وجهة نظر

الإيموجي .. هل انتهى دور الكلمة؟

ترسل إبهاما، أو وجها ضاحكا، أو وجها بقلوب في عينيه، أو وجها باكيا أو غاضبا، أو غير ذلك فتكون قد بلغت رسالة!

لا شك أنها طريقة سريعة وبسيطة، بل وفعالة أيضا. فقد ولى زمن كتابة النصوص التي تتطلب جهدا فكريا في اختيار الأسلوب والعبارات، وحلت محلها تلك الرموز التي يحاول مبتكروها أن تستجيب لمختلف المواقف وأنواع المشاعر، ونصبح اليوم أمام أزيد من ثلاثة آلاف رمز تواصلي مختلف، ويوم عالمي للإيموجي في 17 يوليوز من كل سنة، وهو غير رسمي، للاحتفال بالرموز التعبيرية.

ومن المهم التذكير بالنقلة القوية لتداول الإيموجي عالميا عندما توافقت المنصات المختلفة سنة 2010 على “معايير توافق” موحدة تجعل الرموز التعبيرية مقروءة فيما بينها، وأصبحت أنظمة التشغيل المختلفة -مثل أندرويد وأجهزة آبل- قادرة على تبادل الإيموجي فيما بينها، وتصبح الإيموجي “لغة عالمية”.

بالطبع لا يمكن لشيء أن يكون بديلا عن الكلمة البليغة، لكن الممارسة أثبتت أن الإيموجي فرض نفسه في ساحة التواصل وحل مشكلات تقنية كبيرة واجهت شركات تكنولوجيا التواصل من قبل، كما اقتصدت جهد ووقت المتواصلين، كوسيلة سريعة ومختصرة للتعبير عن المشاعر والمواقف، وقد تمكنت من كسر حواجز اللغة بين البشر بعد أن “تعارف” العالم حول دلالاتها. ولا شك أنها بذلك قد ساهمت في دينامية التواصل إلى درجة طرح معها سؤال: هل نحن أمام لغة عالمية جديدة؟

بالطبع لا يتعلق الأمر بلغة، بل بكتابة تصويرية على غرار ما اعتمده البشر قبل عام 3000 قبل الميلاد في سوريا والعراق لحل مشكلات التواصل بين الشعوب التي تتحدث لغات مختلفة، وحلوا تلك المشكلة التواصلية التي شكلت عائقا في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، باختراع “الكتابة التصويرية” التي كانت تعتمد نقش صور الأشياء على ألواح من الطين أو المعادن أو الشمع وغيرها من المواد.

كانت الكتابة التصويرية بُرعم الكتابة بعد أن تحولت من صور الحياة اليومية إلى رموز، لتفتح الباب للتطور من ترميز الأشياء نحو الأبجدية التي تترجم الصوت وتحمل الأفكار والمشاعر، ويتمكن البشر بذلك من تحويل لغتهم إلى رموز تنطقها، وتنفجر ثورة اللغة في كل الاتجاهات.

اليوم يبدو أننا نسير في الاتجاه المعاكس، نتخلى عن الكلمات لصالح الرموز!

في هذا المستوى لا يتعلق الأمر بنعي اللغة، أو نعي الكتابة الأبجدية، ولكن بقلق فكري حول مضمون التواصل نفسه، والذي أصبح تقنيا، ليس فقط بوسائطه التي يتم من خلالها عن بعد، بل بمفرداته التي غزتها الرموز.

لا شك في أن الكلمة يحكمها سياقها اللغوي والتواصلي، لكن الرمز يكاد يفقد هويته التواصلية كضحية لذلك السياق التواصلي. فالتعليق بالإبهام مثلا، يحمل الكثير من المعاني تجعل المتوصل به لا يدري هل المقصود أتفق معك، أو أساندك، أو فقط “أريد أن انهي التواصل معك بسلام” وغير ذلك من المعاني.

صدمت مرة، قبل سنوات مضت، حين بعثت لصديق تهنئة بحلول عيد الفطر، صغت عباراتها المختصرة بعناية، وأجابني بالإبهام! كان ذلك أول ما نبهني إلى ظاهرة تعويض الكلمة بالرموز، وعشت حيرة مريرة لم أفهم حينها معنى ذلك الرد.

كتبت مرة تدوينة في حسابي على فايسبوك تتطلب قراءتها دقيقتين تقريبا، لكن فوجئت أنه في اللحظة التي نشرتها تلقت تعليقا بالإبهام من صديق فايسبوكي من المستحيل أن يكون قد قرأ جملتها الأولى. هذا السلوك فهمته بعد الاطلاع على بعض الأبحاث حول سلوك نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تصبح التعاليق أحيانا مجرد تعاطف مع الشخص لا مع الفكرة.

ويعتبر الإبهام أكثر رموز الإيموجي استعمالا عبر العالم، كما تؤكد بعض الأبحاث والدراسات، لكنه يفقد في سياق الاستعمالات المختلفة هويته الرمزية، فقد تعلن في حسابك على فايسبوك نبأ وفاة أحد أقاربك، فتجد الكثير من التعليقات تكتفي بالإبهام، ولا يتغير شيء من الظاهرة حين تعلن أنك نلت شهاد الدكتوراة، أو أنك تتعرض للتنمر، أو تضع صورة لك على شاطئ البحر، أو تعلن أنك حزين، أو أنك في أسعد لحظاتك، أو تنشر صورة قطتك، …

وهذه الفوضى في المعنى، هو ما يجعل الإيموجي بعيدا عن أن يكون “لغة”.

لو تلقيت رمز قلب مشع من شخص مثلا، فهو يختلف اختلافا جوهريا، من حيث الوضوح على الأقل، عن تلقي كلمة “أحبك”. قد تعطي لرمز القلب نفس هذا المعنى، لكن لن تكون أبدا متأكدا أنه نفس المعنى الذي يقصده الطرف الآخر، خلاف كلمة “أحبك”.

وهنا تبرز قوة الكلمة التي لا يمكن تعويضها أبدا برموز إيموجي.

الكلمة فيها بذل الجهد، في اختيار العبارة، وفي بناء الأسلوب، مما يعطيها قيمة أعلى مما لرموز إيموجي، التي، وإن كان هناك جهد تقني في انتقاء الرمز المناسب، إلا أن قيمته “رخيصة” جدا، إذ لا يعبر عن خصوصية المُرسل بما أن نفس الرمز متاح للجميع، ولم يبذل فيه جهد أكثر من النقر عليه، هو رمز تقني، يتم التعبير عنه بشكل تقني أيضا، وذلك عكس كتابة النص.

القوة في جمالية العبارة، والعمق في المعنى تجعل للكلمة ألوانا مختلفة، في المقابل تضل الرموز التعبيرية تقنية وجامدة، لكنها مع ذلك تكون مفيدة.

هذا على الأقل قد يكون نوعا من العزاء أننا مهما استعملنا الرموز التواصلية، لن نستغني عن الكلمة، فهي عالم واسع من الجمال والمعنى لا يمكن للرموز أبدا أن تعوضه، ما دام التواصل في حاجة إلى عمق وجمال.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *