وجهة نظر

حكومة صاحب الجلالة

إن المتأمل للحياة السياسية في بلدنا ، سيصاب بالدوار من فرط الشطحات الطفولية لأغلب أحزابنا المغربية بحيث أن قادة هذه الهيئات السياسية لا يرسون لهم على بر و لا يثبتون على موقف و لا يستقلون بقرار ، و لقد اتضح ذلك جليا بعد استحقاقات السابع من أكتوبر النيابية أكثر من أي وقت مضى . فباستثناء حزب الأصالة و المعاصرة الذي رمي به قسرا نحو أتون المعارضة رغم أنه أخرج من العدم أو لنقل من شحم الأحزاب التي أرغمت على التحالف معه و عيناه على الحكم و لا شيء آخر غير الحكم ؛ فإن باقي الأحزاب التي احتلت العشر مراتب الأولى في الإستحقاقات البرلمانية الأخيرة كلها تصبو اليوم إلى الحكم و لا تتصور نفسها في المعارضة ، و لا عجب في ذلك ما دامت في أغلبها كائنات تم وضعها على رقعة السياسة لتكون في الصف الأول من رقعة الشطرنج الوطنية و تشغل بذلك الخانات التي تشغلها البيادق .

و كما يعلم لاعبو الشطرنج فإن مهمة البيادق لم تكن أبدا الإستمرار في البقاء و الحفاظ على ديمومتها أو حتى البقاء واقفة عند نهاية اللعبة ، بل قدرها كان دائما قبل بداية اللعبة هو حماية القطع الأهم من شاه و ملكة و فرسان و حصون و خدام و ذلك بالتواجد بدلها مصطفة بنظام و انتظام في خط المواجهة ، أما قدرها بعد انطلاق اللعبة فكان و لا يزال هو المقايضة و التضحية بها من أجل إضعاف الخصم و نصب الفخاخ بواسطتها من أجل الإستيلاء على قطعه و مواقعه ، لذلك فإن المتحكم في اللعبة أو لنقل لاعبها الرئيسي لا يتوانى في التضحية ببيادقه بل و بكل بيادقه و في استعمالها في مناوراته و في اختراقه لصفوف الخصم و دفاعاته قبل أن يقدمها لقمة سائغة لهذا الخصم مقابل إزاحة قطعه الأهم من اللعبة ، و الهدف الأسمى في النهاية هو ألا يموت الشاه و أن يجد الخصم نفسه محاصرا في أحد أركان الرقعة لا يقوى على التقدم او الحراك أو مهزوما بعد القضاء على أغلب قطعه الرئيسية . الذين يمارسون لعبة الشطرنج سيفهمون هذا الكلام جيدا و لن يتجرأ أحد منهم على قول عكس ما قلته بل سوف يرون في المقارنة بين هذه اللعبة و واقع كثير من أحزابنا تطابقا غريبا و تشابكا عجيبا .

الذي نلاحظه منذ شهر هو تماما ما سبق و قلته أعلاه ، فأي تفسير آخر غير ما كتبت ، لهذا التماطل المفضوح لأحزاب ما كان يسمى بأحزاب الوفاق الوطني التي تذكرت فجأة أن مصيرها مرتبط ببعضها البعض ، فأخذت تشترط التواجد مجتمعة داخل الحكومة القادمة في تمسك غريب عجيب ببعضها البعض كما لو أنها لم تتفرق بين أغلبيات الحكومات السابقة و معارضاتها . ألم تكن الحركة الشعبية داخل الحكومة السابقة في حين كان الإتحاد الدستوري و التجمع الوطني للأحرار خارجها في المعارضة ؟ ألم يلتحق الأحرار بالحكومة بعد خروج الإستقلال منها تاركين الحصان الدستوري مربوطا في إسطبل المعارضة ؟ هذا فقط عن الولاية السابقة و لنا في الحكومات السابقة من ” تنقاز ” هذه الأحزاب مجتمعة أو منفردة بين المواقع ما لا يدع مجالا للشك في كونها تتحرك ب ” الريموت كونطرول ” أي بواسطة أجهزة التحكم عن بعد و أن قرارات دخولها أو خروجها من و إلى الحكومات المتعاقبة لم يكن أبدا من تلقاء نفسها و إنما كان يتم دائما عن طريق التعليمات و الإملاءات . فجأة اليوم تذكرت هذه الأحزاب بأن مصيرها مشترك و أن أطلال ما سمي ب ” أحزاب الوفاق الوطني ” قد تحمي رؤوس قادتها اليوم من زوبعة نتائج الإستحقاقات الأخيرة و التي أعطتها فكرة عن حجمها الحقيقي في الساحة السياسية المغربية خصوصا بعد أن تنكر لها المخزن العميق و التفت نحو آخر العنقود ( البام ) يرضعه مما كانت ترضع منه مجتمعة ، و الذي كان يجعل منها أخوات من الرضاعة !!

المنطق يقول أنه كان من المفروض على هذه الأحزاب التي عاقبها الشعب و قزمها رغم استعمالها لكل الوسائل المشروعة و الغير مشروعة من أجل استمالة أصواته ، أن تنكمش على نفسها خجلا و أن تحاول الحفاظ على ما تبقى لها من ماء الوجه إن كانت لقياداتها وجوه ، لا أن تسعى إلى فرض نفسها قسرا على من وضع الشعب ثقته فيه و في أجهزته محاولة بذلك الرجوع من النافذة بعد أن تم طردها من الباب … فعوض أن تنكب هذه الأحزاب التي لا يختلف إثنان حول الظروف المحيطة بنشأتها و التي تجعل منها أحزابا إدارية بامتياز ، على إعادة ترتيب أوراقها و على تقييم فشلها الذريع في الإنتخابات الأخيرة و كذا على إصلاح بيتها الداخلي بهدف العودة بقوة إلى الساحة ، ها هي ذي ترفع هاماتها عاليا و تنصب قاماتها التي أحنتها ممارستها العوجاء للسياسة طوال العقود الأخيرة ، نافخة ريشها في محاولة منها للعب مع الكبار ، هي التي لم تخرج أبدا من مرحلة المراهقة السياسية .

إن ما تقوم به هذه الأحزاب الثلاثة لا يعدو كونه محاولة لربح الوقت و إصرارا على إفشال مهمة تشكيل الحكومة أو إن تعذر ذلك تشكيلها بطريقة مشوهة تضرب في العمق آمال هذا الشعب الذي اختار من يريد أن يدبر شؤونه و اختار في نفس الوقت من لا يريدهم في الحكومة . إن سياسة ” شد ليا نعكل لك ” هاته التي تنهجها هذه الأحزاب لا تشرف النخبة السياسية المغربية بل هي لا تشرف لا الوطن و لا الملك الذي تتبجح كل هذه الأحزاب بالعمل وفق توجيهاته السامية . غدا ستخرج علينا نفس هذه الأحزاب بعد انتهائها من هذه اللعبة القذرة لتقول لنا أنها جزء من حكومة صاحب الجلالة أو أنها مكون من مكونات معارضة صاحب الجلالة و هذا لم يعد مرغوبا فيه البتة لأن في إقحام الملك في التموقع داخل أو خارج الحكومة إقحام له حتى في هذه الحروب القذرة و هذه المناورات المشبوهة بل و إقحام للملك حتى في فشل الحكومة أو فشل المعارضة . فما رأي صاحب الجلالة في مسألة الزج بإسمه و بالمؤسسة الملكية عن قصد في هذه الصراعات التي لم تعد تشرف أحدا ؟ و ما رأيه في هذا الذي يقع هذه الأيام من مناورات لا ترضي حتى المواطن العادي فما بالك بالنخبة العارفة بخبايا الأمور ؟

إن الملك الذي ضرب على أيدي هذه الأحزاب من خلال خطابه الذي ألقاه من داكار عاصمة السينغال و في اختياره إلقاء خطابه من الخارج رسالة أيضا على عدم رضاه عما يجري داخل البلد في هذه المرحلة التي تنذر بالأسوء ، من لعب بمصير هذا الوطن من طرف أحزاب لمح عاهل البلاد لكون مناوراتها إنما هي عملية اقتسام للغنيمة و توزيع للمكاسب و نفخ في عدد المقاعد بالتحالفات الهجينة بغرض الإستقواء على الشخص الوحيد الذي خول له الملك وفق دستور 2011 تشكيل الحكومة و ابتزازه .

إن الملك عندما صرح بأنه سيسهر شخصيا على تشكيل الحكومة القادمة وفق معايير يجمع كثير من المحللين على أنها لا تتوفر في أحزاب الوفاق ، لم يقصد أنه سيتجاوز صلاحياته التي يعطيها له الدستور الجديد و أنه سيتدخل في تفاصيل تكوينها بشكل مباشر و إنما عنى بكلامه أنه سيضغط بكل قوته و حسب المتاح له دستوريا لكي لا تكون الحكومة المقبلة حكومة ” وزيعة ” و إنما حكومة كفاءات قادرة على الإستجابة لمطالب هذا الشعب المغبون في كثير من حقوقه لدرجة أصبح معها ينزل إلى الشارع ليعبر عن مطالبه التي أصبح يعلم أنه وحده الإحتجاج ما سيمكنه من تحقيقها و ليست حكومة مكونة في جزء كبير منها من أحزاب كرطونية لم تتعود على المبادرة و على تحمل مسؤولياتها كاملة و إنما ترعرعت في حضن المخزن تأتمر بأوامره و تنتهي عن نواهيه رغم أنه لا شرعية شعبية له عكس شرعيتها المخدومة هي .

ختاما تنبغي الإشارة إلى أن الملك بتصريحه الأخير قد زج بنفسه في متاهة لا منفذ له منها غير دفعه في اتجاه تشكيل حكومة في مستوى تطلعات شعبه ، حكومة سيتحمل معها قسطا ليس بالهين من المسؤولية المعنوية في حال فشلها و سيجني معها مزيدا من المصداقية و الشعبية و حب الجماهير لشخصه في حال نجاحها ، فالشعب لم يعد يقبل بحكومات و معارضات كانت تلصق مكوناتها بنفسها ” إتيكيت ” ( صاحب الجلالة ) ، و إنما أصبح يطمح في حكومة صاحب جلالة يتحمل مع حكومته قسطا من المسؤولية خاصة في حالة الفشل ، أو فليرفع جلالته يديه الكريمتين عن تشكيل الحكومة القادمة إن لم تكن في نيته القبول بالوقوع هو أيضا تحت طائلة ربط المسؤولية بالمحاسبة ..