منتدى العمق

نهر الرماد

إلى روح أحمد جواد

رأيت جسدي يحترق فجأة، ألسنة اللهب تلتف حولي، أصرخ، أطلب النجدة، ثم أسقط أرضا وأتكوم حول نفسي.

انتظرت ردا لكن لا أحد يجيب، لا أحد يكلف نفسه عناء إطفاء حرائق شبت بداخلي، وأنا أشم رائحة الجلد المشوي، أرى الأرجل تلتف حولي، أصيخ السمع لكنني لا أفهم ما يقال غير أشخاص يهمهمون ويغمغمون بكلمات متسارعة لم أجد لها معنى.

مع مرور الوقت، صرت أحترق أكثر، أغمض عيني تارة وأفقد الوعي تارة أخرى، ينقطع خيط الاتصال بيني وبين نفسي حينا وبيني وبين العالم حينا آخر من الدهر.
أمشي حافي القدمين وسط أكوام متراكمة من الأشواك، أمشي وسط الظلام دون وجهة ولا قصد ولا هدف، أتألم في صمت، أتأوه بدون صوت، أمشي بخطى ثابتة علني أجد مخرجا ينقذني من لهيب المعاناة.

لحظة، تتعب قدماي فلا تقويان على حملي، أفقد الأمل في النجاة والفرار بجلدي، أطأطئ رأسي وألعن الحياة والوجود والعالم وكل البشر، أتابع الطريق في يأس تام، غير أنني لبرهة أرى نورا ينبعث من منصة سوداء تلفها ستائر حمراء منسدلة بشكل جذاب.
أصعد إليها بخطى واثقة، تغمرني فرحة مزيفة وأنا أرسم على وجهي ابتسامة صفراء.
أنا الذي أبدو قويا من الخارج لكني ذو قلب رخو أتعبته كدمات الحياة.
أنظر أمامي فإذا بي أمام عشرات المتفرجين يهتفون بحماس طفولي، يصفقون لي، يشع من أعينهم بريق ملفت، أحس بتوتر ممزوج بمغص على مستوى أمعائي، تمتعض عضلات وجهي الذي تغطيه لحية كثة تتخللها شعيرات بيضاء، انثالت علي الأفكار من كل صوب، وتكالبت علي مشاعر مختلطة من يأس وأمل.

تأملت في الحاضرين مليا غير أن ضحكة مجلجلة صاخبة خرجت من أحشائي دون إذن مني.
ضحكت ملء شدقيّ، و انتقلت طاقة الضحك إلى الحاضرين كالنار في الهشيم، يضحكون فقط لأنني بادرت بالأمر: ماذا لو أنني بكيت؟ هل سيبكون؟ ماذا لو أنني حكيت عن معاناتي وألمي؟ هل سيعانون مثلي؟
لا أظن….. أنا غير متأكد ما أعرفه جيدا وما أدركه بشكل مطلق أن الناس يحبون من يضحكهم، من يسليهم، من يخرجهم من واقعهم المسموم فقط لا غير.
ضحكت حتى تحولت ضحكتي إلى بكاء هستيري ثم سقطت أرضا على ركبتي وبدأت أنتحب بصوت مبحوح مثل المسعور، وأنا أبكي حيث الوقائع جعلت كل شيء يتواتر بشكل مسترسل، برهة من الزمن أخرجني من ضعفي الأنطولوجي، الضوء الذي أنار القاعة فجأة وهمهات الحاضرين وخطاهم السريعة وهرولتهم نحو الباب المفتوح على مصراعيه.
نظرت إليهم باستغاثة قاتلة وممدت يدي نحوهم، وأنا أنتحب لكنهم غادروا دون أن يلتفتوا نحوي، دون أن يكلفوا نفسهم عناء مساعدتي، عناء عناقي وتحملي وقت الألم رغم أنني عانيت الأمرين من أجل إسعادهم والهروب بهم من الظلمات إلى النور، كرست حياتي لعرك أحزانهم ورفسها في الأرض لكنهم عركوا كرامتي كما يعرك المدخن الشره اعقاب سيجارته.
ذهبوا!! ذهبوا!! ملأ التراب جوفي ولا أحد أطفأ لهيب قلبي ولهيب جسدي…..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • عبدالإله
    منذ 12 شهر

    نص جميل ذو لغة صلبة،فيها لمسة من كبار المعاجم وكذا البلاغة والدلالة،وجودة السبك،لكن مايعيب هذا النص هو نقصانه لرسالة تفيد المتلقي نهاية،لا تنتبهي كثيراً لهذه المداخلة النقدية، فقط كانت تحفيزاً لصناعة نص آخر بجودة أكبر