
تكاد الصورة الإشهارية تحيط بكل نواحِ حياتنا، ومعرّضين لاستقبالها بوعي أو بدونه في كل التفاصيل من حولنا، بداية من التلفاز، ومرورا بالهواتف الذكية، ولوحات الإشهار في الشارع، والمجلات والجرائد، وصولا إلى الملصقات بالمحلات التجارية والخدماتية على اختلاف أحجامها وأنواعها.
هذا التعرض تتحكم فيه “أساسا” غايات اقتصادية، تسعى لترغيب المتلقي في منتوج ما، وخلق الحاجة له من أجل الاستهلاك. ويفرض هذا الوضع، تنشئة واعية تروم خلق وعي مجتمعي من أجل دفع حالة التعرض السلبي لدى المتلقي.
وتوظف الإشهارات والإعلانات، في وقت سابق، صورة المرأة أكثر من الرجل، تحقيقا لأهداف “اقتصادية وإيديولوجية”، وسط نقاشات حادة تسعى لتجاوز “تشييء المرأة وتسليعها”. إلا أن الصورة اليوم، تهتم بالرجل أيضا، وفق ما فرضته متغيرات جديدة عرفها العالم.
ولفهم الآليات التي يعتمد عليها الإشهار، بُغية الوصول لتدابير فردية وجماعية لحماية المواطنين من التأثيرات السلبية للصورة الإشهارية، تستضيف جريدة “العمق” الأستاذ المتخصص في التواصل والدراسات الإعلامية، حسن بوحبة، وهو أستاذ زائر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الأول بوجدة، ضمن فقرة “خمسة أسئلة”.
بداية، كيف تجد استعمال صورة المرأة في الإشهار بالمغرب، بنوعيه الخاص والعمومي؟
في الحقيقة، لا نتوفر بما فيه الكفاية على دراسات أكاديمية أو إحصائية تُصور حقيقة توظيف المرأة في الإشهار بالمغرب، وتبين مستويات الاستعمال، باستثناء بعض البحوث القليلة والتي للأسف بقيت مرهونة داخل أسوار الجامعة. وكما أني لا أرى أي تميز لإشهار عمومي على آخر خصوصي، لأننا لا زلنا في المستويات الأولى من تصور وإعداد الإشهار فنيا وقيميا، وما زلنا كذلك بعيدين جدا عن الحديث عن إشهار خاص وإشهار عام لا على مستوى قناة التمرير أو على مستوى المعد له (هل مؤسسة عمومية أو شركة خاصة).
وكما أن الرقابة التي تمارسها الهيئات المعنية تحد من الانفلاتات الموجودة في المجتمعات الغربية مثلا. وبحكم اشتغالي العلمي على فلسفة وتاريخ الصورة من الناحية السيميولوجية أساسا، أرى أن هذا الاستعمال يتم وفق منحيين اثنين على الأقل. أولهما: يتم الارتهان لجسد محلي يصور المرأة المغربية التقليدية لتقديم منتجات محلية مرتبطة بالتعب اليومي للمرأة المغربية مثل مواد التنظيف أو لوازم المطبخ سواء كانت أواني أو مواد غذائية …، وهنا تصور المرأة داخل فضاء تقليدي شعبي سواء من ناحية مكان التصوير (المدينة القديمة) أو من شكل اللباس (الجلباب، القفطان،..) أو اللغة الموظفة (الدارجة المغربية).
وثانيهما: يصور تلك المرأة المعبرة عن جسد مستورد (وافد)، فهي ذات قوام خاص تبعا لقياسات الموضة الغربية. وكما أن هذه المرأة مصنفة خارج بنية التصور الشعبي المغربي، إلا ما كان في إطار الأجنبي أو المشتهى. فهي ليست لا أُما ولا أُختا ولا زوجة ولا قريبة ما، إنها جسد آخر يملأ حياة الرجل بالمتعة واللذة، والطاغي هنا هو تمرير رسائل قيمية ورمزية وتسويق نمط حياة أكثر من تسويق منتج ما، والذي في الغالب يكون على شكل منتجات تكميلية مثل الساعات أو العطور أو النظارات الشمسية أو الفوط الصحية أو غيرها.
لماذا يعتمد الإشهار بكثرة على صور المرأة عكس الرجل؟
تقليديا وتاريخيا، تم استعمال جسد المرأة بقوة في الإعلانات والإشهار، على عكس الرجل الذي دخل في العقود الأخيرة على خط الاستعمال بسبب الترويج الهيستيري للمثلية الجنسية بالأساس. وبنفس مستوى النظر يمكننا مقاربة توظيف الإنسان على مستوى لون البشرة (الجنس الأبيض والجنس الأسود) أو الانتماء الجغرافي والثقافي (ثنائية المركز والهامش)، أو المستوى العمري (الطفل والراشد)، فأصبح الإشهار مقتنعا بكل مستويات الاستعمال بما يحقق له مكاسب اقتصادية أو إيديولوجية عن طريق الإيحاء على حد التوظيف البارثي (نسبة إلى الناقد المعروف رولان بارث) للمصطلح.
فالمرأة في المتخيل الجمعي هي موطن الرغبات الإيروسية والاشتهاء والخصوبة، وقد وطن الإنسان هذا الاعتقاد في المعبودات الأنثوية، وكانت الصورة/ المرأة حاضرة في مختلف الميادين دينية كانت (الكنائس والمعابد) أو فنية (المتاحف ومعارض الصور) أو في الفضاءات العمومية الأخرى (الساحات العامة).
إذن فهذا الاستعمال المفرط يرتبط بما تم تنظيمه على مستوى التمثل الذي يربط بين اللذة المحققة عبر المرأة، واللذة التي يحققها استهلاك المنتج (علاقات تعدية وتبادل). وكما أن المعطى الثاني يرتيط بهشاشة وضعية المرأة في المجتمعات إلى درجة مساواتها بالسلع والمنتجات، وللأسف فما زالت بعض المجتمعات المسلمة تنظر إلى المرأة في حدود الاستعمال الأداتي وفق التصور الفلسفي للمفهوم، سواء في الأشغال المنزلية أو لإشباع الرغبات الجنسية دون فهم لمقاصد الزواج أو لمكانة المرأة الاعتبارية في المجتمع.
انطلاقا من كون الهدف من الإشهار هو تحبيب وترغيب الجمهور في منتوج ما، ما هي الآليات التي يعتمد عليها الإشهار من أجل إثارة الرغبة والحاجة له؟
كما سبقت الإشارة، لا يمكن دوما الجزم بنية الإشهار، هل فعلا يريد تسويق المنتج دائما، أو له نوايا أخرى. عموما فالإشهار هو قناة وسائطية médiatique على حد وصف الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبري، وغايتها إيصال رسائل معينة للمستهلك. والإشهار قديم سواء تم بشكل شفهي على طريقة “البراح” المعروفة في المجتمع المغربي، والتي لها نظائر في المجتمعات الأخرى، أو في مستويات توظيف الصورة كما هو مشهور حاليا.
من الطبيعي أن يستفيد الإشهار من التطور العلمي الذي عرفته البشرية، وأن يستغل الأبحاث الخاصة بعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم السلوك والعلوم العصبية، وكما يوظف العوالم الأنتروبولوجية المتاحة من ثقافة وسلوك الجمهور المستهدف. فالإشهار يستفيد من هذه الممكنات، وكما أن التطور التقني في العلوم البصرية والتشكيلية وتقنيات الإخراج والمونتاج وغيرها، أكسبه القدرة على ممارسة طقوس التسويق وفق قوالب مدروسة تسند بالأساس إلى خلق الرغبة والحاجة، من خلال “خلق” مسوغات لاستعمال المنتجات.
فالشركات التي تدعم الإشهار وتتبادل معه المنافع تبحث دون كلل عن وسائل ومنتجات جديدة عبر استبدال المعهود منها بأخرى، سواء لأنها تقتصد الجهد أو الطاقة أو غيرها، أو أنها تبقي على نوع من الحميمية والاستعمال الخاص لها (الانتقال من التلفاز إلى الهاتف الخلوي/ هو انتقال من الاستعمال الجماعي إلى الاستعمال الفردي، فعوض شراء تلفاز واحد لكامل الأسرة يتم شراء أجهزة بعدد أفراد الأسرة، وهذا طبعا دون استحضار المزايا أو سلبيات التوظيف). ومن الآليات المهمة التي يرتكز عليها الإشهار ما نمسيه إعلاميا بتقنية المطرقة الإشهارية Le matraquage publicitaire، والتي تعتمد على التكرار المستمر للرسالة الإشهارية على مستوى الكم والكيف.
هل تحترم الصورة الإشهارية هوية المغاربة، وتجعلها منطلقا للتأثير، أم أنها تعتمد على أي أسلوب يلبي غرضها في التسويق والاستهلاك؟
يجب أن نتفق بداية على أن الصورة ليست بريئة حتى يثبت العكس، على عكس ما نعامل به المتهم في القانون. فغاية الصورة الإشهارية كتشكل خاص للصورة هو خدمتها أجندتها أولا، وما قد تصيب فيه، أو تقع في محظورات معينة، يبقى للتحليل والنقد والنقاش.
فالغاية التي يصبو إليها الإشهار قد يجعل من الغير وسائل (هوية المجتمع، المعتقدات الدينية، الاختيارات السياسية، الأعراف الثقافية، المحرمات الاجتماعية…) فكل هذه المكونات قد يتم القفز عليها، أو تشويهها، باعتبار أن خلق الحاجة لدى المستهلك يفرض النبش في هذه الكتل المشكلة للبعد الثقافي الهوياتي.
وكما أسلفنا الحديث، فالصورة تستهلك الزمن وتخرق الفضاءات لتستثمر في كل ما تراه مناسبا لتمرير رسائلها. فهوس التأثير والتنبيه المستمر لمستشعرات الاستقبال لدى المتلقي قصد قلب نمط التفكير من العقلاني إلى الانفعالي يؤسس لهذه الخطورة التي يشتغل بها الإشهار والصورة عموما، ولكن لا بد أن نطمئن إلى أن هذا التأثير هو في حدود تغيير المواقف والاتجاهات، وليس تغيير الالتزامات الأخلاقية والدينية مثلا، إلا أن الخطورة هي ذلك الوقوع المستمر تحت هذا الإدمان، مما يؤدي على المدى المتوسط والبعيد إلى خلخلة بنى المجتمع التقليدية، وظهور تأثيرات الإشهار على مستوى البنيات المجتمعية والهوياتية (قد يكون التحول في شق منه إيجابيا، فلا يمكن شيطنة كل أنواع التأثير).
في نظرك، بأي طريقة يمكن حماية المواطنين من التأثيرات السلبية للصورة الإشهارية؟
إن هذه الحماية المطلوبة يمكن تبويبها على ثلاثة مداخل، بدهيا، تعد الحماية الأخلاقية المستندة لقيم المجتمع ولمبادئ العيش المشترك فاعلة في هذه الحماية والوقاية، ولن يتم ذلك إلا إذا اشتغلت الشركات بمنطق نسق المواطنة عبر تمثلها لمفهوم المقاولة المواطنة وليس بمنطق الشركة أو المقاولة كما هي معروفة في الثقافة الرأسمالية، أي تلك التي تستبيح كل شيء. وتعد الجمعيات النشيطة في المجتمع المدني الحلقة الأقوى في التنشئة على الثقافة الحقوقية والمدنية الكفيلة بتوعية المستهليكن، ورصد المخالفات ومتابعتها إن اقتضى الأمر ذلك إعلاميا كان أو قضائيا.
ومن جهة ثانية باعتبارها مكملة للأولى، فنتحدث عن الحماية العلمية التي نستشعرها داخل المجتمعات العلمية سواء كانت مراكز أبحاث أو مختبرات دراسات بالمعاهد والجامعات، والتي تحلل وتحاول فهم السلوك الإشهاري مع محاولة نقده والرد عليه، بما يخلق نوعا من التوازن داخل النسق المجتمعي (أخلاقيا وعلميا).
وثالثا، لا ننسى أن المشرع المغربي لم يغفل هذه النقطة المهمة، على أساس أن الإشهار يخضع في مقتضياته لمنطق الحق والواجب، فهناك قانون بمثابة ظهير شريف قاضي بتحديد تدابير لحماية المستهلك، وكذا نستحضر مسؤولية الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري (الهاكا) التي يكفل لها القانون تقنين وضبط مجال الاتصال السمعي البصري. وكما يمكننا الحديث عن وظيفة مجلس المنافسة بكونه سلطة تقريرية ومستقلة من خلال تحليل وضبط وضعية المنافسة في الأسواق، ومراقبة الممارسات المنافية لها والممارسات التجارية غير المشروعة وعمليات التركيز الاقتصادي والاحتكار. كما يمكننا الاستناد إلى القانون المنظم للمكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية (onssa)، والقاضي أساسا بتطبيق سياسة الحكومة في مجال السلامة الصحية للنباتات والحيوانات والمنتجات الغذائية بدءا من المواد الأولية وصولا إلى المستهلك النهائي.
وعلى أي، فلا تعوزنا الترسانة التشريعية، ولكن تبقى إشكالية التطبيق والتنزيل قائمة رغم المجهودات المسجلة بين الفينة والأخرى من داخل هذه المؤسسات.
اترك تعليقاً