منتدى العمق

قطار الحياة

جمعت كل أمتعتي ووقفت أنتظر البراق. لا تفكر في بنطال دجينز القصير والأقمصة، بل ركز أنها أمتعة من نوع آخر، ربما ستعرفها في ما بعد إن كنت يوما قد سافرت، أما إذا كنت ممن فتح عينيه ووجد الحقيبة والأمتعة بالسيارة فأنت وارثٌ، وأنا لا أحدثك. أنا هنا بمحطة القطار أنتظر وصوله، ولبرهة صعدت على متنه، فلمحت كثيرين من هم محملون بحقائبهم، جالسون ينظرون بعيون حمراء تتطاير شراراً كأنها لهب مشتعل. انطلقت الرحلة، وسُمع الصراخ، هناك من يبكي وهناك من يضحك، وآخرون قُطع بكاؤهم وصاروا يتأوهون، يبدون كأنهم متمسكون بأمل سيطفو بهم كجذع نخلة إلى ساحل البحر، حتماً سيعبرون لا جرم أنهم سيصيلون، أما أنا فجفوني كالقتاد، كلما هممت بإغلاقها أصيبت بالعوار. أراه ينطلق بسرعة البرق والبعض مرعوب، لكن هنالك في المقاعد الأمامية أناس لايكترثون تعلواْ وجوههم ابتسامة أخاذة تأخذك من رحلتك باتجاه عالم السعادة، أعرف، وأعي جيداً أنهم متميزون، إنهم جمعوا حظ الأرض كله وتركواْ لنا النحس يطاردنا في كل مكان.

الآن بدأت تعرف نوع الرحلة الذي أنا فيه، وبدأت تعرف حتى الأمتعة المحملة بحقيبتي. وصل القطار إلى محطة النزول الأولى فرأيت شمسهم شارقة، والبشاشة تعلواْ محياهم، خطواتهم متراتبة ذات حلاوة تفوق طعم العسل، فقط هم نحو عشرة ينزلون، يتريثون في تأني باتجاه بيوتهم القرميدية، عرفت أنهم النبلاء، وحياتهم صبوحة وعذباء، فظننت أن مُنزَلهم هو منزَلي، لكن هيهات هيهات، لقد انغلق الباب بوجهي، وانطلق القطار ثانية، ثم أوجست في نفسي الفزع أملاً أن أضمر سيماتي، حيث أدركت أن الناس على سيماهم ينزلون، فالأنام هنا طبقات ولا أعرف لأي طبقة أنتمي. لهنيهة وصلنا المحطة الثانية فسمعت أناساً يتحدثون، نظرت إليهم، فإذا بهم يهمهمون، باتجاه الباب يخطون، فما لمست أقدامهم الأرض حتى هرولوا باتجاه ديارهم العمرانية، أعتقد أنهم المتوسطون، وحياتهم مستقرة وبخير وسلام، نظرت إلى ورقتي، أتفقد إن كان منزَلهم هو منزَلي، فانغلق الباب ثانية بوجهي وكأنه يقول :<<سيماتك ليست لها حق النزول>>، عرفت قدري ومن أكون، وبدأت ألعن حظي الملعون، فما لبثت أنهي لعنتي حتى وصل القطار، فرأيت الناس يتزاحمون، يتدافعون، ثم يصرخون، فعرفت يقيناً أنهم الكادحون، فما لمست أقدامهم الأرض حتى صارواْ يركضون، باتجاه بيوت قزديرية إليها يفرون. ظننت أنني أخيراً سأنزل معهم، فاقتربت من الباب لعلني أتبعهم، لكن انغلق بوجهي ثالثة. لا أعرف أين يأخذني هذا القطار وإلى أين نحن عابرون؟ فلم يتبقى على مثنه إلا الملعونين. كثُر النواح، والدموع كادت أن تغرقنا، فلا أحد يعرف مُنزله، وأي منزلٍ نحن نازلوه بعد هذا السفر الطويل! بدأنا نقترب حيث هنالك أرى أكواخاً من قصبٍ قديم، يسدها الظلام شرقاً، والغسق غرباً، إنه منزل الملعونين، حتماً الآن سينزلون. ولهنيهة وقف القطار في محطته الأخيرة ونزلتِ الوجوه العبوس، تزحف باتجاه كيخانها، فما كان لي إلا الزحف معهم، دخلت حظيرتي منهكاً، وألقيت بنفسي على بساط صغير أنذب حظي المرجوم، أصرّف مقلتي هنا وهناك، فوقعت عيني على ورقة تشبه ورقة القطار، نهضت مسرعاً إليها أملاً في أن تأخذني في رحلة غير التي رحلتُ، وجدتها مخطوطة بقلم أسود، بخطٍ عريض، ذو لهجة صلبة، تُميت الجبان، وترعب الشجاع، وهي عبارة شعبية “فاتك الغرس قبل مارس”

نعم لقد جدّواْ ووجدواْ، ثم زرعواْ فحصدواْ، أما نحن فقد فاتنا وقت الزرع، ولم نحصد إلا القتاد والأشواك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *