات لإجراء التعديلات الآمنة والمعتمدة دوليا، مما يجعل أرباب السيارات مستغنين عن حمل قوارير الغاز في الصناديق الخلفية، مادامت السيارة متوفرة على خزان للغاز إلى جانب خزان البنزين، وبما أن الغاز يباع في محطات الوقود.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، توجهت حكومة أبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة إلى تحويل 25 في المائة من المركبات الحكومية إلى العمل بالغاز الطبيعي المضغوط، وذلك لأنه يتسم بانخفاض انبعاثاته الكربونية، ويدخل المشروع ضمن “الرؤية الاقتصادية 2030 حول تحقيق مستقبل معرفي مستدام”، وفق المعطيات المنشورة على الموقع الرسمي لشركة “أدنوك” المكلفة بتحويل السيارات الحكومية للاشتغال بالغاز.

ويؤكد المصدر ذاته، أن “تكنولوجيا الغاز الطبيعي للمركبات تقوم بدور متنام في خفض مستويات تلوث الهواء عالمياً”، مبرزا أنه “يجري حالياً تشغيل أكثر من 22 مليون مركبة بالغاز الطبيعي في أكثر من 80 بلداً، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد بشكل متسارع”.

الغاز أنظف

تؤكد شركة “أدنوك” على أمان تشغيل السيارات بالغاز قائلة إن “خصائص الغاز الطبيعي للمركبات تجعله منه وقوداً أكثر أماناً، فهو أخف وزناً من الهواء، وبالتالي فإنه يتلاشى في الغلاف الجوي بسرعة في حال حدوث تسرب، كما أن نسبة اشتعال الوقود-إلى-الهواء محددة جداً مما يقلل من احتمالات اشتعاله، وهو ليس ساماً ولا يسبب التآكل لذلك فإنه لا يشكل أي خطر على الصحة عند التعامل معه”.

وتردف الشركة المتخصصة وفق موقعها الرسمي “أن أسطوانة التخزين المستخدمة أقوى من خزان وقود البنزين وقد خضعت لعدة اختبارات لتحديد قدرتها على مقاومة الحرارة وحالات الضغط العالي وإطلاق النار والتصادم والنار، كما أن قابلية اشتعاله محدودة مما يجعله أكثر أماناً من أنواع الوقود الأخرى”.

كما تؤكد الشركة ذاتها المبررات الاقتصاد التي تدفع المغاربة إلى خوض مغامرة تشغيل السيارات بالغاز، مبرزة أن “تكلفة الغاز الطبيعي للمركبات أقل من البنزين”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • عزيز
    منذ شهرين

    نعم هده الوسيلة جيدة لأن الأسعار ملتهبة

  • زنداح
    منذ سنتين

    الى من يفكر في الخدمة حداري من اي تسرب لاقدر الله فالامور كهذه لا تحمد عقباها نعم لو فكروا في سيارات البروبان و ليس البوطان لان الاخير اي تسرب لا السائق و لا الركاب لن ينجو منهم احد الا من قدر له رب العباد بعمر جديد

  • ابراهيم برنيشة
    منذ سنتين

    في دول كثيرة منها الاجنبية الغربية ومنها العربية، هناك سيارات تعمل بغاز البوطان، بل وبأقل جودة من الذي يستعمله المغاربة، إيطاليا اليونان...سوريا الجزائر ، اما عن الزعم بانها تعرض الحياة الى الخطر فهو مجرد ادعاء لا اساس له من الصحة، فهناك افران في المدن تعمل بالغاز ومن حولها كم كبير من الساكنة، اضافة الى الفنادق، اما تحمله الشاحنات من صهاريج فحدث ولا حرج.