منتدى العمق

مظاهر “التراجيديا” في قطاع التعليم في بلادنا..

تصرّ الدولة المغربية في شخص “المافيا الإدارية” إلا أن تلعب في قطاع التعليم، القطاع الذي يعتبر الجهاز العصبي، والقلب النّابض لكل الشعوب والثقافاتِ التي تحترم الانسان باعتباره قيمة من القيم،وبكونه رأسمالاً رمزيا وجب الاستثمار فيه، إن النّسق التعليمي في كل البلدان هو القاطرة المفصليةوالحلقة التنموية المحورية الذي لا و لن تقوم قائمة شعب أو مجتمع من المجتمعات الإنسانية بتهميش هذا الحقل والعبث به حدّ القرف .. وفي الورقة التالية بعض مظاهر “التراجيديا” في قطاع التعليم في بلادنا ، وتجليات العبث في قطاع حيوي لا يحتمل العبث.

بكل معاني اللعب و”العبث الكافكاوي”تغامرُ الدولة بأجيال، وتلهو في قطاع حسّاس وشائكٍ، وبمصير عشراتِ الألوفِ من أبناءِهذا الشّعب المغلوبِ على أمره، إن هذا الاحتقان وهذه الإضرابات والاحتجاجات المتتالية التي عرفها قطاع التعليم في بلادنا طيلة هذه السيرورة الأخيرة (تنسيقية المجازين والماستر يين نموذجا فوج 2012/2013/ الذين اضربوا ما يزيد عن 111 يوم في عزّ الاقتطاعات والتهديد بالعزل، بعد اقصائهم من الترقية بالشهادة على غرار الأفواج السابقة، وأساتذة المراكز، أو ما بات يعرفُ اليوم في ساحة الاحتجاجات بملف تنسيقة الأساتذة المتدربين الذين ربضوا بشوارع الرباطما يقارب ستة اشهر من الاعتصام المفتوح، بعد مقاطعة التكوين النظري البيداغوجي والتدريب الميداني على مطالب مشروعة، بعد فصل التكوين عن التوظيف وإصدار المرسومين المشؤومين، بالرغم من كل الوعود التي التزمت بها الدولة في المحضر الذي وقعته الوزارة مع التنسيقة أبت الأخيرة الا أنتتلكأعن وعودها ، الشيء الذي جعل هؤلاء الأستاذة يستأنفون احتجاجاتهم هذا الأسبوع من جديد، ويتركون وراءهم آلاف الأقسام والمؤسسات تشكوا الفراغ احتجاجا وضدا على ما أسموه خرقا لبنود الاتفاق، كل ذلك وغيره والغير كثير ماهو في حقيقة الأمر إلا إجابة موضوعية عن العبثية والارتجالية واللامسؤولية و”اللخبطة “التي يدبر بها قطاع التعليم في بلادنا، إن ما يعرفه القطاع التعليمي بعد كل خطابات الإصلاح ومشاريع الإصلاح وإصلاح الإصلاح والرؤى الاستراتيجية والتوجهات لا يمكن وصف وضعه والحالة التي يعيشها الا بالتراجيديا والمأساة ..

لنتأمل قليلا .. بعد كل الذي قيل عن التوظيفات المباشرة، والانتقادات التي وجهت لتلك التجربة، تعود الدولة من جديد في صورة أخرىهذه المرة لتفتح المجال أمام ما اسمته توظيفا بالعقدة دون تكوين بيداغوجي ديداكتيكييذكرللمترشحين الذين سيتقدمون لمناصب التوظيف، والسؤال الذي يطرح نفسه كيف يمكن لمن لم يتلق مصوغة واحدة في التكوين التربوي البيداغوجي أن يباشر فعله التربوي، وممارسته الصفية بشكل سليم في الوقت الذي نتغنى ونجهر بالجودة ومدرسة النجاح والإصلاح والرؤية الاستراتيجية ل2015/2030..

إن المنطق التربوي السليم يجيبنا بأن ذلك حتما لا يخرج عن الاستهتار والاستهزاء بالمغاربة ،ثم ألم تكن الدولة نفسها بالأمس القريب تشكك في أساتذة التربية غير النظامية وسد الخصاص وفي كفاءاتهم المهنية حينما كانوا يطالبون بالإدماج والترسيم؟ لماذا تتناقض الآن وتغير موقفها وتصدر بيانا استثنائياوتفتح المجال أمامهم للاستفادة من خبراتهم وكفاءتهم التي راكموها كما عبّرعن ذلك البيان الصادرفي هذا الشأن .. حتى وإن اقتضى الأمر الرفع من سقف السن أمام هذه الفئة الى حدود 47 سنة، الشيء الذي يؤشر بلا مواربة منطق الخلط والخبط والارتباك وتورط الدولة،بعدما سجل ضعف الاقبال والترشح للتوظيف بالعقدة؛ كآخر مسمار يدقّ في نعش الوظيفة العمومية حسب الكثير من الفاعلين والمهتمين.

ثم ماذا عن الآلاف من الطلبة (مشروع تكوين 10000) الذين تلقوا تكوينا بيداغوجيا ووجدوا أنفسهم وجها لوجه في الشارع بلا عمل أمام القمع البوليسي ؟ أليس من العبث أن يسّوى من تلقى تكوينا لسنة كاملة في علوم التربية مع مترشحين بلا زاد نظري بيداغوجي ؟ لماذا صرفت الدولة الملايين على تكوين هؤلاء ما دامت لا تستطيع أن توفر لهم مناصب شغل كافية بل حتى الضغط على المدارس الخصوصية لتوظيفهم كما أخذت على عاتقها في بداية المشروع ؟ ثم أليس عبثا أن يتم اجتياز هذه الفئة لامتحان الولوج لمراكز ومهن التربية والتكوين في مختلف أسلاكها، ويجتروا نفس التكوين البيداغوجي الذي تلقوه قبل ذلك ؟ما فائدة هذا التكرار يتساءل البيداغوجي المغربي “محمد الدريج” في احدى مقالاته النقدية التي خصها لهذا الغرض ..

أليس من الأولى تخصيص مثل هذه التكوينات البيداغوجية لتلك الفئات التي وظفت بشكل مباشر، واقحمت اقحاما لامتصاص غضب الشارع في حراك 20 فبراير لتواجه مصيرها لوحدها في الفصول الدراسية دون زاد نظريديداكتيكي ؟

أليس من الجناية أن يحرم عشرات الألوف من التلاميذ هذه الأيام من حصصهم الدراسية ولاسيما المستويات الاشهاديةبعد اضراب أساتيذهم لان الدولة لم تستجب لمطالبهم ؟ ماذنبهم اذن أن يحرموا من حصصهم الطبيعية القانونية ويعبث بمصائرهم بشكل يبعث عن الحرقة والحسرة .. وقس على ذلك مظاهر التراجيديا التي لا تنتهي ..

ألا يعكس ذلك فعلا غياب إرادة سياسية حقيقية كمدخل من مداخل الإصلاح الحقيقيلإخراج قطاعنا التعليمي من هذه الأزمة الحادة الخانقة التي أصبحنا بموجبها مدانين في التقارير الدولية..

لقد آن الأوان أن نتحمل مسؤوليتنا الأخلاقية والتاريخية جميعا كدولة وكفاعلين تربويين، أن الأن لتحرير قطاع التربية والتكوين من “المافيا الإدارية” التي تستفيد وتنتعش على هذا التدهور الذي يعرفه قطاع التعليم، على الدولة أن تكف عن سياسة توظيف التعليم في تكتيكاتها واجنداتها وتوازناتها السياسية .. آن الأوان لنجعل من تعليمنا رسالة تنويرية اشعاعيةحقيقية يبني العقل ولا يهدمه.. يبني الانسان ويعدّه للحياة ولا يحطمه..