منتدى العمق

من كبر في بيت بلا باب.. لن يرد في الانترفون

خريفنا يدنو من الأبواب، ومنزل أمي مازلتُ أذكُر أنه كان بباب خشبيّ، كلما صفعته الرّيح التي تأتي من غرب بيتنا، تسقُط منه أغصانُ الغابة المجاورة لنا، كأنّ لعنةً ما حلّت بنا منذُ أن قطعنا أشجار البلّوط كي نقِي بهائمنا ودجاجاتنا ونحمي أمتعتنا من التلف، لم يكن في نية أبِي رحمه الله أن يحمينا وكنا أطفالاً، لأنه عودنا منذ أن تعلمنا النطق أن نبيت في البيادر وقت الحصاد بقرب كثبان الحبوب والتبن حتى لا يسرقنا مراهقو الدّوار كما يسرقون الخروب والخرفان وبيض الدجاج.

تداعى باب منزلنا، وانكشفت عورة صندوق أمي الخشبي، وانكشف حسيرنا وأواني مطبخنا المشيد من الحمري والتبن، حاولتْ أمي أن تضع ستارا من جلبابها القديم ذو اللون الشاحب الذي يشبه سحناتنا، وضعته على عتبة الباب وشدته بخيط أخضر إلى الأعلى وكان كلما غازلته الريح تطاير وننكشف ثانية، من حسن حظنا أن أبي كان في أرذل عمره، لم يعد يحلق شعر عانته، ولم يعد يمارس حميمايته، مازلتُ أذكر أن أبي كان يحلق “شعرته” بالمقص فوق تل صغير بعيدا عن أعيننا، لقد لمحته يوماً صدفةً، وفهمتُ أنها عاداته، وفهمتُ منذ تلك الصورة الغريبة، لماذا لم ينشغل أبي بإصلاح باب منزلنا.

كان سقف بيتنا من الزنك، أو القصدير، حدث ليلةً أن هبت رياح قوية لدرجة أن صفحة من القصدير اقتعلت فسقط بعض الحجارة الكبيرة وسط البيت ومن حسن الحظ أن لا أحد أصيب، أخي عزيز كان يهرول في الغابة المجاورة لبيتنا، وكان الليل وقتها حالكا والرياح هائجة لا تستحمل، أصيب برعب مازال يعاني منه ليومنا هذا بعد أن صدمته صفحة القصدير بقوة كانت الرياح قد حملتها من على سقفنا. كلما اجتمعنا لماما نتذكرها فننفجر ضاحكين.

قضينا طفولتنا هكذا، كان أبي يداوي نعاجه ويجبر كسرها، يغازل حملانه، وجحشه، وكنا نحن في عز طفولتنا تُكبِّرنا الريح وترِّبينا ظلمات الليل وفي النهار كنا نرعى الغنم. أخي مصطفى أذكر يوماً أني لم أرهُ أسبوعا كاملا، لدرجة أننا افتقدناه، أبي وحده كان يعرف الحكاية، لقد عدَّ بهمهُ ذات ليلة شتوية فنقص القطيع واحدة، ومنذ تلك الليلة ومصطفى مطرود من البيت أسبوعا كاملا، قضى ليالي القرّ في كهف في الغابة.

عشرون سنة مرت على تآكل باب بيتنا الخشبي، وكلما دنا الخريف من بابنا تصطف كل الذكريات أمامي، ويكبر الحزن، لا شيء تغير، ما يزال البيتُ كما هو، حزينا بأهله، وعلى من فُقدوا، صامداً في وجه كلّ الرياح الغربية، ممانعاً لأننا مازلنا فيه أطفالا. كلما انسلخنا منه عدنا إليه، نعود إليه وننام دون باب خشبي كما كنا صغارا.

من كبُر في بيت بلا باب لن يردّ فيالانترفون.