وجهة نظر

خطاب دكار: معان وأفكار..

بعد نهاية الخطاب الملكي الموجه للشعب المغربي مساء يوم 6 نونبر 2016، بمناسبة ذكرى مرور 41 سنة على انطلاق المسيرة الخضراء المظفرة، في اتجاه الأقاليم الجنوبية المسترجعة، والذي آثر الملك مجمد السادس أن يلقيه من عمق القارة السمراء، باعتبارها أحد المكونات الأساسية لكيان المغرب وهويته، انبرى له بالدرس والتحليل محللون سياسيون وخبراء، كل من زاويته، عبر مختلف وسائل الإعلام الوطنية والدولية.

وكما هو ديدن بعض “المثقفين” المغاربة وهم قلة على كل حال، ممن يستهويهم العوم ضد التيار، وينظرون إلى كل ما هو رسمي بعين الاستخفاف والريبة، لم تستسغ فئة منهم أن يأتي الخطاب الملكي من العاصمة السنغالية دكار، إذ اعتبرته “بدعة” لا طائل منها.

وأنه في حالة الضرورة القصوى، كان من الأفيد اقتصار الحديث فقط على قضية الصحراء المغربية، وقرار عودة المغرب إلى أسرته المؤسسية الإفريقية، دونما حاجة إلى الخوض في قضايا سياسية داخلية من هناك. متسائلين عن دواعي مخاطبة رئيس الحكومة المكلف بتشكيل الحكومة الجديدة، بتلك الصرامة والنبرة الحادة، وجعله مجرد منفذ للتوجيهات الملكية، في تعارض واضح مع مقتضيات الدستور، في الوقت الذي تم تجاهل حادث الحسيمة المأساوي، الذي لقي خلاله بائع السمك الشاب محسن فكري رحمه الله مصرعه بين فكي شاحنة للنفايات، عندما حاول استرداد بضاعته المصادرة، لاسيما أنه استأثر باهتمام كبريات القنوات الدولية، بعدما أشعل فتيل احتجاجات شعبية قوية بمختلف المدن المغربية، كادت تتحول إلى “فتنة” حقيقية، لولا وعي وتبصر المغاربة المحتجين بشكل سلمي وحضاري.

وفي المقابل أشاد الكثيرون من داخل المغرب وخارجه، بما حمله الخطاب من معان دقيقة وأفكار عميقة، وعكس التحول الاستراتيجي الذي صار المغرب يعتمده في تعامله مع جيرانه بجنوب الصحراء، وهو أسلوب جديد لبث روح متجددة في توطيد علاقاته مع إفريقيا، إلى جانب تلك الزيارات الملكية المكوكية لبلدانها في جميع الجهات، التي تجسد روح التعاون جنوب-جنوب، ويعد المدخل الإفريقي من بين أهم مفاتح حسم مقترح الحكم الذاتي في الصحراء المغربية. ولعل ظهور خريطة إفريقيا رفقة العلم الوطني خلف الملك خلال إلقاء الخطاب، يشي بأن المغرب بات رقما صعبا في المعادلة الإفريقية، ودعامة أساسية في تنمية القارة وضمان أمنها واستقرارها. وفضلا عن الروابط التاريخية والإنسانية العريقة، التي تجمعه وشقيقته السنغال، وما لها من مواقف راسخة في قضيتنا المركزية، حيث تعد في طليعة المنافحين عن وحدتنا الترابية، وتعتبرها إحدى قضاياه الوطنية، فإنها تشكل جسرا هاما نحو عمق القارة.

فالخطاب عموما، جاء منسجما مع مشاعر غالبية المواطنين، ويشير إلى أن المغرب ليس مجبرا على تبرير قرار عودته إلى أحضان أسرته المؤسسية الإفريقية، مادام اختياره يمثل رهانا استراتيجيا، ويعتبر نفسه أحد كبار أبناء إفريقيا البررة، الذين لا يمكن لهم بأي حال التخلي عنها مهما كانت الصعاب، فطوال مدة بعده عنها لم تخرج أبدا من دائرة اهتماماته، ولم تخضع رغبة رجوعه لأدنى حسابات ظرفية. وعليه، فإنه ليس مضطرا إلى طلب الإذن من أي كان في نيل حقه المشروع، طالما أن معظم إخوانه يرحبون بعودته الميمونة دون قيد ولا شرط، ويتعاملون مع قراره الحكيم بجدية ومسؤولية، اعتبارا للدور الطلائعي الذي يمكن أن يلعبه في تعزيز وحدة إفريقيا، وإسماع صوتها في المحافل الدولية والنهوض بمصالح شعوبها على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والبيئية، واستتباب الأمن والاستقرار…

أما فيما يرتبط بقضية “شهيد الحكرة” محسن فكري، فلا نعتقد أن هناك داعيا لإثارتها مجددا من خارج البلاد، بعد أن سبق للملك إرسال وزير الداخلية محمد حصاد، لتقديم واجب العزاء لعائلة الفقيد، وتوعد السلطات بتعميق البحث في الكشف عن ملابسات الجريمة، حتى ينال الجناة ما يستحقونه من عقاب. وبخصوص ما تضمنته رسالة تشكيل الحكومة من انتقادات وغلظة، نرى أن من واجب أعلى سلطة بالبلاد، في ظل التهافت القائم على محاولة اقتسام كعكة الحكومة، التدخل بشدة للتنبيه إلى أن المغرب لم يعد يتحمل المزيد من العبث، وأن الضرورة باتت ملحة إلى حكومة جادة ومسؤولة، ذات هيكلة فعالة ومنسجمة، ببرنامج واضح وأولويات محددة للقضايا الداخلية والخارجية، وعلى رأسها القارة الإفريقية. حكومة لا يحكمها منطق الحسابات بغية إرضاء رغبات الأحزاب السياسية، بقدرما يلزمها تصريف كل جهودها لرفع التحديات التي تواجه البلاد، والعمل على تلبية انتظارات الجماهير الشعبية، خصوصا وأننا نمر بمرحلة حاسمة. فهلا استوعبتم الدروس والعبر من خطاب دكار؟