وجهة نظر

مستقبل المشهد الحزبي ما بعد 7 أكتوبر

ربما لأول مرة في تاريخ الانتخابات المغربية، يكون الخاسر من الأحزاب بهذا العدد الكبير، والرابح حزب وحيد، فقد كشف اقتراع 7 أكتوبر عن خسارة فادحةلمعظم الأحزاب السياسية، بما في ذلك الأحزاب التاريخية، والمفارقة العجيبة التي أذهلت الجميع، هي حصول حزب “الجرار” على الرتبة الثانية ب 102 مقعد، في حين لم يتمكن في انتخابات 2011 تجاوز 47 مقعد، وهذا ما جعل الرأي العام يتساءل عن أسباب هذا التناقض والتباعد الصارخ في النتائج، بين الأحزاب الأولى والأحزاب الأخيرة.

يوجد هناك أكثر من سبب وراء تراجع أحزاب الكتلة في الانتخابات الأخيرة، وليس موضوعنا ههنا الوقوف على تلك الأسباب بالتفصيل، لكن تجدر الإشارة إلى ان أهم سبب الذي جعل الأحزاب عامة تتراجع بشكل غير مسبوق، هو زرع جسم سياسي غريب داخل الحقل الحزبي المغربي، والذي خلق حالة من الالتباس والضبابية من جهة، ومن جهة أخرى، أشعل صراعات ومواجهات وحروب بين مكونات المشهد الحزبي، وذلك عندما أراد مهندسوه أن يكون رأس حربة في مواجهة التقدم المضطرد لحزب العدالة والتنمية.

لكن يبدو أن هذه النتائج جاءت بعكس ما خطط له، لأنه المراقب النزيهسيلاحظ أنه كلما اشتد التضييق والحصار على الحزب المذكور، إلا ويزداد قوة وشعبية، وخير دليل على ذلك، النتائج الإيجابية غير المنتظرة التي حصل عليها، والتي مكنته من إعادة قيادة الحكومة المقبلة، رغم أن شعبيته تآكلتنسبيا من الحملات الممنهجة ضده، ومن تجربته الحكومية السابقة بما لها وما عليها..

وكان أكثر المتضررين من ظهور حزب “البام” في الساحة السياسية، هم أحزاب الكتلة، التي دفعت ضريبة الاقتراب منه والخضوع لأجندته، وهو ما أضعف شعبيتها، وجعلها تفقد كثير من مصداقيتها واستقلاليتها، نتيجة حالة الاستقطاب التي خلقها هذا الكائن السياسي الغريب داخل الوسط الحزبي، وخلفت ثنائية قطبية مصطنعة، بينه وبين حزب البيجيدي..

لقد كانت النتائج التي حصلت عليها أحزاب الكتلة، كارثية بكل المقاييس، حيث كشفت عن الضعف والتراجع الكبير في شعبيتها، واقترابها التمثيلي من الأحزاب الصغيرة، وهذا مؤشر خطير يدل على أن مستقبلها السياسي أصبح مهددا إذا لم تقم بمراجعات جذرية.

في ظل هذا الواقع الحزبي البئيس، فإن الأحزاب السياسية عموما والتاريخية على الخصوص، أمام سؤال المستقبل، من أجل الإجابة عن مكامن الخلل في تدبير مؤسساتها الحزبية، وذلك من خلال القيام بنقد ذاتي، للوقوف على الأخطاء التي ارتكبت في الفترة السابقة.

من الواضح أن النتائج الصادمة للأحزاب التاريخية، جعلتها تستشعر الخطر الذي يهدد مستقبلها السياسي، ولذلك فهي مضطرة لمراجعة تدبيرها للعمل الحزبي والسياسي، ويبدو أن التوجه التي اتخذتهبقبولها المشاركة في تشكيل الحكومة المقبلة، تعد خطوة مهمة لاستعادة قوتها الحزبية، التي تآكلت خلال تموقعها في المعارضة.

إن الزلزال الانتخابي الذي ضرب الأحزاب السياسية، لا زالت ارتداداته متلاحقة على المشهد الحزبي والسياسي، وانعكس ذلك في مشاورات تشكيل الحكومة، حيث ظهر تغيير واضح في الخطاب السياسي لمعظم الأحزاب، بما فيها تلك التي خاضت حروبا مفتوحة مع البيجيدي، وكانت لديها خصومات مع رئيس الحكومة شخصيا، وقد أظهرت مرونة غير متوقعة، مما جعل كثير من المتتبعين للشأن الحزبي يتساءل حول ما إذا كانت تلك المواقف السياسية المتشددة إزاء حزب بنكيران، مبنية على قناعات راسخة، أم أملتها عليهم جهات معينة؟

وما زاد من إثارة الغموض حول هذا التغيير المفاجئ، في مواقف تلك الأحزاب، هو تزامنه مع إعلان الأمين العام لحزب “البام” عن رغبته فيما أسماه “المصالحة التاريخية”، ونبذ العنف والصراع من أجل مصلحة الوطن، وهذا ما خلق جدلا وشكوكا حول جدية ومصداقية هذا التحول المفاجئ.

وعلى العموم، وبعيدا عن الخوض في النوايا والأهداف من وراء هذا التغيير، فإنه خطوة إيجابية، في طريق التطبيع السياسي بين مكونات المشهد الحزبي، وفرصة نادرة لنزع فتيل التوتر والصدام، الذي طبع الخمس سنوات الماضية، وأدى إلى خصومات وعداوات،نزلت بمستوى الخطاب السياسي إلى الحضيض، وأضرت بصورة العمل السياسي ببلادنا،وكانت من بين أهم الأسباب التي أدت إلىامتناع كثير من المغاربة عن المشاركة في الانتخابات الأخيرة.

لقد كان امتحان 7 أكتوبر حاسما ومصيريا، وأفرز لنا مشهدا حزبيا مترهلا وضعيفا، يحتاج إلى ثورة حقيقية لتجاوز أخطاء الماضي، والمغرب في حاجة لجهود الجميع دون إقصاء، للحفاظ على المكتسبات المهمة التي حققها على المستوى السياسي والحقوقي والثقافي، والأحزاب السياسية هي خط الدفاع الأول عن هذه المكتسبات والعملعلى تطويرها وتعزيزها، وهذا يحتاج بالأساس إلى تكريس مناخ الثقة، والاعتماد على الحوار في حل الخلافات السياسية، وأن يكون التنافس قائم على أساس البرامج والعروض السياسية، وليس على أساس الانتماء الحزبي والإيديولوجي.