وجهة نظر

ظهور تيارات إسلامية بالمغرب نتيجة لفشل الدولة في الإحاطة بالمجتمع

لقد ظلت نظرة الدولة المغربية و الفئات الممارسة لتدبير أمورها العامة للمجتمع، ظلت نظرة ثابتة منذ الإستقلال، و لم تتغير تغيرا جوهريا، بحيث أنها ترى فيه جسدا ثابتا لم يتطور، و لم يتحرك في إتجاه فرض قواعد تدبير جديد لقيم السلطة، و باتت ترى في تموجاته و اندفاعاته مجرد إنفعالات وقتية، ظرفية، شكلية، ذات بعد مصلحي نفعي غير عميقة و غير مؤدلجة في مطالبها و رغباتها.

منذ الإستقلال و الدولة تشتغل بآليات و وصفات الاستعمار و بعقلية المستعمر، خصوصا في تدبيرها للمجال العام، الشيء الذي تؤكده الملاحظة عند تفحص طرق اشتغال العقل السياسي للدولة مع الفاعلين السياسيين، و التي نجدها تكرر نفس المساطر التدبيرية للسياسة فيما يتعلق بقواعد و معابر إنشاء الأحزاب و الأحزاب المضادة بدون مشروع ثقافي أو سياسي حقيقي، و بالتالي الحفاظ على نفس قواعد إنتاج فاعلين سياسيين “مزورين”، يحاكون نموذج السياسي الحقيقي من حيث الشكل و الإطار المرجعي و الخطابي، في حين أنهم لا يمتلكون مشروعا وطنيا حقيقيا و ليس لهم أي منتوج جديد يغير الواقع العام ليقدموه للمجتمع لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

لقد ظلت السياسة منتوجا حصريا للسلطة، و لم يحدث العكس أبدا، أي إنتاج السلطة من قبل السياسة، على غرار الخطاطات الأجنبية. و من أهم مجالات تدخلها الجبري في التأسيس و التوجيه، هو مجال تدبير المقدس الديني. هذا المجال الذي فرضت فيه وازعا أمنيا، بمعنى الأمن الروحي و المادي من وجهة نظر أحادية، فأغلقته بصفة تامة و نهائية على أي مشروع مختلف أو متنوع لقراءة المرجعية الدينية. يحدث هذا في ظل انفتاح العالم على بعضه البعض، و في ظل ظهور معابر جديدة وفرتها التكنولوجيات التواصلية الحديثة للوصول إلى المعلومة الدينية و إلى القراءات الأخرى للأصول و المخرجات الفقهية الصادرة عن مدارس متعددة، مختلفة، قد تراها فئات من المجتمع أكثر واقعية و أكثر برغماتية في إيجاد الحلول لمختلف العقد العقدية و العملية للتدين، في الوقت الذي أصبح لزاما على الدولة في ظل التحولات الكبرى و المتسارعة التي يعرفها العالم في كل المجالات، خصوصا الثقافية و المعلوماتية، أصبح لزاما عليها فتح المجال الديني لكل توجهاته غير المتطرفة بغية استيعاب رغبات المجتمع المتنوعة عن طريق إحداث آليات للمراقبة و التوفيق بين جميع التوجهات.

الإشكال الكبير ليس مطروحا على مستوى اختيار الآليات أو تجديدها بقدر ما هو مرتبط بالحفاظ على عقلية المستعمر، الذي سعى إبان الحماية إلى علمنة اللغة في جميع إنتاجاته التقريرية و التدبيرية و فصلها عن مرجعيتها الدينية، ليزرع بذورا لتفكيك المؤسسات التقليدية بغية تحللها تدريجيا مع مرور الزمن، الشيء الذي لم يصل إلى مداه بل أعطى نتائج عكسية و خلق عقدا جديدة بعد تغير و تراجع دور العلماء.

فبعدما كان للعلماء عبر تاريخ المغرب و إلى حدود بدايات الإستقلال، بعدما كان لهم دور فعلي و حقيقي في إبداء الرأي في كل ما يتعلق بالسلوك الديني و التدبيري العمومي، بات دورهم اليوم محصورا في أداء وظيفة إدارية تسلسلية رهينة بالهاجس الأمني أمام المنافسة الكبيرة على المستوى العالمي في توجيه السلوك و إيجاد الحلول للمتدينين.
فلم يعد للعلماء قوة و هامش كبير لإقناع العامة على تبني النهج المذهبي الفقهي الذي تتبناه الدولة، ليبحثوا لأنفسهم عن تأطير ديني خارج الحدود بسبب إغلاق الدولة للمجال المقدس، الشيء الذي خلق تيارات إسلامية متنوعة غير منصاعة لقوانين الدولة في هذا المجال.

الدولة قلصت و حددت مفهومها للدين و طرق ممارسته الشيء الذي أخرج للوجود توجهات أخرى تؤطر المجتمع دينيا، و تنتقد تدبير الدولة للمجال المقدس و لممارستها لنوع من “التسيد الدياني” و “الفقهوت الرسمي”، الذي تفرضه من خلال مؤسسات تدبير تدين المجتمع، فكانت النتيجة عدم قدرة الدولة بل و فشلها في الإحاطة بالمجتمع، إحاطة شاملة لكل متطلباته و رغباته و ظهور تيارات جديدة تنافس الدولة في التأطير الديني.

وإذا استمرت الدولة في تبني نظرتها الحالية للمجتمع الذي يبدو أنه رفع وتيرة اشتباكه مع الفاعلين السياسيين “المزورين”، الذين لم يستطيعوا إعطائه ردودا تلبي مطالبه، و مع تطور هذا الاشتباك و وصوله إلى مرحلة الرفض المطلق للسياسي الحالي، عندها قد يكون قد فات الأوان في تقبل تغيير الدولة لقواعد تعاملها مع المجتمع، و تغيير نظرتها لتدبير المجال العام و لأسس تدبيره و عندها سيفرض المجتمع تصوره الخاص للسياسيين الذين يليقون بتطلعاته.

ــــــــــ

باحث في العلوم السياسية.