هلوسات الجنوبي (1).. وعكة

الهلوسة الأولى: وَعْكَة
تجر خطاك نحو المستشفى، الوجع يفتك بك ومع ذلك تمشي، الشمس تحرقك ومع ذلك تمشي، تلقي التحية على الناس ولكن أغلبهم لا يرد، يكتفي بالنظر إليك، هل عند الناس وقت لرد سلامك؟ تصل المستشفى فتنهار على كرسي مهترئ.. تنتظر دورك.. ستنتظر كثيرا إذا انتظرت دورك. الكثيرون يدخلون مباشرة بعدما يصافحون الطبيب ويضعون أيديهم على ذراعه، يدخلون مبتسمين ويخرجون بضجة الشكر والوصية بإبلاغ سلام لأحد ما…
أخيرا تدخل.. لا كرسي أمام الطبيب أو الممرض، أنت لا تعرف من يكون، ولا تجد أن تضع كتلتك لعلك ترتاح. في “روجيستر” كبير يسجل معلوماتك ويطلب منك أن تخبره “ما بك؟”. تختصر كل شيء: “وجع هنا وهنا، أرق، غثيان، فقدان شهية…” ثم على ورقة بيضاء كالكفن يكتب بخط رديء جدا، وبلغة المستعمر يكتب ما لا تفهم، تتسلمها وتغادر خائبا وأنت تتساءل عن الدواء الذي يُحكى أنه في المستشفيات.. الوقت ليس وقت التساؤل يا هذا. أين الصيدلية؟ مغلقة. أنسيت أنه يوم الأحد وما كان عليك أن تمرض، سيء الحظ دائما أنت في صحتك وحتى في مرضك.
إلى صيدلية المداومة، أين؟ هناك.. طاكسي… لا طاكسي في هذه الظهيرة، لا أحمق يخرج والشمس حارقة، حارقة جدا. لا تسخط يا رجل ولا تبك، الرجال لا يبكون ولا يسخطون، تحمل أوجاعك وانطلق إلى الصيدلية… ها أنت قد وصلت، كل ما تحتاجه قليل من الصبر فقط.
تسلم بكل ما قاله الطبيب والصيدلي تسليما، تعطل عقلك الذي تجهده كثيرا مع الله ولا تتجرأ أن تناقش به طبيبا، تسكت فقط وبين جملة وجملة تقول “وخّا”. قبل وبعد وجبة تتجرع الدواء على مضض ولا شفاء.. لا شفاء.
تعود إلى المستشفى نفسه تنتظر مرة أخرى، تجد طبيبا آخر يسألك السؤال عينه، تريه وصفة زميله في المهنة فيلعنه ويلعن وصفته التي لم يحسن اختيارها، ثم يملأ لك ورقة أخرى.. تزداد أوجاعك، وتنضاف إليها حسرة على وطن يُمكن لغبي أن يصبح فيه طبيبا بشرط أن يكون أبوه غنيا… ثم ها أنت ما زلت تتوجع، وصديقك يلومك “سير للبريفي أصاحبي” وأنت تتساءل ولماذا تدفع الدولة أجور الموظفين إذا كنا سنذهب إلى العيادات الخاصة والمدارس الخاصة…
في العيادة الخاصة تستقبلك شابة جميلة، تتصنع ابتسامة، تمضغ علكة، تطلب منك أداء الواجب قبل أن ترى الطبيب. وها أنت تنتظر وهذه المرة على كرسي في قاعة تتوسطها مائدة عليها مجلات منتهية الصلاحية كلها باللغة الفرنسية، تتصفح إحداها وفضولك أن ترى الصور فقط كتلميذ في الابتدائي، تبتسم “أولاد الذين كايْقطعُو الصور وكايخليوْ غير الكتابة”، بلا شك الصور المحذوفة تفرّج عليها الطبيب أو الممرضة أو هما معا، ثم حكموا عليها بأنها لا تصلح للعموم فقطعوها. ترفع عينيك إلى الجدران وتفرح لأنك لمحت خطا عربيا جميلا ” آية الكرسي، المعوذتان، الإخلاص” هل الطبيب يستغل الدين أيضا، أم أنك فعلا تحتاج إلى رقية شرعية وليس إلى طبيب؟ عليك أن تستعيذ من أصحاب الكراسي، وتتمنى لو أنهم مخلصون في عملهم كما هم مخلصون لكراسيهم.
تقاطع هلوساتِك الصامتةَ الفتاةُ الجميلة، فقد حان دورك لتدخل عند الطبيب، أثار انتباهك سنه، فقد شاب رأسُه لكنه يبدو سليم البنية، أوليس طبيبا!؟ تطمئن وأنت تقول لنفسك “على الأقل هذا مجرب، خبر الطب والحياة، وتعلم في الآخرين قبلك، ثم يراودك السؤال: ماذا لو لم يقرأ شيئا عن الطب مذ تخرج ولم يواكب جديد الأمراض والأدوية؟”.
يبستم الرجل في وجهك ويعطيك شحنات معنوية أنستك أسئلتك المجنونة وأوجاعك أيضا، تتمدد أمامه ليفحص بطنك وصدرك ويسمع دقات قلبك. ثم يملأ لك وصفة أخرى ويشكرك على الزيارة وتشكره على التطبيب وتغادر بأوجاعك وأسئلة لا تنتهي.
وقبل أن تضع رجليك خارج العيادة ترفع عينيك إلى الجدار وتستوقفك لوحة جميلة بخط قرآني “وإذا مرضت فهو يشفين”.
تعليقات الزوار
جميل.