منوعات

يايموت: المسألة الدينية في الديمقراطية المعاصرة.. من أجل حوار راشد بين العلمانية والدين

ظلت المسألة الدينية والسياسية إلى اليوم محط مناقشات نخبوية أكاديمية متجددة. في المغرب، يمكن القول أن أهم الأطروحات التي طرحها الفكر السياسي المعاصر في هذا الاطار ، هي أطروحة كل من العلامة المقاصدي علال الفاسي، والمفكر محمد عابد الجابري. أما على مستوى الفلسفة السياسية الغربية المعاصرة، فيلاحظ أن قضية ارتباط الدين بالديمقراطية، وعلاقة هذه الأخيرة بالعلمانية، أخذت أبعادا أخرى مع بروز وتوسع الثقل العلمي لفئة مهمة من المفكرين الغربيين الأنواريين.

ومما زاد من أهمية الأطروحات المعاصرة المقدمة حول الدين والسياسة، أنها قُدمت من داخل خريطة النسق المعرفي الغربي، ومن داخل مدرسة الحداثة والعقلانية والليبرالية السياسية. فهي تشتغل على الموضوع من زاوية نقدية تحليلية، مع ابتعادها الكبير عن الحمولة الإيديولوجية التي تحملها العقلانية المادية، والميتافيزيقية اللاهوتية الكنسية.

ويبدو هذا النقاش حول الدين والسياسة، الذي تطور بشكل ملفت منذ ثمانينات القرن العشرين بالغرب (أوروبا وأمريكا)، لا يشكل حالة غريبة على التطور التاريخي للفلسفة والنظرية السياسية الغربية. بل يمكن اعتباره منعطفا جديدا من داخل التراث الغربي المؤسس للتجمعات الإنسانية المتعددة، والمنتظمة في سلطة الدولة القومية؛ والتي تجعل من المؤسسات الديمقراطية حلا لتدبير خلافات المعتقدات، والهويات المتفاعلة داخل المجتمع.

يتزعم الفيلسوف الكبير يوغن هابرماس الانشغال الأكاديمي، الذي ينطلق معرفيا من أطروحة، نواتها الصلبة تعتبر أن الوعي بالدين، والوعي بالسياسة، لا يخضع لثنائية الفصل والوصل؛ وإنما يخضع لديناميات المجتمع المدني، الذي يتحرك فيه المتدينون والعلمانيون. غير أن مثل هذا التنظير الفلسفي العميق الذي يقوده حاليا هابرماس وثلة من المفكرين الغربيين، يواجه تساؤلات معقدة، منها كيف يمكن النظر للسياسة في ظل استمرار الدين في المجال العام؟ وهل يمكن فعلا وضع حل ديمقراطي للعلاقة “التنافسية” بين السياسة والدين في المنظومة الغربية المعاصرة؟.

وعلى النقيض من ذلك، يحاول المفكر الأمريكي مارك ليلا في كتابه “الرب الذي ولد ميتا: الدين والسياسة والغرب” الذي صدر سنة (2007)، أن يدافع على أطروحة، نقيضة لتيار هابرماس، تقول أن السياسة في الخبرة الغربية المعاصرة استطاعت تحقيق “قطيعة” مع الدين؛ ولم يعد هذا الأخير يلعب أي دور في إكساب السياسي شرعية، سواء تعلق الأمر بالشرعية السياسية أو القانونية، وحتى المعيارية. ذلك أن مارك ليلا، يعتقد أن النموذج التقليدي للشرعية قد “مات”، وفرص استعادته، أو الدفاع عنه في حقل السياسة، يتناقض وشرعية العصر الحديث.

ذلك أن المجتمعات الغربية، في عصر الدولة القومية، لم تعد تعيش في انسجام مع التنظير المسيحي الوسيط للسياسة، والتي تعتبر الرب هو المشرع القانوني للمجتمع. إننا في عصر المحايثة والمفارقة، التي تطورت إلى إحلال متدرج للإنسان، محل الإله من حيث مصدر السلطة والتشريع؛ لأن الرب انسحب أصلا من الحياة الدنيوية، مما مكن المجتمع من توليد آلياته المجتمعية الحداثية والعقلانية في التنظيم السياسي.

غير أن هذه الأطروحة المعروفة، في الفكر الأنواري التقليدي، لا تبدو صامدة أمام النقاش المتجدد حول الدين والسياسة. وقد عبر كلود ليفورت عن هشاشة هذا الطرح معرفيا، معتبرا أن استمرار اللاهوتي في السياسة، أصل غير قابل للتجاوز، وأن القول بالقطيعة و”حبس” الدين في المجال الخاص، مقولة لم تتحقق في مسيرتي اللاهوت والسياسة عبر الزمن سوسيولوجيا؛ ولا يجد لها الباحث العلمي أصولا تنظيرية متينة في تاريخ الديمقراطية والنظرية السياسية.

ولذلك نجد أن مسألة الدين تشغل، وتحتل أكبر من الحيز الذي تريد لها السياسة المعلمنة؛ فهي مسألة تثير شرعية الحداثة، وأصولها الدينية، كما تثير قدرة الدين على خلق نموذج مؤسساتي متطور، بشكل ينافس المأسسة السياسية. وهذا بدوره يعني تجاوز ما هو أخلاقي رمزي، وخلق بنية نسقية وتنظيمية للمجتمع من طرف الدين في عصر الديمقراطية.

بالنسبة لهابرماس رائد التنوير الفلسفي الغربي المعاصر؛ فإن” المسيحية، ولا شيء ما عدا ذلك، هي المؤسسة النهائية للحرية، والضمير، وحقوق الإنسان، والديمقراطية، إلى يومنا هذا. نحن ليس لدينا خيرات أخرى، لذا نواصل تغذية أنفسنا من هذا المصدر. كل شيء آخر ثرثرة ما بعد الحداثة”. هذه حقيقة سارية المفعول، رغم التطور الذي أنجزته دولة الرفاهية، وما حققه اقتصاد السوق في زمن العولمة، بقيادة الدول القومية؛ ففي ظل هذه الانجازات لم يعد السياسي قادرا على حماية الانحلال الاجتماعي، إلا بشكل “محدود على نحو خطر”، وهذا بدوره يشكل أكبر تهديد للديمقراطية والشرعية الدستورية.

وعليه يصبح الدين، في العقلانية الحديثة، إشكالية في التنظير المعياري أكثر منه أزمة لرؤية للعالم لا تستجيب لتطورات وتفاعلات الرابط الاجتماعي، وكيفية حصول الاندماج المجتمعي في وسط متعدد. فالبحث المعمق في الإشكالية، يستوجب إدراك الفكر الأنواري للضعف المزمن للسياسي، الذي أصبح في حاجة لإعادة النظر في مقولاته وممارساته الخاصة بالحياة الدنيوية، و أطروحة علمنة الدين، والسلوك السياسي للمتدينين.
فالتقلب الذي وقع، جعل قوة الفعل الجماعي تتآكل، بفعل الفردانية والرأسمالية المطمورة، مع طغيان الشكيّة الناتج عن “اختفاء” الحساسيات المعيارية. من هنا يسجل هابرماس”، إن الخطر الداهم من أن تصبح الديمقراطية نموذجا عفا عليه الزمن –بتعبير لوتز فنغيرت- وهو التحدي الذي يمنح مفهوم السياسي العتيق راهنية جديدة”، (المعنى العقلاني لميراث اللاهوت السياسي المريب؛ في قوة الدين في المجال العام، ص 41). خاصة وأن الدين في المجتمع المعاصر يمنح غائية للوجود أكثر مما يوفره التجريد الحداثي المعلمن.

والعقل التنظيري الإجرائي الحالي تنقصه الإبداعية باعتبارها “لغة تفتح على العالم وتعمل، انطلاقا من مواردها الخاصة، على تجديد وعي معياري بصدد التلاشي من جميع الجهات”. يحدث هذا مع تجميع اللغة الدينية والمتدينين، لمصادر القوة والفعالية، بشكل مؤثر للغالية في التضامن والترابط والاندماج الاجتماعي. مما يعني أن قدرة الدين الذاتية على التجدد، والتطور، والتفاعل الاجتماعي، لا يمكن قهرها بسلطة العلمنة القانونية، وحصر الفضاء العام في الجانب الدنيوي؛ فهذا الخيار كرس ضعف السياسي في دولة الرفاهية، التي بسطت نفوذها بالتقنية، في الوقت الذي أعاد الدين انتشاره في الفضاء العام، ووسط المجتمع المدني.

وبما أن المعطى الديني لم يعد تقاليد قروسطية عتيقة، والمجتمع في حاجة لرابط وتعايش مجتمعي، والسياسي ضعيف بحكم التحولات التي وقعت، وبحكم نظرة الحداثة لنفسها؛ فإن الديمقراطية تصبح متعالية لا متسلطة، كما نظرت لها أدبيات العقد الاجتماعي، التي تجنبت “أي إحالة جدية إلى الدين”. وعلى الرغم من أن الليبرالية السياسية في جانبها الدستوري، تزعم أنها تكفل للجماعات الدينية وغيرها نفس القدر من الحرية، إلا أنها تنزع لحماية المشرع (الهيئات التي تصنع القرار) مما تراه تأثيرات دينية، وهو ما يعني تشريع للسلطوية بإسم الديمقراطية والعلمنة.

وهذا دفع هابرماس لرفض مثل هذا الأسلوب التحايلي المتسلط للدستورانية الليبرالية، حيث ” تدعي العلمانية حل هذا التناقض عبر خصخصة الدين برمته. ولكن مادامت الجماعات الدينية تلعب دورا حيويا في المجتمع المدني، وفي المجال العام، فإن السياسة التداولية تمثل بالقدر نفسه نتاجا للاستخدام الشعبي للعقل من قبل المواطنين المتدينين كما هو من قبل المواطنين غير المتدينين” (قوة الدين في المجال العام ص 57).

أكثر من ذلك دافع مفكرنا، على استعادة الكنيسة لدورها السياسي في الدولة القومية المعاصرة، وشدد على الأهمية البالغة لهذه الاستعادة وتحقيق “دمج الكنيسة في السياسة؛ فهابرماس يرى أنه، “من مصلحة الدولة الدستورية أن تبدو متسامحة تجاه جميع المصادر الثقافية التي تغذّي الوعي المعياري والتضامن المدني” (بين النزعة الطبيعة والدين ص 165). فالدين كما تقدم لا يمكن وَسمه باللاعقلانية، كما أن الفضاء العام لا يسود فيه ما هو عقلاني؛ وبالتالي فحضور الدين في المجال السياسي ليس امتيازا ومنحة تقدمهما له العلمانية، وإنما تعبير عن ما يطلق عليه تشارلز تيلر في كتابه “عصر العلمانية 2007″، “الاستخدام الشعبي للعقل”.
.
وعليه، فإن الهوية الجماعية الليبرالية تخضع لتأثير الدين، نظرا للتفاعل السياسي القائم واقعيا وفعليا بين قسم مجتمعي يضم المتدينين، وأخرى علماني؛ وعليهما أن يعترفا بتساوي عضويتهما “في الجماعة الديمقراطية نفسها”. فالدولة القومية الليبرالية فقدت هالتها الدينية، وهي لا تستطيع ضمان المضي قدما في مسيرة “علمنة قوة الدولة”؛ كما أن الطرح العقلاني القائل باستبدال الشرعية الديمقراطية، أو استكمالها” بواسطة تأسيس “أعمق” للدستور بطريقة ملزمة للجميع أمر يرقى لمستوى التعتيم. ولا يعنى هذا إنكار الاستبصار العظيم لجون رولز: “إن على الدستور الليبرالي نفسه أن لا ينكر الإسهامات التي يمكن أن تقدمها المجموعات الدينية للعملية الديمقراطية داخل المجتمع المدني” (قوة الدين في المجال العام، ص 57).

يتبين أثناء البحث المعمق في هذا الموضوع، أن القانون والدستور الليبرالي عاجزان عن ضمان الشرعية، والتشاركية الحقيقية للمجتمع، ولذلك على المتدينين والعلمانيين التعايش وقبول بعضهما البعض، لتحقيق الاندماج الاجتماعي والفكري، والفهم المتبادل داخل جماعة مشتركة. فكما يحق للمتدينين استعمال ملفوظات دينية في المجال العام، والقبول بترجمتها إلى لغة مقبولة على أوسع نطاق، قبل أن تصل للبرلمان، أو المحاكم أو الإدارة العمومية؛ يقترح هابرماس ” تأسيس مرشح دستوري بين التواصل غير الرسمي في الميدان الشعبي والتداولات الرسمية للهيئات السياسية التي تستجيب للقرارات الملزمة على نحو جماعي”.

أما المواطنون العلمانيون، فهم مجبرون على عدم “استنكار المساهمات الدينية في الرأي السياسي، وفي تشكل الإرادة”، ولا يحق لهم وصف هذا الحق بأنه مجرد اختيار لا قيمة ولا عائد منه منذ البداية. لأن المواطنين كانوا متدينين أم علمانيين يدخلون في الخطاب الديمقراطي وهم في علاقة تكاملية، يزكيه التفاعل والحيوية الممارسة في المجتمع المدني، باستعمال شبكات التواصل غير الرسمية في المجال العام. و هو ما يساهم في إضفاء الشرعية على السياسي، ويثبت أن هذا الأخير يحتفظ بالديني في تكوينه للمجتمعات، بما فيه المجتمع العلماني.

عموما يمكن القول، أن المنعطف الذي شهده الغرب (أوروبا، وأمريكا) في العلاقة بين الدين والسياسة، يحتاج لتحليل عميق للعلمانية، أكثر منه دراسة معرفية للدين. ذلك أن موجات العلمنة المتتالية، أنتجت ضعفا للسياسي، وقلقا مبررا على مستقبل الديمقراطية، في الوقت الذي شرعنت دستوريا وقانونيا لتفوقها على الدين. وعليه فإن رجوع هذا الأخير وتنامي قوته في الفضاء العام المعاصر، ليس إشكالية دينية؛ بل استشكال جوهري يساءل صلاحية المنظور المعرفي للعلمانية، وأهليته في حماية العقلانية والديمقراطية المعاصرة، ويدفعه لمزيد من التطور، والنقاش الأكاديمي، لتجاوز مفارقاته الفكرية، القائمة على التبني الشمولي للديمقراطية خوفا من الشمولية الدينية.