وجهة نظر

ملاحظات نقدية على آراء د. منار السليمي حول العدوان الاسرائيلي على غزة

تابعت الحوار الذي أجراه الصحفي المقتدر حميد المهداوي مع الأستاذ الجامعي د. منار السليمي في شقه المتعلق بالعدوان الاسرائيلي على قطاع غزة. والأستاذ السليمي، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه، يسجل له أنه دائم الحضور في السجالات السياسية والفكرية المختلفة، التي تشغل الرأي العام الوطني، عكس كثير من “المثقفين” الذين يفضلون الصمت، والانزواء في أبراج عاجية، بعيدا عن هموم الوطن والأمة.

ولخطورة بعض الأفكار التي بثها في هذا الحوار، في تقديري على الأقل، خاصة أنه ردد عدة مرات أنه ينطلق في ما يقوله من خلفيته الأكاديمية لكونه استاذا للعلوم السياسية والعلاقات الدولية، في محاولة لإلباس تلك الأقوال والآراء نوعا من “المشروعية الأكاديمية” ، القريبة من “العقلانية”، البعيدة عن “العاطفة”، لتمريرها في عقل المتلقي بيسر وانسيابة، ودون فحص أو تدقيق، فإنني أسجل عليها أربع ملاحظات على ضوء حقائق التاريخ، وواقع الأحداث، ومقتضيات القانون الدولي، وإليك التفاصيل:

الملاحظة الاولى : صرح د. السليمي أن ” مسؤولية قتل المدنيين في غزة مشتركة بين اسرائيل و حماس”، وهذا تصريح ينطوي على قدر غير قليل من الالتباس، والظهور بمظهر “الحياد” في معركة تاريخية لا تقبل مثل هذا الموقف. ذلك أنه يساوي، ولو عن غير قصد، بين المجرم (اسرائيل) والضحية (الشعب الفلسطيني وقوى المقاومة). ومن حقنا أن نتساءل: هل غاب عن ذهن د. السليمي أن اسرائيل قامت على اقتلاع الشعب الفلسطيني بأكمله من أرضه التي عاش فيها لأزيد من أربعة آلاف سنة، أي منذ العرب الكنعانيين؟ هل غاب عن ذهنه أن اسرائيل لم تُنفِّذ أيَّا من قرارات “الشرعية الدولية” الصادرة ضدها وهي بالعشرات منذ سنة 1948 إلى اليوم؟ هل نسي أن اسرائيل مَحَت من الخريطة، أي من الجغرافية وبالتبع من التاريخ، أزيد من خمسمائة قرية وبلدة ومدينة فلسطينية؟ هل يعلم أن مدينة عسقلان هي مولد ومنشأ الفقيه الكبير والعلامة الأصولي الشهير، (ابن حجر العسقلاني) صاحب أشهر تفسير لصحيح البخاري المسمى ( فتح الباري في شرح صحيح البخاري) الذي يتبرك به المغاربة ويعتمدون عليه كل سنة في شرح صحيح البخاري من بدايته إلى نهايته؟ ألا يعلم د. السليمي أن الضفة الغربية (بالمناسبة تطلق عليها اسرائيل اسما دينيا توراتيا: يهودا والسامرة) التي لا تتواجد بها حركة “حماس” تقتل فيها اسرائيل يوميا العشرات من الفلسطينيين الأبرياء حتى قبل عملية طوفان الأقصى المباركة؟

إن العنف الصهيوني الاستعماري يعود الى أزيد من قرن من الزمان. وهو عنف بنيوي تقوم به “دولة” مدججة بشتى أنواع الأسلحة، وتمارس الاستيطان، والطرد الجماعي، والتمييز العنصري، كما تقتل الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ. وبالتالي ألا يفرق د. السليمي بين إرهاب “دولة” وهو أخطر أنواع الإرهاب وبين ما تمارسه الفصائل الفلسطينية من مقاومة مسلحة مشروعة بمقتضى القوانين الدولية؟

في هذا الصدد ليسمح لي أن أذكره بقصة معبرة عن مثل هذا الخلل في التفكير أوردها المفكر المعروف نعوم تشومسكي في بعض كتاباته، تقول القصة: وقع أحد القراصنة في أسر الاسكندر الأكبر، فسأله الاسكندر: ” كيف تجرؤ على إزعاج البحر؟ كيف تجرؤ على إزعاج العالم بأسره أيها اللص؟ فكان جواب القرصان : ” لأنني أفعل ذلك بسفينة صغيرة فحسب، أُدْعَى لِصَّا، وأنت، الذي يفعل ذلك بأسطول ضخم، تُدْعى امبراطورا” !

لذلك فإن أكبر عملية تزييف للوعي تتجلى في المساواة بين المجرم (اسرائيل) و الضحية (حماس وفصائل المقاومة وكل الشعب الفلسطيني المحتلة أرضه).

الملاحظة الثانية: عَابَ د. السليمي على المقاومة ما مفاده أن حماس كان يجب عليها أن تنظر إلى العواقب قبل الإقدام على عمليتها البطولية (طوفان الأقصى). والحال أن هذا، في رأيي، خطأ غير مستساغ إذا صدر عن متخصص في العلاقات الدولية. كيف ذلك؟ أولا: السؤال الذي يجب أن يُطرح في البداية، على بداهته، هو: مَن هي”حماس”؟. حركة المقاومة الإسلامية تُعرِّف نفسها بما يلي: ” حماس هي حركة تحرر ومقاومة، وطنية، فلسطينية، إسلامية، هدفها تحرير فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني” وتؤكد أن ” الصراع مع المشروع الصهيوني ليس صراعا مع اليهود بسبب ديانتهم. وحماس لا تخوض صراعا ضد اليهود لكونهم يهودا، إنما تخوض صراعا ضد الصهاينة المحتلين، المعتدين، بينما قادة الاحتلال هم من يقومون باستخدام شعارات اليهود واليهودية في الصراع ووصف كيانهم الغاصب بها ” (وثيقة المبادئ والسياسات العامة التي أصدرتها حماس في فاتح مايو 2017) .اذن حماس حركة تحرر وطني، وُلِدت من رحم الشعب الفلسطيني التواق إلى الحرية، والاستقلال، والكرامة. ثانيا: هذا التعريف يقتضي أنَّ ما يجري على جميع حركات التحرر في العالم من قوانين، وأنظمة دولية، يجري على حماس، ومعلوم أن تلك الحركات تنطلق دائما من ظروف محيطة تكون فيها موازين للقوة المادية ( أجهزة الدولة، جيوش، مؤسسات، موارد …) مختلة لصالح المحتل، ومع ذلك فإن الشعوب بفطرتها البريئة، وحسها السليم، ووعيها المتجذر، تندفع وراء المقاومة، غير مبالية بالثمن الذي ستدفعه مَهْما كان غاليا. وهنا يلعب الايمان بعدالة القضية دوره الحاسم في انتصار حركات التحرر في نهاية المطاف رغم اختلال ميزان القوة وفداحة التضحيات. وكم كان الصحفي المهداوي موفقا لما طلب من د. السليمي أن يعطيه مثالا واحدا عن حركة مقاومة حررت وطنها دون تضحيات جسام !. ثالثا: لا يمكن القول بالمساواة بين (حماس) و (اسرائيل) حتى من منظور مبادئ القانون الدولي وقرارات “الشرعية” الدولية ذات الصلة، على سبيل المثال نص القرار 3034 الصادر بتاريخ 18/12/1972 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في إحدى فقراته على ما يلي: ” تُعيد – أي الامم المتحدة – تأكيد الحق الثابت في تقرير المصير والاستقلال لجميع الشعوب الواقعة تحت الاستعمار، وأنظمة التمييز العنصري، وأنواع السيطرة الأجنبية الأخرى، وتَدعم نضالها خصوصا نضال الحركات التحررية وذلك وفقا لأغراض ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة وسواه من قرارات أجهزتها ذات الصلة بالموضوع” فهذه الفقرة واضحة تمام الوضوح في أن الأمم المتحدة لا تعترف بنضال حركات التحرر فحسب بل تؤكد على أنها تدعم شرعية هذا النضال. وكان الأجدر بأستاذ أكاديمي أن يكون في جانب القانوني الدولي الداعم لنضالات حركات التحرر والمقاومة مثل حماس.

الملاحظة الثالثة- بين الجناح العسكري والجناح السياسي: يعيب د. السليمي على قادة حماس السياسيين أنهم يقيمون خارج قطاع غزة، ويُصْدرون من هناك الأوامر التي يكتوي الشعب الفلسطيني – بزعمه – بنارها في الداخل. وهذا الرأي ينطوي بدوره على مغالطات يصعب قبولها نظريا وواقعيا، فمن الناحية النظرية، تعتبر هذه العلاقة طبيعية عند كل حركات التحرر، و يشرحها المفكر الاستراتيجي منير شفيق بقوله: ” أما إذا تناولنا العلاقة بين (العمل السياسي) و (العمل العسكري) بالنسبة لقضية فلسطين فالجواب يتوقف على الهدف الذي تُريد تحقيقه أو على فهمك لطبيعة الصراع. بالمناسبة إن العمل السياسي والعمل العسكري بالنسبة إلى كل طرف يسيران معا نحو الهدف المنشود. فحتى عندما تقول إنك تريد تحرير فلسطين باستخدام الجهاد المسلح أو حرب الشعب أو الكفاح المسلح أو الحشد العربي العسكري فهذا أمر سيصحبه ويجب أن يصحبه عمل سياسي على مختلف الصعد، وفي مختلف المواقع، على جبهتك وعلى جبهة عدوك، وعلى مستوى عربي، وإسلامي، ودولي، رسمي وشعبي. فليس هناك عمل عسكري بلا هدف سياسي وبلا تعبئة سياسية إلا عند قطاع الطرق والقراصنة. أما عند مختلف الأطراف الأخرى فهناك دائما علاقة عضوية بين عملها السياسي وعملها العسكري إذ لا عمل عسكري بلا عمل سياسي” انظر كتابه (من اتفاقية اوسلو الى “الدولة ثنائية القومية ” – ردود على ادوارد سعيد وعزمي بشارة وآخرين دار الشروق عمان الاردن ط 1/1999 ص 116)، ولذلك فوجود جناح سياسي وجناح عسكري من البديهيات في كل استراتيجيات حركات التحرر في العالم، ومن ثم ليس يعيب حماس أن يكون لها جناح سياسي بقيادة سياسية معروفة للعالم أجمع. هذا من الناحية النظرية أما من الناحية الواقعية فالجميع يعلم أن اسماعيل هنية، الزعيم السياسي الحالي لحماس، كان يقيم بداخل قطاع غزة إلى سنة 2017 تاريخ انتخابه رئيسا جديدا للحركة بدلا من خالد مشعل. وحينئذ فقط غادر القطاع لممارسة مهامه السياسية على مختلف الصعد، وفي مختلف المواقع. أما خالد مشعل، الرئيس السابق، فهو وإن كان يقيم خارج القطاع فإن ذلك لم يمنع الصهاينة من محاولة اغتياله بالسم وهو في ضيافة ملك الأردن السابق، على يد عميل للموساد دخل الأردن بجواز سفر كندي مزور تحت اشراف نتانياهو. الخلاصة أن قادة حركات التحرر، سياسيين كانوا أم عسكريين، معرضون للفتك بهم من الاستعمار في أي لحظة.

الملاحظة الرابعة- المقاومة والإرهاب في القانون الدولي: جميع أعمال العنف ضد المدنيين الخاضعين للاحتلال يتحمل مسؤوليتها الاحتلال نفسه بمعايير القانون الدولي. و بما أن هذا موضوع عالي التخصص فقد رجعت فيه إلى أحد ذوي الاختصاص، وهو الدكتور شفيق المصري الذي يعمل أستاذا للقانون الدولي في الجامعتين اللبنانية والامريكية، يقول: ” تحكم اتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949 (حماية المدنيين الواقعين تحت الاحتلال) مسألة الاحتلال، والقوة القائمة به، ووضع المدنيين تحت هذا الاحتلال. ووفقا لهذه الاتفاقية:

– يتمتع الأشخاص المدنيون الواقعون تحت الاحتلال بحق أصيل في حماية أشخاصهم، وأسرهم وأملاكهم .. الخ. وتشمل هذه الحماية أيضا حرية ممارسة معتقدهم الديني، ورأيهم السياسي، وعلى هذا الأساس تَحظُر الاتفاقيةُ على القوة القائمة بالاحتلال القيامَ بأي عمل من أعمال العنف أو القتل بجميع أنواعه بحق هؤلاء. كذلك تحظر أعمال الخطف، والحجز الاعتباطي، والإبعاد، والتشريد، والترحيل، وتشتيت العائلات، وإهانة الكرامات الشخصية. وتُصبح، بالتالي، القوةُ القائمة بالاحتلال مسؤولةً أمام القانون الدولي لدى مخالفتها أحكام هذه الاتفاقية.

– أما إذا أخلت القوةُ القائمة بالاحتلال بهذه الواجبات أو انحرفت عنها. فإن من حق السكان المدنيين أن يثوروا ضدها إلى درجة العصيان المدني الشامل واللجوء إلى السلاح. وإذا ثار السكانُ المدنيون ضد المحتل واستطاعوا أن يطردوه بالقوة من أرضهم، فإن هذا الاحتلال يعتبر منتهيا باعتراف القانون الدولي. والأمر نفسه يحصل عندما تستطيع القوى النظامية المسلحة للدولة المغلوبة على أمرها طرد المحتل. ثم يعلق د. شفيق على ما ذكر قائلا: ” وهكذا يميز القانون الدولي بين الإرهاب والمقاومة ويعتبرها استثناء مشروعا من ممارسة العنف لأغراض سياسية. وكان من الأجدى بالنسبة إلى الدول العربية والإسلامية أن تبرز هذا الاستثناء وتؤكد شرعيته دون (أو على الأقل قبل) تكرار المطالبة بتعريف الإرهاب” ( في دراسة له بعنوان ” الارهاب في ميزان القانون الدولي” – مجلة شؤون الاوسط شتاء 2002 ص 55).

هذه أربع ملاحظات أرجو أن يتسع لها صدر الاستاذ السليمي، حاولت إبرازها قدر المستطاع إنصافا للمقاومة الفلسطينية، ورفضا للمساواة بين المجرم (اسرائيل) والضحية ( الشعب الفلسطيني) رغم كل الذي حدث ويحدث من همجية صهيونية لا مثيل لها في تاريخ البشرية جمعاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *