وجهة نظر

غزة…وأسطورة الغرب المتقدم

لا نعدو الصواب إذ نؤكد حقيقة مفادها أن عملية “طوفان الأقصى” التي انطلقت شراراتها منذ السابع من أكتوبر2023م على يد مجاهدي حركة المقاومة الإسلامية “حماس” تعد محطة متميزة حاسمة في تاريخ القضية الفلسطينية خاصة، وفي تاريخ الأمة العربية والإسلامية عامة، وذلك لاعتبارات أربعة على الأقل:

_1        إنها أكدت للعالم أجمع أن “القضية الفلسطينية” ما تزال حاضرة بقوة في ساحة العلاقات الدولية، حاضرة باعتبارها بؤرة صراع شرس بين شعب أعزل سُلِبَتْ منه أرضه، واستبيحت حرماته، وَأُهْدِرَتْ حُقُوقُهُ، وكيان غاصب متسلط مُتَجَبر مستكبر تم استنباته بكل أساليب المكر والخديعة والقوة والجبروت في قلب العالم العربي منذ 1948م.

_2           إنها أثبتت للعالم أجمع أن الشعب الفلسطيني هو صاحب الحق، وأن إسرائيل كيان ظالم مغتصب، وصاحب الحق متشبت بحقه حد النخاع، وغير مستعد للتنازل عنه قيد شعرة، بل إنه يقدم روحه فداء هذا الحق، والدليل على ذلك قوافل الشهداء التي ترتقي يوميا في ساحة الفداء والشهادة، ولأن عقيدة الشهادة راسخة في الدماء، منحوتة على أروقة شرايين الأفئدة، منقوشة على صفحات الْأَجْبِنَةِ، فإن عبارة “الحمد لله” تبقى أكثر العبارات ترددا على أفواه الفلسطينيين وهم مشاريع شهادة، وعلى ألسنة ذويهم بعد استشهادهم، العبارة التي أبهرت كل المتتبعين وكل شعوب العالم، والتي كانت مدعاة للتساؤل عن أسرار هذا الدين الذي يعطي كل هذا اليقين، وصارت من ثمة مفتاحا لأن يدخل الناس في الإسلام أفواجا.

_3 كما أنها مناسبة تاريخية قوية للتشكيك في شرعية كل المؤسسات الدولية التي أُنْشِئَتْ بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تشرف على قيادة دول العالم وعلى تدبير شؤونها: مجلس الأمن، الأمم المتحدة، عصبة الأمم، محكمة العدل الدولية… كما أنها مدعاة للتساؤل عن جدوى كل الجمعيات والمنظمات التي تعنى بحقوق الإنسان: منظمة مراقبة حقوق الإنسان “هيومن رايتس ووتش”، مراسلون بلاحدود، اللجنة الدائمة المشتركة بين الوكالات “IASC”…

_4إنها مدعاة عميقة لتصحيح كثير من التمثلات الخاطئة، ولإعادة النظر في كثير من المفاهيم المتداولة: التقدم، التخلف، حقوق الإنسان، الديموقراطية، الشرعية، العقلانية، اللاعقلانية، الاستقلالية، التبعية، الحداثة… بل وفي كثير من المسلمات الحضارية ذات البعد التاريخي: عصر النهضة، عصر الظلمات، عصر الأنوار، عصر الاكتشافات، الحرب العالمية الأولى، الحرب العالمية الثانية…وهي كلها مفاهيم ومصطلحات مرتبطة أشد الارتباط بأوروبا، ومع ذلك يتم تعميمها على كل شعوب العالم بشكل فيه الكثير من الاستعلاء والاستكبار والإحساس بالتفوق والمركزية.

إن رهان هذه الورقة هو تسليط بعض الأضواء على مفهوم من أكثر المفاهيم انتشارا وتداولا في الأوساط الأكاديمية والإعلامية على السواء، إن مفهوم “التقدم” الذي بلغ من تداوله حد أنه أصبح من البديهيات التي لا تقبل النقاش، هكذا صار الحديث عن “الغرب المتقدم” أمرا بديهيا، وحكما قطعيا غير قابل للطعن ولا للاستئناف، والواقع أن هذا الحكم ينبني على مغالطة كبرى وجب تصحيحها ونفض الغبار عنها بكل الوسائل المتاحة حتى تنكشف الحقيقة جلية واضحة بلا مساحيق، وبلا عمليات تجميل، وبلا خدع بصرية، ذلك أن الغرب أشاع نظرية مقياس التقدم والتخلف على أساس اعتبار نموذجه ممثلا للتقدم، واعتبار نماذج البلدان الإفريقية والأسيوية والأمريكية اللاتينية نماذج للتخلف، ولم يقصر ذلك على الأسس العلمية والصناعية والتقنية ومستويات المعيشة، وإنما مدها إلى الأفكار والتمثلات والأخلاق والقيم ومكونات الشخصية، فاعتبر نموذجه معيار التقدم، وأخذ يقيس عليه النماذج الأخرى التي ستعتبر متخلفة بالضرورة مادامت وحدة القياس هي النموذج الغربي.

أعتقد جازما أن هذه الحرب القذرة التي تشنها إسرائيل مدعومة بكل دول الغرب “المتقدمة”، ضد سكان غزة، كفيلة بفضح زيف هذا الحكم القيمي وخطئه الفاحش،  لاعتبارات أربعة على الأقل:

1_المجازر الوحشية التي ترتكبها الآيادي الآثمة يوميا على مرآى ومسمع من كل دول العالم، مجازر تسعى جاهدة لإبادة الشعب الفلسطني عن بَكْرَةِ أبيه، في ضرب سافر لكل المواثيق والعهود الدولية، ويقدر عدد الشهداء الذين حصدتهم آلات الدمار الإسرائية إلى حدود كتابة هذه الأسطر [16 يناير 2024م] 24 ألفا و285 شهيدا، و61 ألفا و154 مصابا منذ 7 أكتوبر الماضي، وهو عدد يعبر عن قمة الوحشية والهمجية.

_2تكالب كل دول الغرب على هذه “الفئة القليلة”من الناس، وانخراطهم المعلن في عملية دعم هذا الإجرام ماديا ولوجيستيكيا ومعنويا، هكذا طفقت كل “الدول العظمى” بلا استثناء تبذل قصارى جهدها في نصرة الكيان اللقيط الغاشم: الولايات المتحدة الأمريكية ببوراجها الحربية وترسانتها العسكرية اللامتناهية، وفي فلكها تدور كل الدول الأوروبية: ابريطانيا، ألمانيا، فرنسا، إيطاليا… وهذا الإجرام العلني البشع ليس أمرا مستغربا ولا طارئا على هذه الدول، بل إنه استمرار لسلاسل المجازر التي ارتكبتها في حق الشعوب المستضعفة منذ القرن السادس عشر، أي منذ انطلاق الوحش الأبيض من عقاله، فهناك أبحاث تقدر الضحايا من الأفارقة خلال الثلاث مائة عام الممتدة من 1600 إلى 1900 بأكثر من مائة مليون ضحية بين مستعبد وقتيل في المعارك، أو من السياط والتعذيب والاختناق في أقبية السفن التي تمخر عباب المحيط الأطلسي، وتقدر بعض الإحصاءات أن عدد الهنود الحمر الذين أبيدوا في عصر “النهضة” يفوق مائة مليون إنسان.

3_يواكب هذا الدعم الحربي الإجرامي المعلن، سعي غريب لقلب الحقائق وتزوير المشاهد، فجرائم إسرائيل دفاع مشروع عن النفس، ومقاومة حماس إرهاب يجب أن يُؤَدَّبَ أصحابه، وهو المشهد الذي تكرر مرارا وتكرارا لعل أشهرها في تاريخنا الحديث الحرب الأمريكية على العراق، الحرب التي كانت في ظاهرها دفاعا عن الشرعية الدولية، وسعيا لحماية الشعب من تسلط الحاكم الديكتاتوري، وللتخلص من أسلحة الدمار الشامل، وفي عمقها حربا حضارية استئصالية حقودة ضد الإنسان، ضد التاريخ والحضارة ، ضد المستقبل، وضد امتلاك الدول العربية لمشروع علمي.

4_السقوط المدوي لكل الشعارات الرنانة التي طالما تبجح بها الغرب المنافق، وفضح منطق ازدواجية المعايير التي تعتبر سمة مميزة لهذا الغرب، فالغرب الذي يدافع باستماتة عن حقوق الأقليات أيا كانت مطالبهم، ويدافع عن حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، ويحتضن مئات التنظيمات التي تدافع عن حقوق المرأة، وعن حقوق الطفل، وعن حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، بل وعن حقوق “الحشرات” وحقوق “الكلاب” وباقي الحيوانات، هو نفسه الذي ينتهك كل حقوق الإنسان الفلسطيني “رجالا، ونساء، وأطفالا” على رؤوس الأشهاد… هذا الغرب الذي يؤمن بالحرية بمختلف صورها ومشاهدها: حرية التفكير، حرية التعبير، حرية التملك، حرية التجول… هو الذي يغتصب حرية الإنسان الفلسطيني ويحكم عليه بالمكوث في سجن محاصر يسمى “قطاع غزة”، هذا الغرب الذي يقيم الدنيا ولا يقعدها وهو يدافع عن “الديموقراطية” و “العقد الاجتماعي” و”المجتمع المدني” و”حقوق المواطنة” و”سيادة الشعب” و”الدستور وفصل السلط” و”دولة القانون”… تبين بالملموس أنه يكيل بمكيالين، وأنه يتحرك بمنطق “حلال علينا، حرام عليكم”…

خلاصة القول إن عملية طوفان الأقصى التي بادرت بها حركة حماس، والتي كانت شرارة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة تشكل مناسبة لإعادة النظر في الحكم القيمي الشائع عن الغرب، “الغرب المتقدم”، التقدم المنبني على معيار عنصر القوة وتنازع البقاء، هذا الطراز من المعايير كان في جوهر النظريات التي سوغت تحطيم الإمبراطورية العثمانية، وانتهاك حرمات الدول الإفريقية والأسيوية والأمريكية المتخلفة التي تشكل قاعدة الاستبداد الشرقي، وإدخالها جنة الحضارة “المتقدمة” التي هي حضارة الغرب، هذه الحضارة التي تعتبر حضارة امتهان كرامة الإنسان واستعباد الشعوب بل إبادتها إذا اقتضى الأمر ذلك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • مغربي حرّ.
    منذ 3 أشهر

    يا أخي، الشعب الفلسطينيّ في غزة يُباد بِأسلحةٍ أمريكيّة، شُهداء و جَرحى بالآلاف مُعظمهم من الأطفال و النساء و العجَزة، و تدمير 80% من البنية التحتيّة لِغزة، بالإضافة إلى الحصار التّامّ على القطاع بِمنع دخول الأغذية و الماء و الدواء و الوَقود و غيرها من مُستَلْزمات الحياة، لقد ساهَمت جنوب أفريقيا في الضّغط على الكيان من أجل إيقاف حربِه الوَحشيّ على الشعب الفلسطينيّ من خلال رفع دعوى لدى محكمة العدل الدّولية و اتِهام إسرائيل بارتكاب جرائيم الإبادة الجماعيّة في حق الشعب الفلسطينيّ في غزة، في حين أنّه من المَفروض أنْ تكون "الأنظمة العربيّة" هي السبَّاقة إلى رفع هذه الدعوى،. هنا تتّضح الرؤية و ينكشِف المستور و يُرفَع الغِطاء.. فالبلدان العربيّة لمْ تَقُمْ بأيِّ شيء تُجاه الشعب الفلسطينيّ في غزة المَنكوب المُباد و المُحاصَر من كلّ الجِهات، لقد فرضت إسرائيل مَنْعا كامِلاً على دُخول مُساعَداتٍ إلى غزة، من دواء و غِذاء و وَقود و أغطيَةٍ و غيرها من مُستلْزمات الحياة الآدميّة، و لم تستطِع الدول العربيّة مَجموعةً فكّ هذا الحصار و لمْ تَقْوَ على تحدّي الكيان الإسرائيليّ، رغْم "قِمَّتِهم" في الرياض التي تمخَّضت عن بيان من 31 بنداً يتضمّن إدخال المُساعدات إلى غزة، إلّا أنّ ذلك لمْ يجِد سبيلَه إلى التنفيذ، عِلْماً أنّ إدخال هذه المُساعدات يحتاج إلى جُرْءَةٍ و شَجاعةٍ و ذلك من خلال الحِمايَة العربيّة للقوافِل منذُ دُخولِها من معبَر رَفَح "المصريّ" حتّى وُصلِها إلى داخل غزة. المُقاوَمة الفلسطينيّة هي التي رفَعت رُؤوسَ الشعوب العربيّة و الإسلاميّة عالياً بِبسالَتِها و شَجاعَتِها و صُمودِها في وَجه الاحتلال الإسرائيلي بِتكْبيدِ جيشِها "الذي لا يُقهَر" خسائرَ فادِحَةً في الأرواح و العتاد، مِمّا أبْهَر العالَم بأسرِه و جعلَ الكيانَ الإسرائيليّ مَرعوباً و مَهلوعاً، و أخذَ يُفكِّر جادّاً في طريقةٍ يَخرج بها من أوحال غزة التي وَضَعَ نفسَهُ فيها. أمّا بعض البلدان العربيّة فقدِ اكْتَفت بالدّخول في "وَساطاتٍ" فارِغة بين حماس و إسرائيل و كأنّها مُحايِدة و لا تَهُمُّها القضية الفلسطينيّة في شيء..

  • أبو وصال
    منذ 3 أشهر

    سلام الله عليك. لدي نلاحظة مثيرة للانتباه سادتي الكرام، أنا خالد ناصر الدين صاحب هذه المقالة المعنونة ب :"غزة... وأسطورة الغرب المتقدم" استغربت كون هيئة تحريرجريدة "العمق المغربي" نسبت هذه المقالة لكاتب آخر اسمه عبد اللطيف بروحو وألغت اسمي تماما، لذلك أدعوكم إلى تصحيح هذا الخطأ عاجلا ... وللإشارة فقد سبق للجريدة أن نشرت لي مقالة ولم توفق في وضع ثورتي في مقدمة المقالة، بل أثبتت صورة شخص آخر ... أرجو تصحيخ هذه الأمور التقنية ... تحياتي ...