لنا ذاكرة، مجتمع

مدافع دمنات.. قصة “سرقة” تأبى النسيان والجماعة ترمي الكرة في ملعب السلطات

تعد مدينة دمنات التابعة حاليا لإقليم أزيلال من المدن التاريخية في المملكة والتي عرفت تعاقب مجموعة من الثقافات والحضارات تركت آثارا لا يقدر بثمن، والتي كان بإمكانها أن تلعب دورا أساسيا في الترويج للسياحة، من خلال استقطاب العديد من السياح، لاسيما عشاق التاريخ الذين لهم ثقافة الاطلاع على حضارات قديمة.

ويشهد التاريخ أن دمنات ساهمت منذ القديم بقسط وافر في تاريخ المغرب، وحظيت بأهمية بالغة تؤكدها الشواهد التاريخية، من مآثر وقلاع ومواقع مرتبة وغير مرتبة في عداد الآثار، حيث تُعتبر دمنات من أغنى المدن المغربية بالمآثر التاريخية التي طالها الإهمال، تقف أسوارها الشامخة شاهدة على ماض مجيد، يختزل ذاكرة من أسسها وسكن ربوعها ووطأ أرضها من أمازيغ وعرب ويهود، وفق تعبير أحد أبناء المدينة، مولاي نصر الله البوعيشي.

هذه الآثار التي تزخر بها دمنات لم تجد من يعتني بها، بل تم إهمالها إلى أن ضاع منها الكثير بسبب “جشع البشر”، ومن هذه الآثار التي لا تزال محل جدل كبير وسط ساكنة المدينة المدفعان الآثريان اللذان يجهل مصيرهما منذ اختفائهما بداية القرن الـ21.

اعتراف بالسرقة ورمي للكرة في ملعب السلطة

جماعة دمنات اعترفت أخيرا بسرقة المدفعين في جواب رسمي لها، مشيرة إلى أنها قدمت شكاية ضد مجهول إلى النيابة العامة أكتوبر 2005، علما أن السرقة حدثت سنة 2003 من أمام مقبرة مسجد القصبة، وهو ما يطرح أسئلة كثيرة حول أسباب عدم تقديم شكاية في الموضوع فور اختفائهما.

عبدالجليل أبوالزهور، المهتم بالشأن المحلي، أكد في تصريح لجريدة “العمق” على أن السرقة صادفت تواجد عامل إقليم أزيلال آنذاك بمدينة دمنات بمناسبة ذكرى المولد النبوي، وقال إن العامل عقد اجتماعا مع أعضاء المجلس بمقر دار الشباب بدمنات، قبل أن يغادر المكان في اتجاه امنفري.

وبحسب جواب الجماعة عن سؤال حول الإجراءات التي قامت بها في هذا الخصوص، قالت إنها راسلت في ذلك الوقت عمالة إقليم أزيلال وراسلت باشوية دمنات أيضا ومركز الدرك الملكي، دون أن تكشف عن أي خطوة جديدة منذ ذلك الحين لمعرفة مصير هذين المدفعين التاريخيين، كأن “الآثار ليست ذات أهمية بدليل ضعف الاهتمام الرسمي بها والذي لا يرقى إلى مستوى أهميتها التاريخية”، على حد تعبير البوعيشي.

وقال المهتم بتراث المدينة، مولاي نصر الله البوعيشي، ما قدمته دمنات هذه من إرث تاريخي جدير بالاهتمام والبحث والاكتشاف والتقييم، لكن مع الاسف الشديد بذلا من ذلك تتعرض ماثرها للاهمال و إلى النهب المتواصل، حيث لا توجد سياسة واضحة لحماية هذه الماثر التاريخية من الاندثار .

قيمة تاريخية 

أستاذ التاريخ، عبدالهادي زيدان، قال في تصريح لجريدة “العمق” إن هذه المدافع تركها السطان الحسن الأول لقائد دمنات الجيلالي والمدني الكلاوي، في حين يرى بعض المؤرخين أن السلطان تركها كهبة لهم بعد الاستقبال الفخم الذي خصص له من طرفهم.

وأوضح زيدان أن هذه المدافع اليوم لديها قيمة تاريخية وتراثية على اعتبار أنها تحف قيمة يمكن عرضها في إحدى المتاحف التي نتمنى تشييدها بالمدينة، مشيرا إلى أن كل ماله علاقة بالتراث لايحظى بالاهتمام ، بالرغم من الميزانية المهمة التي تخصصها الدولة للحفاظ على التراث المادي واللامادي وصون الذاكرة التاريخية.

وختم تصريحه بالقول: “بصفة عامة يمكن القول إن تاريخ وتراث هذه المدينة يحتضر دون تدخل من الجهات المسؤولة المجلس الجماعي، وكذلك المحافظة الجهوية للتراث”، وفق تعبيره.

أما الباحث بسلك الدكتوراه في مختبر المغرب في محيطه المتوسطي والافريقي، يونس إبورك، فقد أشار إلى أهمية هذه الآثار باعتبارها من التراث المادي الذي يعتبر أرشيفا حاضنا لأحداث الماضي ومرآة تعكس مدى تطور الإنسان في المجال، وقال: “فالأسوار والقصبات والقصور والمدافع بتمظهراتها المختلفة كلها تحف تؤثت المدينة المغربية العتيقة.

وأشار إبورك إلى أن اختفاء هذه القطع الآثرية التي كانت تزين في الماضي مدخل القصر البلدي، والتي كانت تدخل ضمن الأسلحه الناريه التي استعملها المغاربة منذ زمن حكم المرينيين كوسيلة لدك الأسوار وفتح الأبواب وتأديب القبائل الثائرة على المخزن، يعتبر خسارة كبيرة للمدينة وتاريخها.

جريمة القرن 

وقال مولاي نصر الله إن ما سماها بجريمة القرن المتمثلة في سرقة مدفع كبير ومدفع صغير التي تعد بحسب المنطق الثقافي وقيمة الآثار جناية وجريمة لا تغتفر بحق تراث هذه البلدة، وأضاف أنه “من البديهي أن الهدف من هذه السرقة قبل الحصول على المال هو إلحاق الضرر بموروثات دمنات الأثرية وطمرها والتعتيم عليها وإخفاء قيمتها، وعزل الأجيال عن تاريخهم، لأن ما نملكه اليوم لو تمت عملية تضييعه ستجهل الاجيال القادمة قيمته”.

وأشار المتحدث إلى أن هذا الإهمال الممنهج للتاريخ والتراث الدمناتيين وما يرافقه من تخريب للهوية الحضارية أبطالها “مافيات” مستعدة على الدوام لعرض تاريخ هذه البلدة في المزاد العلني، ومعركتهم المفتوحة والمعلنة على الهوية والثقافة والجمال تتخذ أوجها متعددة لكن محصلتها واحدة وهي إفراغ دمنات من كينونتها الرمزية، على حد تعبيره.

وفي سياق متصل، أشار أبوالزهور إلى أن الغريب في الأمر هو أن المدفعين لم تتم سرقتهما دفعة واحدة، إذ تمت سرقة المدفع الكبير أولا قبل أن يختفي الثاني بعد أسبوع من السرقة الأولى، وهو ما يعطي دليلا واضحا على أن السرقة ممنهجة ومخطط لها، إذ كيف يسرق الأول دون ان تتخذ الإجراءات اللازمة لحماية الثاني.

واستطرد المتحدث: “ولتسهيل سرقتهما تم إحداث حديقة أمام  مقبرة مسجد القصبة، التي كانت تحتضن رفات العشرات من الدمناتيين الذين قضوا في سجون المخزن الذي كان يحكم من القصبة بقبضة من حديد، لعرضهما مكبلين بسلسلة حديدية لإيهام المتوهمين بانهما في امان الله وحفظه. وبين عشية وضحاها وفي غفلة من الجميع لا من رأى ولا من سمع “برق ما تقشع ” طار المدفعان ورفرفا بجناحيهما إلى عنان السماء، بحسب لغة البوعيشي.

وزاد: “في اعتقادي فإن التجارة والسمسرة والتهريب وطمس التاريخ كلها مجتمعة أفضت في الأخير إلى حقيقة واحدة لا غبار عليها: اتلاف التاريخ الدمناتي، واستغلال ضعف الوعي بالقيمة التاريخية للقطع التاريخية، للسطو على المدفعين الذين كانا في أمن وأمان بمستودع البلدية ويصعب سرقهتما لان المسؤولية واضحة ومحددة”.

وختم البوعيشي تصريحه بمجموعة من الأسئلة التي قال إنها ظلت عالقة بدون جواب من قبيل من سرق المدفعين؟ كيف ؟ ومتى؟.

من جانبه سجل الناشط الحقوقي، عزيز الوالي، إهمالا ونهبا متواصلا للإرث التاريخي للمدينة، وغيابا تاما لسياسة واضحة لحماية المآثر التاريخية من الاندثار، مطالبا في الوقت ذاته بقتح تحقيق في التراث المنهوب بما في ذلك المدفعين الأثريين.

واستنكر الحقوقي في صفوف الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بدمنات ما وصفه بـ”الإهمال الممنهج” لكل ما له علاقة بتاريخ وهوية المدينة، معلنا استعداد الجمعية للانخراط في أي معركة مستقبلية في الأمر.

وطالب الوالي ضمن تصريحه السلطات المعنية، ووزارة الثقافة على وجه الخصوص بفتح تحقيق جدي حول مصير هذين المدفعين ومعاقبة منعدمي “الضمير والأصل” وكل من ثبت تورطه في هذه الجريمة، وفق تعبيره.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *