حوارات، مجتمع

“خمسة أسئلة”.. كيف أحمي أطفالي من الاعتداءات الجنسية وما هي أدوار الأسرة بعد الصدمة؟

تطل علينا بين الفنية والأخرى حالات اغتصاب واعتداء جنسي يروح ضحيتها أطفال صغار، كان آخرها حالة “طفلة تيفلت” ذات الـ12 ربيعا، التي تعرضت لاغتصاب متكرر نتج عنه حمل، من طرف ثلاثة أشخاص كبار، يقطنون بجوار الضحية.

مثل هذه الوقائع تثير وتفاقم تخوفات الوالدين على فلذات أكبادهم لحمايتهم من حيل ومكر وتلاعبات المغتصبين الذين يستغلون براءة الطفولة وعدم درايتها بخطورة الأفعال المراد ممارستها لتحقيق رغبة جنسية بيدوفيلية.

لوضع هذا الموضوع على مشرحة العلم، قصد فهم دوافعه، والوعي بخطورته، ومعرفة آليات الوقاية منه وحماية الأطفال وكيفية دفعه وتجاوز الاضطرابات التي يخلّفها على الطفل والأسرة والمحيط، تستضيف جريدة “العمق”، الطبيب النفساني، محمد السعيد الكرعاني، ضمن فقرة “خمسة أسئلة”.

دكتور الكرعاني، بداية، في أي إطار يمكن تصنيف البيدوفيليا؟ وهل من علامات تدلنا على الشخص البيدوفيلي حتى نحمي الأطفال من اعتداءاته؟

من الناحية النفسية تصنف البيدوفيليا ضمن اضطرابات الميول الجنسي، بحيث يكون الميول المتجه نحو الأطفال ونحو الفئات العمرية القريبة من سن المراهقة. هذا الاضطراب يكتسب خطورته من جهة كون الضحية هم فئة عمرية في الأصل هي في حاجة ماسة إلى الحماية، فإذا بها تكون عرضة لاعتداء جنسي بهذه القوة. ثم يكتسي أيضا خطورته من جهة ثانية في انعدام علامات حاسمة نستطيع من خلالها تمييز الشخص البيدوفيلي.

الوقائع المسجلة عبر دراسات كثيرة تقول بأن البيدوفيل يمكن أن يتواجد في أي مكان، وفي حالات متكررة قد يكون ضمن الإطار العائلي، وضمن الإطار القريب من الطفل؛ الجيران، أو أصدقاء العائلة، وفي الفضاءات التي يتحرك فيها الطفل بصفة عامة.

وبالتالي فنحن في موضوع لا ندعي فيه السهولة، ولابد أن نقر من البداية بصعوبة هذا الموضوع، وأن الوعي والمعرفة العلمية واليقظة المجتمعية والفهم، من أحسن المداخل لتحقيق الوقاية في هذا الباب.

كيف أحمي إبني/ إبنتي من البيدوفيلي وأجعله يحترس من الوقوع في تلاعُباته وحيّله؟

هذا سؤال في غاية الأهمية، لأنه يحيلنا على موضوع الوقاية. وهذه الوقاية تبدأ من سن صغيرة، بحيث يفهم الطفل أن جسده له قدسية ولا يمكن لأي شخص أن يتكلف له بنظافته الشخصية باستثناء الأم أو من ينوب عنها من المقربين، وأن هناك أماكن معينة من الجسد يعتبر لمسها لمسة غير صحيّة. وبدأ من سن الروض نستطيع أن نشرح للطفل من خلال ورشات صغيرة وبسيطة أصبحت اليوم في متناول الجميع، الفرق بين اللمسة الصحية واللمسة غير الصحية.

فأن تُنظم المعلمة الأطفال مثنى مثنى أمام حجرة الدرس وهي تربت على ظهورهم، ليست هي لمسة شخص ما، كائنا ما كان، في مناطق معينة من الجسم، المفروض أنها أماكن لا تلمس إلا من طرف الأم أثناء تنظيف الأماكن الحميمة، أو الأقرباء الذين غالبا ما تكون الجدة أو الخالة أو العمة أو شيء من هذا القبيل، في إطار واضح عند الطفل، ليفهم الطفل أن جسده ليس أرضا مستباحة وإنما له قدسية وأهمية.

ثم مع التقدم في السن، في مرحلة نشعرُ فيها بأن الطفل أصبح من الناحية اللغوية والعقلية قادر على الحوار واستيعاب مثل هذه المواضيع، تبدأ إجراءات وقائية إضافية، عن طريق إفهامه أن بعض التصرفات التي قد يقوم بها الآخرون فيها خطر وضرر وينبغي رفضها وعدم القبول بها والفرار مباشرة إذا ظهرت من طرف شخص معين.

ويمكن الاعتماد في هذا الإطار على القصة والحكاية المصحوبة برسوم توضيحية، حتى نُفهم الطفل أن هناك أشخاص يمارسون سلوكات غير سليمة ضد الأطفال مرتبطة بانتهاك قدسية الجسد، من خلال الإغراء أو التهديد، إما مباشرة أو أو عن طريق الرسائل الإلكترونية. فيبدأ الطفل في استيعاب أن هناك ممارسات يمتلك إزاءها وسائل المقاومة، وهذا يشعره بأن والديه محل ثقة، ويستطيع أن يخبرهم بكل شيئ، ويعي بأن لا وجود لمواضيع غير قابلة للنقاش مع الوالدين، وأن لديه جهة موثوقة يمكن اللجوء إليها وإخبارها بحمايته عندما يتعرض للمواقف المشبوهة.

ومع التقدم في السن أيض، خلال بداية احتكاك الطفل بالعالم الرقمي -والتي تكون قريبة من المراهقة- يجب أن ننبه إلى أن هذا العالم ليس عالما ندخله بدون وعي وبدون معرفة، بل يقتضي منا فهمََا لقواعد السلامة الرقمية، وأن الرسائل التي تأتينا من أشخاص مجهولين لا نرد عنها، وعند إرسال بعض الأشخاص صورا مشبوهة ينبغي إخبار الوالدين بذلك، وأن التواصل في الفضاء الرقمي، يجب أن يكون محميا بالاستشارة الوالدية، وهذا من صمامات الأمان.

طبعا للمدرسة أيضا دور كبير في باب الوقاية، من خلال الورشة والقصة والمحاورة يمكن أن تعزز لدى الطفل القدرات النفسية والتواصلية لكي يواجه مواقف محتملة في المستقبل من قبيل موضوع البيدوفيليا. ولا بد من الإشارة إلى كل ما قلناه لا ندعي أنه سيحقق الوقاية مائة بالمائة، بل لابد من اليقظة الدائمة ومن الاحتياط المستمر في هذا الموضوع لأن نسبة الخطر صفر غير موجودة في هذا الموضوع.

كيف يمكن أن اكتشف أن إبني يتعرض للتحرش أو الاغتصاب أو مورس عليه أي اعتداء جنسي؟

بالنسبة للعلامات التي قد تظهر عند الطفل ضحية اعتداء جنسي؛ هي متعددة، من قبيل تغيرات في السلوك؛ كظهور تصرفات ذات طبيعة جنسية غريبة وهذا يلاحظ عند الأطفال في سن مبكرة حين يتعرضون للاعتداء الجنسي، أو تغيرات أخرى من قبيل الميل إلى العزلة وفقدان الرغبة في التواصل، ويلاحظ هذا في الطفولة المتأخرة وبداية المراهقة، كما تظهر عند الطفل اهتمامات بالقضايا الجنسية بشكل مفاجئ، كما قد تظهر أيضا أعراض أخرى؛ كاضطرابات النوم والكوابيس الليلية…

كل هذه الأمور تكون مؤشرات لا ندعي أنها تدلّ بشكل حتمي على وجود اعتداء جنسي، بل هي علامات تستوجب الانتباه والتحري والتقرب من الطفل، وإشعاره بالأمان والثقة لكي يفصح عن ما لديه، وعن العوامل التي تفسر التغير الطارئ على سلوكه.

أهم رسالة في هذا الموضوع، هو أن تكون الصلة بين الوالدين والطفل جيدة، فعلى قدر ما تكون العلاقة الوالدية جيدة على قدر ما تكون قدرة الطفل على البوح والإفصاح في مثل هذه المواقف أسهل، وبالتالي القدرة على إصلاح المشكل في أقرب حين.

طبيا، هل يمكن تجاوز الحالة النفسية عند الأطفال الذين تعرضوا للاغتصاب أو التحرش في صغرهم؟

هذا السؤال يحيلنا على مفهوم بدأ يكتسي أهمية بالغة في العقود الأخيرة في علم نفس الصدمات، وهو مفهوم La résilience، ونستطيع شرحه بالقدرة على استئناف الحياة بعد الصدمة، وتدخل في تحقيق هذه القدرة عوامل عدة، من بينها عوامل مرتبطة بالطفولة المبكرة للطفل، أساسا نتحدث عن جودة العلاقات التي توجد بين الطفل ووالديه وأسرته ومحيطه القريب، فعلى القدر التي تكون علاقة الطفل بمحيطه علاقة جيدة في الطفولة المبكرة؛ علاقة تلبي الحاجات الفيزيولوجية والنفسية، على قدر ما يتحقق لديه الشعور بالأمان في سن صغيرة، هذا الشعور بالأمان يُعتبر الأرضية النفسية الصلبة التي سيقف عليها بنيانه النفسي مستقبلا، فتجعله قادرا على مواجهة اختبارات الحياة المختلفة.

ثم يأتي بعد مرحلة الصدمة أمر ثاني يسهل الخروج من الأزمة، وهو وجود أشخاص كبار جديرين بالثقة يستطيع الطفل أن يأوي إليهم وأن يبوح لهم بمعاناته ويجد لديهم التقبّل والاحتضان والدعم النفسي، على عكس الطفل الذي سيجد الإقصاء والتهميش بل وقد يجد الإدانة، فعلى قدر ما يصبح مجتمعنا مجتمعا مستوعبا لأهمية التعاطف مع الضحية وتقبلها وتوفير الاحتضان والدعم النفسي والمواكبة، على قدر ما نستطيع أن نطمئِن للمستقبل النفسي لهؤلاء الضحايا.

ومن جهة أخرى، لا بد من التنبيه هنا إلى اضطرابات نفسية قد ترافق الاعتداء الجنسي عند الأطفال، وأشير هنا إلى اضطراب ما بعد الصدمة، الذي يعتبر تشخيصا طبيا ويحتاج علاجا تخصصيا، حين تظهر على الأطفال صدامات وأعراض على شكل كوابيس واضطرابات في السلوك، أو على شكل حالة تشنج نفسي، هاته الأعراض تستوجب اللجوء إلى الاستشارة النفسية تخصُّصية في الطب النفسي للأطفال الذي يستطيع أن يقدم الخدمة الطبية المناسبة لهذه الاضطرابات.

إذن، القدرة على استئناف الحياة بعد الصدمة مكونة من عوامل عدة على رأسها رصيد الشعور بالأمان الذي يأتي به الطفل من الطفولة المبكرة وكذلك وجود الكبار الجديرين بالثقة بعد وقوع الصدمة، الذين يجد فيهم الطفل الدعم النفسي والمواكبة اللازمة ثم ننبه إلى أهمية الاستشارة الطبية التخصصية في مثل هذه المواقف لكي يتم التشخيص المبكر لاضطرابات ما بعد الصدمة، إذا وجدت، ولتقديم الدعم النفسي للطفل وللمحيط العائلي.

بعد وقوع تحرش أو اعتداء جنسي على الطفل، كيف يجب أن تتعامل معه الأسرة والمحيط والمجتمع؟

هذا السؤال يجدد له موطئ قدم في الجواب السابق. فالذي يحتاجه الطفل بعد وقوع اعتداء جنسي هو بيئة أسرية داعمة ومجتمع مساند وأجواء تحقق الشعور بالأمان وتعطي لهذا الطفل إمكانية الثقة في الحياة، وبتدخل الفاعلين المختلفين من أسرة ومدرسة والجهات الاجتماعية المختصة، على قدر ما نمنح هذا الطفل حظوظ أوفر لتجاوز الصدمة ولاستئناف مساره الدراسي واسترجاع ثقته بالمجتمع وبالحياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *