منوعات

تعرف على أكبر وأخطر فضيحة في بطولة العالم للشطرنج منذ عام 2006

لا يحكي التقرير التالي مجرد قصة غش في إحدى أشد اللعب اعتمادا على الذكاء والخيال والابداع، بل يقترح علينا نموذج لحالة غش صادمة وخطيرة في الآن نفسه، تشير الدلائل إلى وجودها لكن لا أحد استطاع الكشف عنها وفك لغزها لحد الآن.

فالقصة تتحدث عن هزيمة بطل عالمي ضل يسجل الانتصارات طيلة عقد من الزمن، أمام شاب صاعد، أظهر براعة استثنائية سدت جميع الخيارات أمام البطل الذي أعلن الانسحاب من البطولة كلها، واكتفى بإعلان عبارة اشتهرت عن جوزيه مورينيو، مدرب كرة القدم البرتغالي واسع الشهرة، يقول فيها: “أنا أُفضّل عدم التحدث، إذا تحدثت فأنا في ورطة كبيرة”.

فكيف جرت الأمور؟ وما أشكال الغش في لعبة الشطرنج؟ ولماذا لم يستطع أحد إثبات غش الشاب “هانز نيمان” إلى اليوم رغم يقين الجميع من ذلك؟ وما دور الحواسيب في تطور الغش في الشطرنج؟

هزيمة بطعم الصدمة والغرابة

بعد ظهر الرابع من سبتمبر/ أيلول 2022، حسب الجزيرة نت، جلس بطل العالم في الشطرنج النرويجي “ماغنوس كارلسن” أمام نجم أميركي صاعد يدعى “هانز نيمان” في الجولة الثالثة لبطولة كأس “سينكيفيلد” المرموقة، والمقامة في مدينة سانت لويس بالولايات المتحدة الأميركية. بدأ “كارلسن” بالحركة B4، أي أنه قام بنقل البيدق الذي يقف أمام الوزير خطوتين للأمام، يرد “نيمان” بالحصان في الخانة F6، كل شيء يبدو طبيعيا، لكنه لم يستمر كثيرا على هذا الوضع.

بحلول النقلة الثالثة عشرة من المباراة، كان الوضع غير معتاد، هانز كان يضغط بقوة شديدة على “كارلسن” بحيث بدا الأخير كأنه يعاني من أجل إيجاد الحركات على الرقعة بعض الوقت مضى حتّى تأكد الأمر، هانز يمسك بالمباراة بيد من حديد، في النهاية نخلص إلى تفوق ببيدقين قاسيين يمكن لهما إنهاء المباراة لصالح هانز، فلا يجد بطل العالم بُدّا من الانسحاب أمام هذا الشاب الأميركي الذي لم يبلغ بعدُ عامه العشرين.

وفي اللحظة التي خرج فيها “كارلسن” من القاعة، حسب نفس المصدر، كان العالم في موعد مع إحدى أكبر الفضائح في تاريخ الشطرنج قاطبة، على الأقل هي الأكبر والأخطر منذ عام 2006 في بطولة العالم للشطرنج، حينما اتُّهم “فلاديمير كرامنيك” من قبل مدير الخصم (فيسيلين توبالوف) بزيارة المرحاض بشكل متكرر أثناء المباريات لتلقّي المساعدة، بعد تسع سنوات من هذه المباراة، وفي عام 2015، صرّح “كرامنيك” في مقابلة أنه لا يحترم “توبالوف” بصفته شخصًا، ولن يصافحه في المباريات.

ولفهم الفكرة الخاصة بالفضيحة الحالية، دعنا نبدأ من سياق هذه المباراة، التي دخلها “كارلسن” وهو بطل العالم لفترة دامت أكثر من عقد من الزمن، بتقييم هو الأعلى في تاريخ اللعبة، وقدرة على اللعب بلغت حد يقين كثير من الخبراء بأنه اللاعب الأفضل في التاريخ، عدة سنوات مرت لم ينهزم فيها مرة واحدة طوال 53 مباراة. الهزيمة أمام “نيمان” ستكلف “كارلسن” 7 نقاط تقييم، وهي نكسة كبيرة في سياق محاولته الوصول إلى تقييم “إيلو” من 2865 إلى 2900. نظام تصنيف “إيلو (Elo)”(2) هو مقياس يُستخدم لقياس قوة لاعبي الشطرنج.

أما “نيمان” فقد دخل المباراة وهو أقل من “كارلسن” بأكثر من 150 نقطة، هذا مفهوم، فهو ما زال صغيرا (19 سنة) ويطمح للتقدم مع الزمن، في المقابل لعب باللون الأسود الذي يعد أضعف قليلا في اللعب، أضف لذلك أن “كارلسن” قادر على لعب أي افتتاح أو مركز تقريبا، ويشتهر بالدقة وأسلوب اللعب الرصين وخيارات الافتتاح القوية خاصة مع القطع البيضاء، ومن ثَمّ كان الاحتمال الأقرب لهذه المباراة هو خروج “كارلسن” منتصرا، ليحصل على كأس البطولة ومبلغ محترم (350 ألف دولار)، ويستمر كل شيء كما هو عليه.

البطل ينسحب من البطولة!

في اليوم التالي، خرج “كارلسن” على تويتر ليعلن أنه منسحب من البطولة بالكامل، في رد فعل نادر جدا في تاريخ الشطرنج وتاريخه الشخصي، مع هذا الرد نشر بطل العالم فيديو عادة ما يُستخدَم باعتباره “ميمي” لجوزيه مورينيو، مدرب كرة القدم البرتغالي واسع الشهرة، يقول فيه: “أنا أُفضّل عدم التحدث، إذا تحدثت فأنا في ورطة كبيرة”، كان ذلك تعليقا خلال مؤتمر صحفي حول مباراة ربما خسر فيها فريقه بسبب سوء التحكيم، إشارة غير مباشرة إلى أن “كارلسن” يقول إن هناك نوعا من التلاعب قد حصل من قبل “نيمان”.

في هذه اللحظة، يتحوّل كل شيء إلى طريق لا رجعة فيه. في السابع من سبتمبر/ أيلول يخرج “نيمان” في لقاء بث على اليوتيوب ليقول إنه قام بالغش سابقا، لكن ذلك كان لمرتين فقط في حياته، وكانتا على الإنترنت، حينما كان في عمر السادسة عشرة والثانية عشرة، أي أنه كان لا يزال مراهقا في وقتها ويطمح من التقدير السريع، أضاف “نيمان” أن هناك حملة ضده، فالبعض يستغل أخطاء سابقة للتشكيك في قدراته الحالية على الرقعة.

بشكل خاص يقصد “نيمان” ثلاثة أطراف، الأول هو “كارلسن”، والثاني هو البطل الأميركي “هيكارو ناكامورا” الذي ألمح إلى أن “نيمان” قام بالغش سابقا، والثالث هو منصة “Chess.com”، وهي أهم موقع للشطرنج على الإنترنت، حيث إنه لفترة طويلة لم يلعب “نيمان” أي بطولة بجوائز مالية على الموقع، علق الموقع أنه “أزال بشكل خاص” حساب السيد “نيمان” من الموقع. في تغريدة خاصة أوضحت المنصة أنها ألغت حساب “نيمان” بناء على دلائل على حالات الغش.

لاحقا، في السادس والعشرين من سبتمبر/ أيلول، وبعد انسحاب بعد أول نقلة من مباراة إلكترونية مع “نيمان” يوم 20 من الشهر نفسه، نشر “كارلسن” بيانا على تويتر يشير فيه إلى شبهة غش من قبل “نيمان” في هذه المباراة، ويقول إن “نيمان” ربما غش أكثر مما اعترف به، وإنه حينما أُعلن عن مشاركة “نيمان” في البطولة فكر جديا في الانسحاب، إلا أنه تراجع عن الأمر.

نماذج غريبة للغش في الشطرنج

 

في هذه النقطة دعنا نتوقف قليلا ونتعلم عن الغش في الشطرنج، ولنبدأ من “ديب بلو” المحرك الحاسوبي الذي كان في عام 1997 خصما متساويا تقريبا لـ”جاري كاسباروف”، الآن لم يعد الأمر تنافسا فحسب، فالحاسوب بات يتمكن “بسهولة” من هزيمة البشر مهما بلغت قدرات لاعب الشطرنج، “ستوكفيش (Stockfish)” مثلا هو أقوى محرك في العالم حاليا، بحيث إن تقييم إيلو الخاص به يساوي 3500، من ثَم لم يعد أفضل لاعبي الشطرنج في العالم يكلفون أنفسهم عناء المنافسة مع الحاسوب، لكنهم أصبحوا أصدقاء له بدلا من ذلك.

حاليا، يستخدم اللاعبون المحترفون المحركات الحاسوبية (Engines) لتطوير قدراتهم، فيبتكرون وضعا ما على الرقعة ثم يطلبون من المحرك المضي قدما من تلك النقطة وحساب عشرات النقلات المستقبلية، يساعد ذلك لاعبي الشطرنج المحترفين، لكنه بالطبع لا يغنيهم عن حدسهم، وفي المباريات يطبق اللاعب ما تعلمه من الحاسوب مع حدسه.

يمكن لمحركات الشطرنج عمل حسابات دقيقة جدا، وتخزين كل مباريات الشطرنج التي لُعبت في التاريخ واللعب على أساسها، لكن هذا الفارق تحديدا بين تفكير الآلة الذي يعتمد على الحساب والتذكر وتفكير الإنسان الذي يضيف الحدس، يمكن اكتشافه مع دراسة المباريات نقلة بنقلة، تختلف أساليب التحليل بين الإنسان والكمبيوتر، حيث إن الخطوة المثالية التي يقترحها الكمبيوتر لا تكون غالبا ما يقوم بها الإنسان، حتى اللاعبون الخبراء، وهنا يحتمل -إحصائيا- أن يكون اللاعب الذي تتطابق حركاته مع حركات محرك شطرنج كمبيوتر، بانتظام غريب، من الغشاشين.

أما عن كيفية تطبيق ذلك فالأمر بسيط، فقط شغِّل المحرك وانقل إليه كل نقلة يقوم بها منافسك، سيرد المحرك، خذ النقلة والعبها على الرقعة. لذلك فالغش في الشطرنج عبر الإنترنت أمر شائع، تقوم منصات مثل “Chess.com” أو “Lichess” أو غيرهما بحظر مئات الحسابات يوميا بسبب “مساعدة” تلقاها اللاعبون من محركات الشطرنج، هذه المواقع تقوم بمقارنة حركات الإنسان بحركات الكمبيوتر بحثا عن التشابه كما أسلفنا.

هل غَشّ نيمان؟

لكن هناك إضافة تزيد الأمر تعقيدا، فنحن هنا لا نتحدث عن مباراة عبر الإنترنت، لقد قام “نيمان” بهزيمة “كارلسن” على الرقعة وليس في منافسة إلكترونية، من ثَمّ فإن الاتهامات أكثر خطورة، لأنها تتعلق بحالة غش مباشر على الأرض وأمام أعين الجميع، الدلائل المتاحة حاليا لا تؤيد ذلك، يتم تفتيش اللاعبين قبل دخولهم إلى مكان اللعب، لأنه من المحظور أن تستخدم سمّاعات أو هواتف بالطبع.

لكن ذلك لا يعني أن “نيمان” لم يغش، هناك دائما طرق ذكية ومثيرة للانتباه يقوم بها اللاعبون لتمرير المعلومات إليهم بينما يقومون باللعب. تدخّل “إيلون ماسك” -وهو الرجل الذي يتدخل في كل شيء حاليا- ليقول إن “نيمان” ربما غش عن طريق خرزات هزّازة لاسلكية تم وضعها في شرجه! تعطي هذه الخرزات الكروية الصغيرة ما يشبه إشارات مورس التي تمرر المعلومات لـ”نيمان”.

وعلى الرغم من طرافة ما يطرحه ماسك، فإن الفكرة نفسها ليست جديدة، شخص ما يقوم بدراسة النقلات على الحاسوب ثم يجد طريقة لنقلها إلى اللاعب على الرقعة هي طريقة استُخدمت من قبل، في عام 2010 مثلا أثناء إقامة أولمبياد الشطرنج، قام 3 من لاعبي الفريق الفرنسي بالغش عن طريق إستراتيجية بسيطة، اللاعب الأول يحلل النقلات في برنامج حاسوبي، ثم يمررها للاعب ثانٍ موجود في قاعة المباراة، يقوم هذا الشخص فقط بالانتقال إلى موضع محدد في القاعة، وقد اتفق مسبقا مع اللاعب الرئيسي الذي يجلس على الرقعة على أن جلوسه في هذا الموضع أو ذاك يعني هذه النقلة أو تلك، وهكذا.

إلا أننا لم نرصد إلى الآن أي دليل على حالة غش قام بها “نيمان”، ففي حين أن بعض نقلاته في المباراة كانت بارعة جدا ومشابهة في جانب منها مع نقلات الحاسوب، فإن هناك نقلات أخرى قام بها كانت بشرية وليست حاسوبية؛ ما يشير إلى أنه ربما لم يستخدم الحاسوب، وهذا تحديدا ما يدفع كبار اللاعبين لأخذ موقف متشكك فقط دون الجزم بإدانة “نيمان” بالغش، خاصة أن هناك بالفعل مبررات واقعية لحركات “نيمان” القوية في المباراة.

على الرغم من ذلك، فإنه ليس هناك شك في أن أداء “نيمان” هو شذوذ إحصائي استثنائي، ليس فقط في هذه المباراة، ولكن خلال العام الماضي كله، فقد انتقل من بطولة إلى أخرى دون توقف، وارتفع تقييمه فوق 2700 بعد فوزه على “كارلسن” من 2484 في يناير/ كانون الثاني 2021، وهي زيادة حادة لدرجة أن الكثير من الخبراء والمحللين في هذا النطاق لا يعتقدون أنها ممكنة أصلا. أضف لذلك أن “نيمان” له شخصية حادة الطابع، متمركزة حول الذات، يجد الحكام والمدربون صعوبة في التعامل معه، وقد حقق كل ما سبق بدون وجود مدرب.

مشكلة الشطرنج المعاصرة

في خلفية هذه المشكلة تقع أزمة أكبر، وهي أن المحركات الحاسوبية تتطور يوما بعد يوم وتحاكي لعب البشر، حيث يستخدم الذكاء الاصطناعي نمط الشبكات العصبية ذاتية التعلم، وهنا يكون الشطرنج نفسه في خطر داهم، يهدد اللعبة بالانهيار تماما في يوم ما.

يندمج اللاعبون مع الحواسيب في علاقات تتطور يوما بعد يوم، يستفيدون للغاية مما تقدمه تلك المحركات من مقترحات، لكن ذلك بدوره يغير الطريقة التي يُلعب بها الشطرنج التي كانت يوما ما نموذجا لارتباط الذكاء بالإبداع، وبالفلسفة، وبالفن والشعر، الآن كل شيء محسوب مسبقا، ومن ثم أكثر برودا، بحيث تكون لعبة الشطرنج، يوما بعد يوم، كأنها لعبة حرب نفسية فقط، أما الحركات فمقدور عليها من خلال “ستوكفيش” ورفاقه.

إلى جانب ذلك، فإن هذا التقارب المستمر بين اللاعبين والمحركات الحاسوبية يجعل من كشف الغش أمرا معقدا جدا مع الزمن.

ويبقى لغز غش “نيمان” قائما

في القضية الحالية، فإن الدلائل ضد “نيمان” قوية لكنها ليست وافية، تعتمد على حوادث سابقة لكنها إلكترونية، وعلى تحليل أدائه الذي تصاعد كالصاروخ مؤخرا، وهو أمر له وجاهته بالفعل لأن هذه اللعبة تحمل جانبا إحصائيا صارما، لكننا لم نكتشف بعدُ الدليل المباشر على الغش، ومن المحتمل أن يكسر لاعب ما العادة، إنه احتمال ضعيف جدا لكنه ممكن.

وهنا تجد مكمن الخطورة على مستقبل الشطرنج، أن مشكلة “نيمان”/”كارلسن” قد تظل لفترة طويلة بلا حل، وقد لا نصل إلى أي حل لها على الإطلاق، سواء هي أو أي مشكلة أخرى تظهر في المستقبل من النوع نفسه.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *