حوارات، مجتمع

“خمسة أسئلة”.. هل تعزى أزمة السوسيولوجيا بالمغرب لغياب باحثين ونخبة “محترمة”؟

يفتقد متتبعون للساحة المعرفية المغربية لخطاب سوسيولوجي رصين يرتقي لمستوى تطلعاتهم، خطاب يُؤمل منه التطرق بالنقد والتحليل لقضايا المجتمع المغربي، بعيدا عن خطابات تحلل ما يروج بـ”السوقية والشعبوية” أو بـ”التلميع”، يرتدي بعض وجوهها جبة “المثقف العضوي” ويدعون ملاصقتهم هموم وحاجات المجتمع.

كما يطغى على حقل اشتغال كثير من الباحثين في السوسيولوجيا مواضيع ترتبط بمفهوم التنمية في ارتباطها بمجالات الحياة الاجتماعية، “استجابة” منهم للسياق العام أو “رضوخا” لها، دون أن تنال مواضيع كالسلطة والثقافة والاقتصاد والقيم والمؤسسات وغيرها، نصيبها الكافي كميادين يتناولها هذا العلم “المزعج”، الأمر الذي انعكس سلبا على قيامه بأدواره في علاج “أمراض” المجتمع المتعددة.

وللحديث عن هذا القضايا، ونقاط أخرى ذات الصلة، تستضيف جريدة “العمق”، أستاذ علم الاجتماع بالرباط ورئيس منتدى السوسيولوجيين والأنثروبولوجيين المغاربة، جمال فزة، في فقرة “خمسة أسئلة”.

بداية، ألا ترى أن السوسيولوجيا اليوم تعيش أزمة على المستوى المعرفي والمنهجي، ويبقى تحصيلها في الجامعات مبني على بيداغوجية تدرّس تاريخ هذا العلم دون أن تنفتح على محيطها وحاضرها؟ 

ليس في وسع أي باحث محترم أن يخفي ما تعرفه السوسيولوجيا عالميا من أزمة معرفية وإبستيمولوجية؛ بحيث لن تُفلح في التجول بين الكتب، في أي مكتبة في أرجاء العالم تحظى بنصيبها من المؤلفات في العلوم الاجتماعية، دون أن يقع نظرك على كتاب في إبستيمولوجيا السوسيولوجيا أو في ميتودولوجيا العلوم الاجتماعية، يدعو صاحبُه إلى مراجعة للمنهج، أو تَفَكُّرٍ في الأسس، أو تغيير للمنوال le paradigme.

وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على عمق الأزمة التي تعيشها السوسيولوجيا، والتي تتجاوز مسألة التطبيق، أو دقة أدوات القياس، أو خصوصية بعض ميادين التدخل، لتطال معايير العلمية les critères de la scientificité؛ لاسيما وأن الموضوعية كما طرحها الاتجاه الوضعي في السوسيولوجيا باتت تحد من الخيال السوسيولوجي أكثر مما تشحذه وتحفزه، وتضيق نطاق التأويل أكثر مما تثريه وتوسعه.

غير أن المشكلة التي تعاني منها السوسيولوجيا في المغرب مشكلة مركبة؛ فبينما تشهد السوسيولوجيا عالميا أزمة إبستيمولوجية ومعرفية تفرض على الجميع أن يتحلى بحس نقدي إبستيمولوجي، اختار كثير من الباحثين المغاربة الهروب إلى الأمام واعتبار كل خوض في المبادئ والمناهج والأسس مجرد تفلسف ونزوع نحو النظرية والتجريد يبعدنا أكثر عن الميدان، الذي يعد برأيهم الحل السحري لكل ما تتخبط فيه السوسيولوجيا من مشاكل.

لقد وقفت شخصيا على هذا الرأي ووسمته بـ”الواقعية الساذجة” le réalisme naïf معتبرا إياها الداء الرئيس الذي تعاني منه السوسيولوجيا في المغرب. وإذن، فالمشكلة برأيي لا تكمن في انكفاء السوسيولوجيا على ذاتها والانهمام بتاريخها، في مقابل الانصراف عن الاهتمام بمحيطها والفرص التي يوفرها هذا المحيط، بل في عجز السوسيولوجيين عن التأليف بين إصلاح المجتمع والارتقاء بالعلم.

يلاحظ إغراق الدراسات والأبحاث السوسيولوجية، في مواضيع ترتبط بحقل التنمية وإغفال حقول معرفية أخرى، منها السلطة والسياسة والاقتصاد والثقافة وغيرها من مواضيع الحياة الاجتماعية، في رأيك، هل هذا الوضع صحّي؟ وما هي مسبباته؟ 

أعتقد أن التمييز بين التنمية والتغيير على أساس أنهما مفهومان متقابلان، ووضع كل ما يتعلق بالسلطة والسياسة والثقافة في خانة التغيير دون التنمية، مسألة تتجاوز الاعتبارات العلمية لتجد دلالاتها في الحقلين الإيديولوجي والسياسي. ففي زمن الحرب الباردة وصراع المعسكرين الغربي والشرقي، كان يبدو بديهيا أن يستأثر الباحثون الاشتراكيون بمواضيع تهم السلطة والتغيير السياسي والثقافة، بينما يهتم الليبراليون بقضايا التحديث والتنمية.

على ما يبدو لي، فإن طرح السؤال على هذا المنوال ينطوي على بقايا مرحلة منصرمة وإرث قديم. أما اليوم فلا وجود لباحثين محترمين يفصلون التنمية عن مفهوم السلطة والدولة. وفي المغرب، ومن موقع أعلى سلطة في البلاد، كانت شعارات من قبيل “مفهوم جديد للسلطة” و”دور جديد للدولة” تسير جنبا إلى جنب مع شعارات التنمية البشرية والتنمية المستديمة.

يبدو لي أن الوضع قد تغير، وإذا كان هناك من خطر يحدق بالسوسيولوجيا اليوم، فليس هو الارتماء في أحضان الليبرالية أو القبوع في خندق الاشتراكية، بل الكف عن النقد والتحليل، وتحويل السوسيولوجيا إلى ما يشبه عملا اجتماعيا خالٍ من أي حس تنظيري استشرافي. ولعل عددا كبيرا من الأبحاث التي تُنجز تحت الطلب في إطار ما يسمى بـ”الخبرة السوسيولوجية” تفتقد للحسين النقدي والتنظيري، وتقع في ما يمكن أن نطلق عليه “الباطولوجيا الاجتماعية”؛ والتي يتحول بمقتضاها السوسيولوجيون إلى ما يشبه ممرضين اجتماعيين.

هل يساهم التكوين الذي يتلقاه طلبة الجامعات في تحقيق تراكمات معرفية من شأنها بناء الوعي لدى المجتمع بقضايا حقيقة، وتطوير العمل المؤسساتي بعد ولوجهم سوق الشغل؟ 

عادة ما نقع ضحية للتعميم والمماثلة عندما نتحدث عن فائدة التكوينات التي يستأثر بها الطلبة داخل الجامعات المغربية؛ بحيث نُخْضِعُ تقييم فوائد التكوين الذي توفره كليات الآداب ومعاهد الفنون لنفس معايير التقييم الخاصة بالعلوم “الدقيقة” والمعاهد التكنولوجية؛ فنقع، والحال هاته، في خطأ تقدير وتثمين كل ما هو مادي، نافع ومباشر، وفي المقابل تبخيس التكوينات الاستراتيجية التي لا يظهر أثرها على المدى القريب، وأخص بالذكر التكوينات التي توفرها كليات الآداب، والتي تهم البعد الحضاري العام للأمة، وثقافتها وجوانبها الأخلاقية والجمالية العامة.

في هذا الباب، أعتبر أن الأدوار التي تضطلع بها كليات الآداب والعلوم الإنسانية من أجل تهذيب الذوق العام للمغاربة، وتمتيعهم بالحس المؤسسي، وبآداب المعاملات وأخلاقيات المناقشة لا يمكن الاستغناء عنها بأي حال، بل يجب تطويرها والسعي إلى تعميمها، ليس على المستوى الوطني فحسب بل على المستوى الإقليمي والقاري. ولعل تأسيس منتدى السوسيولوجيين والأنثروبولوجيين المغاربة سيكون له دور مهم في هذا المجال؛ حيث سيعمل على تشبيك علاقاته جهويا وقاريا، وتركيز الاهتمام على التراث باعتباره خزانا للمؤهلات التنموية مادية كانت أو رمزية.

أكيد أن الصورة ليست وردية، وأن عددا من المثبطات تحول دون تأدية كليات الآداب لأدوارها المذكورة، وتجعل من التراكم المعرفي مسألة صعبة المنال؛ لكن لا ينبغي لهذا الأمر أن يثبط الهمم، بل يجب أن يحثنا على مزيد من تكثيف الجهود، وإبداع طرق جديدة للعمل؛ بحيث يتعين على كليات الآداب ألا تقتصر على إعادة إنتاج أطرها سواء التعليمية أو الإدارية، وأن توجه “منتوجها” صوب عالم شغل أوسع؛ إذ إن الحاجة المجتمعية للفلسفة والعلوم الاجتماعية والإنسانية وتحديث الخطاب الديني وإصلاحه واكتساب لغات أجنبية تساعد على الاندماج والتواصل العالمي مسألة حيوية بالنسبة لبلد لديه طموحاته المشروعة في التنمية والازدهار.  

يعاب على النخبة المثقفة استقالتها من المجتمع، وعدم تفاعلها مع قضايا الحياة الاجتماعية، هل هذا الأمر راجع لقناعاتها الشخصية أم أنه تم تغيبها قصدا؟

لا أظن أن التاريخ عموما كان منصفا حيال النخب “الحقيقية” التي يكون همها الأول والأخير خدمة العلم والمعرفة بشكل موضوعي بعيدا عن المصلحة الشخصية أو الشعارات الديماغوجية العامة؛ فلعل هذا الأمر شكل القاعدة العامة وما دونه استثناءات ليس إلا.

فوجود السلطة إلى جانب المعرفة وتقاطعهما في غالب الأحيان يقود إلى تشويه الحقائق، وتزييف الإرادات. أنا لا أتحدث عن استقالة النخب وإنما عن استمالة النخب وعدم تركها تقوم بدورها النقدي الذي يعود بالنفع لا على المجتمع فحسب، بل على الدولة كذلك؛ فعندما تغيب نخبة تضطلع بتحليل ونقد يحظيان بمصداقية، يقفل المجتمع على عنف مفتوح.

كيف جاءتكم فكرة تأسيس منتدى السوسيولوجيين والأنثروبولوجيين المغاربة؟ وما هي غايته والإضافة التي سيقدمها للممارسة السوسيولوجية والأنثروبولوجية بالمغرب؟

تأسيس تنظيم يضم السوسيولوجيين والأنثروبولوجيين المغاربة فكرة قديمة تصعد في صيغتها الحديثة على الأقل، إلى ما يربو على العقد من الزمن. لاسيما وأن نشاط الجمعية المغربية لعلم الاجتماع كان حينها متوقفا لسنوات بسبب اختلاف في التصور أحيانا، أو التمثيلية أحيانا أخرى، وفي مناسبات أخرى كانت تصعد إلى واجهة الأحداث اختلافات شخصية تتسبب في خلق جو من التذمر وفقد الحافزية. 

لكن بالرغم من كل هذه الظروف انبرى عدد من السوسيولوجيين المغاربة ـ وكنت أنا واحدا منهم ـ إلى إعادة الروح للجمعية وتجديد مكتبها المسير، بالرغم من أن المبادرة كانت على نطاق محدود؛ حيث لم يكن في وسعنا آنئذ خلق ذلك الالتفاف المأمول من قبل أغلبية السوسيولوجيين على الجمعية بوصفها إطارا ممثلا لجميع السوسيولوجيين المغاربة؛ هكذا ظل عدد مهم من الجامعيين المغاربة خارج المبادرة وظلت أنشطة الجمعية، على أهميتها وقيمتها الرفيعة، محدودة التأثير والانتشار. 

لقد دفعني عزوف قطاع واسع من السوسيولوجيين المغاربة على المشاركة في أنشطة الجمعية إلى التفكير في إمكانية تأسيس تنظيمات أخرى موازية للجمعية وتعمل على تحقيق نفس الأهداف لكن بسواعد مختلفة. في خضم هذا التفكير جاءت مبادرة تأسيس الشبكة الوطنية للسوسيولوجيا بالمغرب، والتي كنت مرة أخرى من الأعضاء الأُوَلِ الذين أطلقوا هذه المبادرة، والتي لم يشهد تأسيسها القانوني النور إلى يومنا هذا. 

وتجدر الإشارة إلى أن الشبكة باشرت نشاطها، بالرغم من عدم استيفائها للشروط القانونية، معتمدة في ذلك على الشُّعَب داخل الكليات مما جعلها تصطدم بعقبات كثيرة نظرا للمشاكل التي تتخبط فيها شعب السوسيولوجيا داخل معظم الكليات؛ والنتيجة النهائية أَنْ صَدَّرَتِ الشُّعَبُ مشاكلَها الهيكلية والشخصية للشبكة الفتية، فكادت في كل مرة تعصف بالأيام الوطنية التي تنظمها الشبكة، إلى أن وصل قطار الأيام الوطنية إلى محطة أكادير التي شهد فيها اليوم الوطني للسوسيولوجيا ارتباكا كبيرا.

في هذا السياق جاءت فكرة تأسيس منتدى للسوسيولوجيين والأنثروبولوجيين المغاربة FSAM توخيا للاستدراك وتلافي المثبطات، سواء المتعلقة منها بثقل التاريخ أو طبيعة الجغرافيا.

هذا على مستوى الحركة الداخلية لتطور الممارسة السوسيولوجية بالمغرب، أما فيما يخص المعطيات الخارجية التي يمكن أن تستثير الهمم وتدعو إلى التفكير في تأسيس تنظيم جديد للسوسيولوجيين والأنثروبولوجيين المغاربة، فيمكن أن نقف على مجمل التحولات التي يشهدها المجتمع المغربي على جميع الأصعدة، سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي، والتي تتطلب مواكبة علمية، ربما لن يختلف اثنان على أن السوسيولوجيين هم الأجدر بها.

ولا يمكن أن نمر مرور الكرام على المشروع التنموي الجديد والواعد الذي أطلقه المغرب، والذي يتطلب انخراط المواطنين المغاربة، كل من موقعه، نقدا وتصويبا وتثمينا، حتى نسهم جميعا بحس وطني ومواطناتي، واعتمادا على أدوات علمية تحظى بمصداقية، في تنمية المغرب وازدهاره. ويشهد المغرب، في نظرنا، أوراشا ثقافية كبرى نذكر منها الإصلاحات التي تهم أوضاع النساء وإعادة هيكلة الحقل الديني، التي يمكن اعتبارها بمثابة ثورات هادئة يتعين على السوسيولوجيين إلقاء الضوء عليها والتعريف بأهميتها التاريخية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *