سياسة

عائدون.. عليلوش يتذكر “حفرة الرابوني” و18 سنة بسجون الجزائر (الحلقة الثالثة)

لم يكن الشاب عدي عليلوش ذي العشرين ربيعا يدري وهو يتقدم بطلبه للانضمام إلى القوات المسلحة الملكية للدفاع عن حوزة التراب الوطني، سنة 1975، أنه سيؤدي فداءً للوطن جزءا من عمره وحريته على مدى 25 عاما من الأسر في سجون مرتزقة البوليساريو والجزائر…هناك سيذوق مختلف أنواع وصنوف التعذيب، وسيصل الى مرحلة فقد فيها الأمل في الحياة والعودة إلى أرض الوطن، بعدما شاهد المئات من زملائه يموتون جوعا أو تعذيبا أمام عينيه.

ولد عدي عليلوش، سنة 1955 ببلدة “النقوب” المعروفة بالقصبات و واحات النخيل بإقليم زاكورة،و التحق -كما سبقت الإشارة- بالقوات المسلحة الملكية في عام 1975، أثناء المسيرة الخضراء. وقضى بضعة أشهر في التدريب والتكوين العسكري بورزازات، ليتم إرساله بعد ذلك إلى الصحراء المغربية، حيث عمل في طانطان والسمارة والعيون. وما لبث أن وقع في الأسر رفقة ثلاثة من زملائه سنة 1976 ، أي بعد عام واحد فقط من انضمامه للجيش المغربي.

الحلقة الثالثة: الطريق إلى الجزائر

رغم كل ما ناله عليلوش وزملاؤه من ضرب ولَكْم ورفس خلال التحقيقات، إلا أن ذلك لم يشف غليل جلادي مرتزقة البوليساريو، حيث طُلب منهم حفر خندق كبير يتسع لشاحنة صهريج ماء يطلقون عليها “كوبا” لإخفائها عن أنظار طائرات الاستطلاع المغربية، في حين كانوا يخفون سيارات “لاندروفير” تحت شجر “الطلح”.

بعد أن أنهوا عملهم الشاق في حفر الخندق الكبير لإخفاء الشاحنة الصهريجية، تم تقييد أيديهم من جديد ووضعهم في 3 سيارات لنقلهم إلى “لحمادة”، كان ضمن مرافقيهم ضابط جزائري من منطقة القبايل، يصفه عليلوش بأنه “رجل أبيض قوي البنية وصغير في العمر، ويتحدث بالأمازيغية، وكان برفقته 3 من البوليساريو ويحملون جميعا السلاح”.

في الطريق توقفوا لأخذ قسط من الراحة على مقربة من “لحمادة” لإعداد الشاي، “اثنين رافقوا زميلي من مدينة صفرو لجمع الحطب، وآخر فوق رؤوسنا بسلاحه، والرابع كان يعد الشاي” يضيف عليلوش، والذي سأله أحدهم “واش تقدر تعجن، أجبته بنعم، وناولني إناء به دقيق وبعضا من الماء، صنعت حفرة وسط الرمال وأشعلت النار في الحطب وبدأت أحضر العجين”.

ومضى عدي مستطرداً: “أزلت الجمر والرماد، ووضعت العجين في الحفرة وغطيته بالرمل الساخن ..بينما هم يراقبونني مرتشفين كؤوس الشاي، بعدها صاح أحدهم قائلاً: “شوف لنا الخبز ديالك أ الشلح واش طاب؟”. بعدها اقتسمنا الخبز وبعضًا من اللحم، وسمعتهم يرددون: “يصعب أن ننتصر في ظرف 5 سنوات ومثل هؤلاء في جيش الحويسين (تصغير لاسم الحسن الثاني)”.

انتهت فترة الاستراحة تحت شجرة الطلح، وقيدوا أيدي عدي ورفاقه من جديد وأعادوهم إلى السيارات، وانطلقوا نحو “لحمادة”. ومع غروب الشمس، وصلوا إلى المخيم الأول، وبدأ صراخ نساء وأطفال خارج الخيام، هناك حيث كان الجميع يتوعد الأسرى المغاربة بالضرب والقتل، لكن تشديد الحراسة عليهم حال دون ذلك. وهنا يتذكر عليلوش بعض النسوة وهن يصيحن: “خليونا ندوزو للشلوحة ونديرو لهم”.

لم تكن الوجهة هي “لحمادة” بل كانت فقط محطة لاستراحة الضابط الجزائري ومن معه من مرتزقة البوليساريو، حيث تناولوا العشاء والذي كان وجبة من “الشعرية” ومعها كأس شاي، في حين أن عليلوش ورفاقه كانت بطونهم فارغة وهم داخل السيارات ويتجمع حولهم العشرات من ساكنة المخيمات الذي يطالبون برؤوسهم.

“استأنفنا الطريق، وبعد ساعات وصلنا ليلا إلى الرابوني أو الروبيني وهي عاصمتهم، وضعونا في حفرة كبيرة بعرض 4 أمتار و3 أمتار في الارتفاع، تم إعدادها خصيصا للأسرى المغاربة من طرف الجيش الجزائري”، يضيف عليلوش، لافتا إلى أنهم وضعوا في أعلى الحفرة حارسا جزائريا مسلحا بـ”كلاش” كان يرتدي “دراعية بيضاء” ويتحدث بالأمازيغية.

كان الحارس لا يكف عن السخرية من عليلوش ورفاقه وهم داخل الحفرة، فيقول لهم مستهزئا: “في الصباح سأقدم لكم القهوة والآن ناموا على الأرائك كما تنامون في المغرب”، مضيفا أن صديقه الأسير المغربي الذي كان مكلفا بـ”الراديو” كان يطلب الماء، غير أن الحارس يرفض ويصيح في وجهنا: “النار الزرقة أي القرطاس هو ما سأمنحكم إياه”.

ويواصل الحارس سخريته بقوله:” قولوا لميريكان صاحبتكم تجي تعطيكم الماء تشربو” يقول هذا الكلام وهو ينثر التراب عليهم ويبصق على وجوههم. وبالنسبة لعليلوش ورفاقه، فإن تلك الحفرة الصغيرة كانت مكانا للنوم وأيضا لقضاء الحاجة. ظلوا على ذلك الحال إلى وقت العصر، حيث التحق بهم 4 أسرى إضافيين كانوا في الاستنطاق بـ”تندوف”.

واحد من هؤلاء الأسرى، من مدينة بولمان، توفي منتصف التسعينات، حيث كانوا يعذبونه بوضعه فوق سرير خشبي بعد أن يربطوا يديه ورجليه ويضعون كيسا ثقيلا من الحمص الإيراني المبلل بالماء، تارة على ظهره وتارة أخرى على بطنه وهم يستنطقونه إلى أن توفي.

بعدما قضوه من آلام في تلك الحفرة، اقتادوهم إلى مكان يطلقون عليه “بوسط عمر” في الجنوب الشرقي لتندوف نسبة إلى عمر ولد علي بويا، ويطلق على ذلك المكان اليوم “سجن الدخيل”، ويتمتع بسمعة سيئة. هناك دفن عليلوش ورفاقه أول زميل لهم وهو سائق الشاحنة العسكرية، ينحدر من وجدة وتوفي من شدة التعذيب.

ظل عليلوش بـ”مكتب عمر” أو “بوسط عويمير” قرابة 4 أشهر، وبتاريخ 20 أبريل 1976 دخلوا إلى الجزائر، عبر مطار “تندوف” بطائرة مدنية صغيرة، تقل 45 شخصا، بعدها إلى مدينة “بشار” هناك نقلوا أسرى مغاربة آخرين أسروا سنة 1975 يوم العيد، ليكملوا الطريق إلى “البليدة”.

بعد وصولهم إلى “البليدة”، واصلوا الطريق في جو شتوي بارد عبر شاحنات عسكرية إلى قاعدة “بوغار” بولاية “المدية”. “كان الجو باردا، الزي العسكري الذي أسرنا ونحن نرتديه، أصبح ممزقا بالتعذيب والملح والرمال وأشعة الشمس والقمل”، يضيف عليلوش لافتا إلى أنهم وجدوا في استقبالهم ضابطا يضع أمامه طاولة وفوقها دفتر يدون فيه أسماءنا وصفاتنا هل عسكريين أم مدنيين.

بعد أن انتهت هذه العملية، تم توزيع عليلوش ورفاقه على الغرف، هُناك وجدوا أسرى مغاربة أُسِروا في فترات سابقة، ويقول عدي في هذا الصدد: “وزَّعوا علينا الأغطية والفراش، ونمنا نوما عميقا حتى الساعة العاشرة صباحًا، خصوصا وأننا كنا نحس بعياء شديد، وبعد ذلك أيقظونا لتناول الفطور في غرفة أخرى، كانوا يقدمون لنا كأس شاي وقطعة خبز بها مربى”.

إضافة إلى ذلك حصلوا على طقم من الملابس “بيجامة” ونصف صابونة من أجل الاستحمام، وبعدها أخذونا إلى الحلاق. في اليوم الأول، يقول عليلوش، لم يكن هناك عنف ولا تعذيب، كما كان لدى البوليساريو، قبل أن يستطرد: “التعذيب في الجزائر كان نفسيا أكثر منه جسديا، في كل مرة يدخل علينا مسؤول جزائري ويبدأ في تكرار خطاباته على مسامعنا، نحن شعب المليون ونصف شهيد، نحن الأحرار وأنتم العبيد تقبلون الأيادي .. وغيرها من الكلمات”.

أمضى عليلوش 18 سنة متنقلا بين سجون الجزائر، من 1976 إلى شهر غشت 1994، رغم طول المدة كان دائما متمسكا بالأمل، وكان يؤمن أنه وفي يوم ما سينال حريته ويعود إلى قريته بزاكورة، “كنا ننتظر الفرج دائما، والضباط في الجزائر يخبروننا بأنهم ليس لديهم مشكل معنا وإنما المشكل هو سياسي بين الحسن الثاني وبومدين، ويكررون على مسامعنا: “حنا درنا فيكم الخير وجبناكم لهنا باش متكرفصوش، راكم ضياف عندنا”، قبل أن يستطرد قائلا ومستغربا: “ولكن الضيف واش كدير عليه العسة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *