وجهة نظر

حقيبة ميسي

بعد فوزه بكأس العالم، استيقظ ميسي وزوجته ذات صباح على شعور خاص بطعم الدموع، السبب كان نصا بث على أمواج إذاعة أرجنتينية، لا تتجاوز مدته تسع دقائق، ألفه الكاتب إيرنان كاسكياري مدير نشر مجلة “أورساي”. الحكاية التيب أبكت ميسي وزوجته كان عنوانها “حقيبة ليونيل”، ولأن مضمونها كان له أثر بليغ على وجدان قائد “لا ألبيسيليستي”، سارع إلى بعث رسالة صوتية من هاتفه الشخصي للصحافي أندري كوسنيتزوف الذي يعد البرنامج رفقة الكاتب إرنان (صاحب الحكايات الإذاعية الأكثر استماعا بالأرجنتين)، يقول فيها: “أريد أن أبعث لكما بهذه الرسالة لأنني هنا، استيقظنا أنا وليونيلا وأنتو، كنا نحتسي “الماتي” (المشروب الأكثر شعبية في الأرجنتين و الأوروغواي والبارغواي) ، بعد ذلك وأنا أتصفح مستجدات “التيك توك”، استمعت إلى ما سرده علينا إرنان، ما كتبه، ما حكاه، كان رائعا للغاية. بكينا نحن الاثنان (هو وزوجته) لأن كل ما قاله كان حقيقة مثل الشمس. لذلك أريد أن أحييكما وأشكركما، لأخبركما أننا أنصتنا إليكما، فتأثرنا وبكينا. أريد أن تعلما ذلك. أبعث لكما بعناق حار، وشكرا مرة أخرى”.

النص الذي سنحاول ترجمته، يسعى من خلاله “إيرنان” ليبين لنا كيف أن أسطورة المستديرة، رغم إقامته الطويلة بإسبانيا، بقي وفيا لوطنه وخصوصياته الثقافية واللغوية، فرغم أن اللغة الإسبانية هي لغة الأرجنتينيين أيضا، فتلك الإختلافات البسيطة في النطق وفي بعض الكلمات، بمثابة بوصلة ثقافية تميز بلاد مارادونا عن الدول الإسبانوفونية، ذلك الخيط الرفيع كان بمثابة حبل الوريد الذي لم ينقطع أبدا بين ليونيل وموطنه رغم البعد، خيط تتبعه كاتب النص وجعله لقبا يمكن لميسي أن يفتخر به كما كل الأرجنتينيين، أكثر من كل الألقاب، بما فيها كأس العالم الذي انتزعه في قطر.

إليكم النص:

في سنة 2003، كانت القناة الكطلانية الثالثة تبث بشكل مباشر كل صباح، مباريات “البارسا”. في دردشات الأرجنتينيين يتكرر سؤالان: كيف نحلي الحليب المكثف عبر غليه، و في أي ساعة سيلعب الفتى ابن روساريو البالغ من العمر 15 سنة، صانع الأهداف في كل المقابلات.

بين سنتي 2003 و 2004، لعب ميسي 37 مباراة سجل فيها 35 هدفا، كانت نسب مشاهدة الفترة الصباحية لهذه القناة الكطلانية تتجاوز، خلال أيام السبت، نسب المشاهدة ليلا. كانوا يتحدثون عن هذا الطفل “aquest nen” (بالكطلانية)، في محلات الحلاقة، في الحانات و في مدرجات ملعب “الكامب نو”.

الوحيد الذي لم يكن يتحدث كان ميسي: في المقابلات الصحافية بعد المباريات، كان يجيب على كل الأسئلة باقتضاب شديد، ب “نعم” أو “لا” أو “شكرا” ثم يطأطئ رأسه. كنا كمهاجرين أرجنتينيين نفضل لو كان ثرثارا، لكن في كلامه كان هناك شيء جميل: يضمر حرف “السين” في كل جملة صاغها، وكان يستعمل كلمة “Ful” عوض “”Falta بمعنى “خطأ”.

اكتشفنا بارتياح، أنه واحد منا، منا نحن الذين لا نضمر حقائبنا الشخصية.

كنا طبقتان من المهاجرين، أولئك الذين كانوا يخفون حقائبهم الشخصية في خزانة الملابس مباشرة بعد وصولهم إلى إسبانيا، يستعملون كلمات وتعابير خاصة بالإسبان “vale” “tío” “hostias”…. و أولئك الذين يكشفون حقائبهم و يفخرون بها، نحافظ على عاداتنا مثل مشروب “el mate”، مع نطق بعض الحروف بشكل مختلف فنقول “شوبيا” عوض “يوبيا” (المطر) و “كاشي” عوض “كايي” (الشارع).

مع مرور الوقت تحول ميسي إلى رقم 10 بالبارسا بدون منازع، فتقاطرت ألقاب “الليغا” و “كؤوس الملك” و “البطولات الأوروبية”. كنا نعرف نحن المهاجرون، مثله، أن أصعب شيء يمكن الحفاظ عليه هو “اللكنة” و”الخصوصية”.

كم كان يكلفنا أن نواصل استعمال كلمة”gambeta” عوض “regate”المستعملة من طرف الإسبان (بمعنى المراوغة)، لكننا في نفس الوقت كنا نعلم أن هذا هو خندقنا الأبدي، وميسي كان بطلنا في هذه المعركة. ذاك الطفل الذي لم يكن يتحدث، كان يبقي لكنتنا و أسلوب حديثنا على قيد الحياة.

لذا، فجأة، لم نعد نستمتع فقط بأفضل لاعب رأيناه في حياتنا، ولكن كنا أيضا نراقبه حتى لا ينسى تعبيرا خاصا بنا في أية مقابلة صحفية.

بالإضافة إلى أهدافه، كنا نحتفل بوجود الترمس و”الماتي” (المتة) في مستودع تغيير الملابس، فجأة صار الرجل الأكثر شهرة في “برشلونة”، لكنه ظل مثلنا، لم يتخلى يوما عن أرجنتينيته.

علمه الأرجنتيني كان حاضرا في احتفالات كل كأس أوروبية. تحدى الجميع وانصرف إلى الألعاب الأولمبية ليتوج بلاده بالميدالية الذهبية دون الحصول على إذن من فريقه. أعياد ميلاده التي يحتفل بها دوما في مسقط رأسه روساريو، ولو كان عليه اللعب في “الكامب نو” في نفس التاريخ. كل ما كان يفعله، كان بمثابة “غمزة” يخاطبنا بها، نحن وكل الذين وصلنا معه إلى برشلونة سنة 2000.

يصعب علينا أن نفسر كم كان يسعدنا نحن الذين كنا نعيش بعيدا عن أهلنا. كان ينتشلنا من ملل مجتمع رتيب. بجميع الأشكال، كان يساعدنا ألا نفقد البوصلة. ميسي كان يغمرنا فرحا بشكل هادئ جدا، بشكل طبيعي، بشكل يشبهنا. حينما بدأت الشتائم تصل من الأرجنتين لم نكن قادرون على فهم ما يجري.

“أيها الجبان، لا يهمك سوى أن تراكم الأموال، ابق هناك. أنت لا تلعب من أجل البذلة. أنت إسباني، لست أرجنتينيا. لماذا لا تعتزل، فكر في ذلك مرة أخرى. مرتزق!”

عشت 15 سنة بعيدا عن الأرجنتين، ولم يحدث لي أن عشت كابوسا أفظع من سماع أصوات الإهانة التي تصل من البلد الذي تحبه أكثر من أي مكان في العالم. ليس هناك ألم لا يمكن تحمله أكثر من أن تسمع الجملة التي سمعها ميسي من إبنه تياگو: “بابا، لماذا يذبحونك في الأرجنتين؟”.

تنحبس أنفاسي وأنا أفكر في هذه الجملة عندما يتوجه بها الإبن إلى أبيه. وكنت متأكدا أن شخصا عاديا ستتملكه الضغينة حتما بسماع ذلك.

لذلك فاستقالة ميسي من الفريق الوطني سنة 2016، كان يخفف عنا نحن المهاجرون. لم نكن نستطيع مشاهدته يتألم هكذا، لأننا نعرف إلى أي حد يحب وطنه، والجهود التي يبذلها حتى لا ينقطع حبل الوريد.

حينما استقال، وكأنه قرر أن يسحب لهنيهة يديه من فوق النار. ليس يديه فقط، نحن أيضا كنا نحترق بهذه الانتقادات.

هنا حدثت، أعتقد، الواقعة الأكثر غرابة في تاريخ الكرة العصرية: عشية استقالة ميسي سنة 2016، حينما تعب من الشتائم والإهانات، بعث له شاب يبلغ من العمر 15 سنة برسالة عبر الفيسبوك تنتهي بالجملة التالية: “حاول أن تفكر في البقاء، لكن أن تبقى من أجل المتعة، هذا ما يحاول هؤلاء الناس أن ينتزعوه منك”. سبع سنوات بعد ذلك، صار إنثو فيرنانديث، كاتب الرسالة، لاعب ميسي المتميز في المونديال.

ميسي عاد إلى الفريق الوطني (هو نفسه قال ذلك)، حتى لا يعتقد هؤلاء الشباب الذين يراسلونه، أن الاستقالة كانت خيارا في الحياة. وحينما عاد، ربح كل ما كان ينقصه، و أغلق أفواه منتقديه. رغم أن البعض يجده مبتذلا لأول مرة، حينما قال في مونديال قطر (متوجها إلى مهاجم هولندا فاوت فيخهورست بعد المواجهة المشحونة بين المنتخبين في ربع النهائي): “إلام تنظر أيها الأحمق؟ اذهب بعيدا”. لكن بالنسبة لنا نحن الذين نراقب لكنته منذ 15 سنة، كانت جملة مثالية، لأنه لم ينطق حرف “السين” في كل كلمة (خصوصية لغوية خاصة بالأرجنتينيين الذين يضمرون بعض الحروف في حديثهم).

يسعدنا أن نتأكد كل مرة أنه مازال هو نفسه الذي ساعدنا لنكون سعداء حينما كنا نعيش بعيدا عن أهلنا.

الآن، وقد عدنا نحن بعض المهاجرين، وبقي آخرون هناك. كلنا نستمتع بمشاهدة ميسي وهو يعود إلى منزله و في “حقيبته المكشوفة” كأس العالم. هذه القصة الملحمية لم تكن ستروى أبدا، لو أخفى ميسي ابن 15 سنة حقيبته الشخصية في خزانته. لو خضع لتعابير خاصة بالإسبان من قبيل ““vale” “hostia tío”… لكنه لم يخطأ أبدا لكنته و لم ينس موطنه في العالم.

لذلك تتمنى الإنسانية جمعاء انتصار ميسي بنفس القوة، وإلا فلا أحد كان سيرى رجلا بسيطا في قمة العالم.
أمس، ككل سنة، عاد ميسي من أوروبا ليحتفل برأس السنة مع عائلته في روساريو، ليلقي التحية على جيرانه. عاداته لا تتغير.

الذي تغير هو ما جلبه لنا في حقيبته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *