منتدى العمق

لكي تكون عندنا حرية الاختيار..

تريد السلطوية أن يسودَ المشهدَ تياران اثنان. لِيجد المواطنُ نفسه أمام خيارين فقط. فإن كان منحازا لتوجه ما، لم يجد سوى تيار واحد يمثله، وإن كان معارضا لتوجه ما، لم يجد إلا تيارا واحدا يمثل نقيضه. هذه خطة بديلة عن “فرّق تسد”، وشخصيا لا أدري وصفها عند الأكاديميين والباحثين، لكنها في العموم تُعْنَى بجعل نموذجين في المشهد، فلا يجد المواطن أي بديل عنهما. وتستخدم السلطوية لتحقيق ذلك كل الوسائل.

إن المواطن يصعب عليه تمييز مخاطر تيار معين حين يجده الوحيد الذي يحمل بعضا من مطامحه الأيديولوجية و/أو السياسية وأن بإمكانه تمثيله. فإما أن يقوم –هذا المواطن- بغضّ الطرف عن تلك المخاطر، أو أن بصيرته تُعمى فلا يعيها –المخاطر-..

لاجدال في أن للثنائية أو القطبية بعضا من الإيجابيات، لكنها في العمق خطيرة بالنسبة للحرية الحقيقية للأفراد في الاختيار. فحين يكون في الساحة قطبان اثنان، تجدُ المواطنَ يدافع عن قطبٍ، رغم كونه يختف معه في أمور جوهرية، لكنه لا يجد سواه ممثلا لجزء من قناعاته، أو ممثلا لنقيض المشروع الذي يخالف قناعاته.

وكي ندرس خطورة القطبية الحزبية، نأخذ واحدا من أهم ما يميز مشاريع التيارات السياسية والمجتمعية “رؤيتها للنظام السياسي”.
حزب العدالة والتنمية نموذجا؛ الحزب الذي قاد الحكومة السابقة، والذي تم تعيين أمينه العام مسؤولا عن تشكيل الحكومة المقبلة؛ حزبٌ يدافع عن الملكية الدستورية (التنفيذية)، وذلك من خلال دراسته للتاريخ السياسي المغربي وقراءته للواقع المغربي الحالي، وكذا للتجارب الإقليمية.

لننطلق في جولة تخيلية، ربما تفيدنا في التحليل؛ نفترض أن حزب العدالة والتنمية يطالب بالملكية البرلمانية، كيف يمكن أن يتم استغلال هذا المطلب من قبل خصومه السياسيين؟ وكيف يمكن أن تقرأ الملكية هذا المطلب؟

لا شك أنهم سيمثلون لنا حينها أن (هذا الحزب يمارس التقية ومشروعه الخفيّ هو إسقاط الملكية، وأن هذا المطلب مجرد خطوة أولى في مخططه الاستبدادي الذي يطمح فيه إلى الهيمنة على الدولة وسبيله في ذلك، المبدأ الذي لطالما رفعه، “مبدأ التدرج”، فهو تيارٌ يعلم جيدا الخطوات التي يجب أن يخطوها، ويحسبها حسابا دقيقا).

لكن المحلّل الموضوعي يجد أن تاريخ هذا الحزب، ومنذ تأسيسه، يشهد على أنه يشيد بالملكية، ويثني عليها، ولم يهاجمها يوما، بل كان ينزهها منذ البداية، ويجعل الفساد والاستبداد في من يحيط بها لا فيها. (الأطروحة التي يقدم جبرون أكثر صوابية في نظري من أطروحة البيجيدي، في شقها المتعلق بالتشخيص، لكن أطروحة البيجيدي أكثر جاذبية لعقلي الإصلاحي في شقها العملي).

رغم كل ما أكده حزب العدالة والتنمية من إيمانه بالملكية، إلا ونجد أصواتا تدعي أنه يمارس التقية، وتزعم أن له ارتباطات أجنبية تريد بهذا البلد الدمار والفوضى.

ماذا إذن لو رفع يوما مطلب الملكية البرلمانية؟ ستكون تلك ضربة موجعة -وربما قاضية- له.

أنا شخصيا أجد نفسي أقرب الى طموح بعض المكونات السياسية في مطالبتها بالملكية البرلمانية، لكن عليها بدل أن تطالب حزب العدالة والتنمية بذلك، وأن تزايد عليه. عليها أن تنزل للشارع وتؤطر الجماهير وتخلق وعيا مجتمعيا (أو بتعبير علال الفاسي “فكراً عاماًّ”) بإشكالية الملكية التنفيذية وتحكمها في كل دواليب الدولة، ما جعل رئيس الحكومة يعبر أن هذه الأخيرة ما هي إلا نافذة نستنشق منها بعضا من الهواء.

لا يقل أحدكم لبنكيران أنه إذا لم يكن يحكم حقيقة فليستقلّ. فهو قد صارح الشعب بذلك منذ اليوم الأول، وانه اذا أراد –الشعب- من يصارع الملك فليأتي بغيره.. والانتخابات الأخيرة أكدت أن الجزء الأكبر من المشاركين في الحياة السياسية يقبلون بسياسة هذا الحزب. طيب! ما العمل إذن؟

الجواب، يقول رئيس الحكومة، أنكم إذا أردتم تغيير طبيعة النظام السياسي الحالي، فلتطالبوا بتعديل دستوري. أما الدستور الحالي فهذا ما يؤكده، ملكية تنفيذية مهيمنة على الدولة.

نجد في الباب الثالث من الدستور، الفصول (من 41 الى 56) الملك أمير المؤمنين، رئيس الدولة، القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية، رئيس للمجلس الأعلى للأمن، رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية… اطلاع بسيط على محتوى هذه الفصول، يجعلك على يقين -دون شك ولا ريب- كون من وافق على هذا الدستور إنما وافق على الملكية التنفيذية.

إن حزب العدالة والتنمية حزب منسجم مع نفسه، فهو يرى أن الفساد بعيد عن مركز الدائرة الملكية، لكنه يحوم بمحيطها. فهو إذ يقبل الدخول في هذا الميدان (التسيير وليس السلطة)، غير مستعد للمطالبة بتغيير طبيعة هذا النسق، فهو يؤمن بأن واجبه الأساس يتمثل في تقريب فئات المجتمع، وأن تحظى الفئات المستضعفة المحرومة بجزء من ثروة هذا البلد، مع الحفاظ على الاستقرار؛ ومسار الصراع في اعتقاده غير معروف العواقب.

لذلك فالذي يرى أن أولوية المرحلة تقتضي نزع كل صلاحيات الملك، وجعله يسود دون أن يحكم. (للإشارة، رسالة عبد السلام ياسين لمحمد السادس في بداية توليه الحكم، لم تكن تدعوا لعزله عن التدبير، بل كانت تؤكد دعمه للملك الشاب، وتدعوه لأن يراجع سلوك والده الذي طغى، وأن يطهر محيطه، بل أكثر من ذلك انها تثني على طهارة يد محمد السادس من أي فساد ماضٍ، فهو الشاب الذي جاء نقيا، ويدعوه مؤسس جماعة العدل والإحسان إلى أن يحافظ على نقاءه. (يمكن للقارئ العودة للرسالة، وهي موجودة بالموقع الالكتروني للجماعة كذلك).

إن من يتبنى الملكية البرلمانية نظاما سياسيا للمغرب، عليه أن ينزل للميدان، يقوم بالتأطير السياسي والفكري للشباب والمناضلين على مدار السنة، وليس الحضور الانتخابي والغياب لخمس سنوات عن الساحة، وفي الأخير يزايد على أحزاب متجذرة في الحواضر والقرى.

وبعد أن يتم التأطير، إذا كانت حينها تلك إرادة الشعب (بعد تعليمه، وتوعيته، وتأطيره) وتم خلق جبهة تدافع عن تعديل دستوري، وخروج فئات عريضة من الشعب مطالبة بحقها في طبيعة النظام الذي تريد؛ إما عن طريق عرائض أو ملتمسات أو مقترحات أو نضالات ميدانية بشكل سلميّ وحضاري،… إلى أن يتحقق مطلبها. أما إذا لم تتم تعبئة هذه الجماهير، وقررت عدم خوض غمار تجربة غير معروفة النتائج، فإن الديمقراطية تستلزم أن الشعب إذا لم يخترك، لا يجوز لك أن تدعوه بالبليد أو الجاهل أو غير المتعلم أو “حفظ وعرض”.

ومن قالت هذه العبارة الأخيرة، هي نفسها قالت حين سألها الصحافي سليمان الريسوني قبل الانتخابات، أننا حين نتواصل مع الشعب نجده متفهما لنا وواعيا.

حين كان يبتسم لك، كان شعبا واعيا. وحين لم يعطك صوته، صار “حفظ وعرض”.
ما هكذا تكون الديموقراطية يا أستاذة..

وكي أكون صادقا وموضوعيا، فدرالية اليسار كانت المتقدمة في المكتب المركزي الذي لاحظت فيه عملية الفرز في انتخابات 07 أكتوبر، فبعد العدالة والتنمية التي حصلت على 1189 صوت، والبام على 265 صوت ، حصلت الفدرالية على 200 صوت.

وحيث أن البام ليس حزبا سياسيا، فهذا يعني أن الفدرالية حققت إنجازا وصار لها موطئ قدم. ولو أن الفارق بيّن.. لكنها بدأت تشق طريقها. وما كان على قائدتهم أن تنفعل للانهزام الانتخابي، فالفدرالية صِدقاً انتصرت سياسيا.. كونها عرّفت بنفسها، وصار يتابعها الكثير، (ومن بينهم كاتب هذه الأسطر)؛ وخلال متابعتي كذلك لحوارات عمر بلافريج، صرت مقتنعا بكلام بنكيران، “أن هذه الفدرالية ستحقق نجاحا في المستقبل”.

لم أتحدث في هذا المقال إلا عن رؤية حزب العدالة والتنمية لطبيعة النظام السياسي، ورغم كوني أنتمي لهذا الحزب، إلا أنني لا أشاركه نفس هذه الرؤية. ونحن في حاجة لمراجعة رؤى الأحزاب السياسية والتيارات المجتمعية الأخرى لطبيعة النظام السياسي، وكذلك رؤاها الاقتصادية، وسياساتها الاجتماعية، ومرجعياتها الفكرية…

وكل واحدة من هذه المواضيع تحتاج لتفصيل دقيق، ودراسات مقارنة، بين التيارات المختلفة من داخل الوطن ومن خارجه.
إن التعددية تجعلنا نرى أخطائنا، ونلمس ضعفنا، نستطيع أن نميز الخبيث من الطيب عند كل الأطراف. تجعلنا كذلك متسامحين ومتواضعين، وأكثر من ذلك، تكون عندنا حينها الحرية الحقيقية في الاختيار.