وجهة نظر

صناعة الخصوم أوتبرير سياسة البطش

الخصومة ظاهرة عدوانية نشأت منذ الأزل، ومنذ بداية الخلق. وهي تركة متجذرة في التاريخ، وتشكل عنصرا من عناصر بناء الهوية؛ حيث تصبح ذريعة لرفع شعار الدفاع عن الوطن وعن القيم والقومية، أو حتى الترويج للانفتاح والحداثة. أما البطش؛ الوجه الأخر للعملة فهو أيضا ظاهرة قديمة قدم الشمس والأرض، وصفة إنسانيةوخروج عن السنن الإلهية على وجه الأرض، هو موروث متجدر في الماضي تتجلى مظاهره في الظلموسلب الحقوق، وفي الاستعباد والاستبداد، وتتمثل نتائجه في فقدان التوازن الاجتماعي والأخلاقي، وسيادة الفساد في الارض.ولكن عندما تصبح الخصومة صناعة تشكل إحدى أهم مقومات الاقتصاد القومي، والبطش إحدى أهم آليات تنمية هذه الصناعة؛ فذلك شأن آخر.

إن الحديث هنا عن الخصومة والعداء، وعن البطش والظلم ليس حديثا عن الحرب مقابل الأمن، أو عن الخطط العسكرية للفتك بالأعداء مقابل محادثات السلام والتسوية بين المتحاربين. إن الأمر هنا يتعلق بصناعة خصم في الرأي والتفكير والثقافة والايديولوجيا؛ ثم نلجأ إلى سلاح نظرية المؤامرة للفتك به. نلجأ إليها كلما اقتضت الحاجة إلى ذلك، عند الطلب وحسب الأوضاع، بها نفسر كل شيء يصعب تفسيره، بها نجيب على كل الأسئلة الغامضة والمستعصية. نظرية المؤامرة نبرر بها الهزائم، بها نلبس العدو كل الأوصاف الدنيئة والمتناقضة أحيانا؛ فقد ننعته بالتطرفحينما نريد وبترويج المخدراتمتى نشاء، وبالتالي يصبح الشيء ونقيضه معقولا ومنطقيا.

ولا مانع لحرب الأعداء أو حتى الأصدقاء والتغلب عليهم أن نتحالف مع الشيطان، فالغاية تبرر الوسيلة، والكذب مشروع عند الاقتضاء، كما تبرر الاحتجاجات أحيانا أعمال الشغب والعنف والتخريب، وإلا فما هي دلالة أن يتولى مبدع هذه النظرية، بعد صناعة الخصوم، مهمة الجلد والتنكيل بهم؟

وما معنى أن تصنع غريما في السياسية، ثم تبرر لنفسك وللآخرين أن تفتك به بضمير مرتاح؟
ما معنى أن تختلق منافسا إيديولوجيا، ثم بعد ذلك تستبيح تدميره بنفس مطمئنة؟
ما معنى أن تزرع ثقافة النزاع، وتوظف بعد ذلك خطابا مؤلما أو قلما لاذعا أو دناءة فكرية؟
ما معنى أن تفتعل مخالفا لا مختلفا في الرأي، وتسلط عليه وسائل الإعلام، والسلطة القانونية، والمثقفين المرتزقة، ورجال الدين أحيانا لرميه بالعار وشيطنته؟

ما معنى أن تسندتعريفامخالفا غير ملائم للغريم السياسي، ثم تستثمر ضده معجم الكيل بمكيالين؟
ما معنى أن تلون الآخر بلون قاتمأشد من السواد، ثم تجعله كبش فداء أو قربانا بحجة الحفاظ على وحدة الجماعة أو المجتمع؟
ما معنى أن تزرع في النفوس، ضد غريمك السياسي، هاجس الخيانة والتآمر، وتستثمر لإدانتهمبدأ فرق تسد؟
ما معنى أن توهم الجماعة أن العدو قوة خفية، لا تُرى بالعين المجردة؛ مثلها مثل الأرواح الشريرة، ثم تسخر جميع قواك ما ظهر منها وما بطن؛ فتخبط خبط عشواء؟

ما معنى أن تهيئ الرأي العام، باسم المصلحة العامة، لتقبل أسطورة العداء للجماعة، وبعد ذلك تستصدر فتوى من مراكز الفكر والدراسات الاستراتيجية لنعته بالخيانة؟
ما معنى أن تستدرج معارضك في الرأي حتى يتنحى بعيدا؛ مثل الشاة القاصية، ثم تبعث إليه الذئاب الضارية لتنهش جسده المنهك؟
ما معنى أن تبتكر لمنافسك تسميات أخرى؛من قبيل المتطرف والإرهابي والعنيف وحتى ثوري ومناضل، ثم تسلط عليه سياط الإعلام والمثقفين؟
ما معنى أن تتلذذ وأنت تدع غريمك يعيش أبدا، حتى تجعله مثل المرض المزمن الذي يصيب جسم العليل، فتتحول مآسي هذا المريض إلى مصدر لاغتناء الطبيب؟

ما معنى أن تجعل من بدعة إنتاج الخصوم صناعة وافتعالا للأزمات، أو تغييرا لموضوع النقاش كما في قاموس المتحاورين، أو نقل اللعب إلى رقعة ملعب الخصم، والخصم حمال أوجه؟
ما معنى أن تجعل من خيار خلق المنافسين اختبارا لنزوة الشعور بالتفوق، وتحقيقاللذات والوجود؟
ما معنى أن تختلق من ينازعك في الهوية والقيم، لتشرعن، بعد حين،قانون العنف والتنكيل به؟

إن صناعة الخصوم هي افتراضوهميلوقوع الخطر، واستباق لرفع تهديد هذا الخطر، هي صفة ملازمةللشعوب البدائية وما قبل الحضارة والمدنية، هي لحظة بطش الجميع ضد الجميع، وبشتى الوسائل، هي قانون الغاب والصراع من أجل البقاء؛ هي أن أكون أو لا أكون.

إن خلق خصم سياسي حالة مرضية راسخة في المخيال الفردي والجمعي والمؤسساتي أيضا؛ مثلها مثل إنتاج عدو عسكري بل هي أشد.غير أنه عندما تنتهي الحروب غالبا ما يكتشف المتناحرون أن المحصلة النهائيةأصبحت صفرا؛بل أسوء مما كانت عليه قبل البداية. فالحروب تكون دائما لحظات غير طبيعية وحالات غير سوية؛ ومن ثم تغدو أسوء وأفشل الحلول. وكذلك يكون البطش بالخصوم في السياسة.. وكذلك تغيب الديمقراطية.. وكذلك يصبحالصراع منفتحا على جميع الاحتمالات.

لماذا يتم اللجوء إلى بناء الذات والوطن إلى النزاع وإلى العنف وإلى البطش؛ أو كما يقول دوركايم “حين يعاني المجتمع، يشعر بالحاجة لأن يجد أحدا يمكنه أن يعزو إليه ألمه، ويستطيع أن ينتقم لخيبات أمله”. لماذا يلجأ إلى ذلك بدل البحث عن التوافق وتقليص أسباب النزاع والصراع، ومن ثم الاحتكام إلى الآليات الدستورية؟