التصوف السني في زيه الـمغربي.. تقديم منظومة مبادي التصوف وهـوادي التعرف

بسم الله الرحمن الرحيم
التصوف السُّني في زِيِّه الـمغربي
تقديم منظومة مبادِي التصوُّف وهَـوَادي التعرّف
توطئة:
أبْدَع العلّامة عبد الواحد بن عاشرٍ متْناً صوفيا بليغاً ومؤثِّرا، أصْلُه منظومة شِعرية اتخذَ لها عنوان “مَبادئ التَّـصوّف وهَـوادي التَّعرّف”، كانت وما زالت مَحَطّ اهتمام ومُدارسة من لَدُن العلماء والباحثين والفقهاء والـمتصوّفة المغاربة والـمشارقة. ومِن بين الـكُتب التي اشتَغَلَت على هذا المتن مؤخَّـرًا؛ كتاب “التصوف السُّنّي في زِيه الـمغربي من خلال منظومة ابن عاشر”، للأستاذ الخطيب زين الدين محمد، الصّادر له في طبعته الأولى سنة 2021، عن الـمجلس العلمي المحلي لإقليم الصويرة، في 158 صفحةً مِن الحجم المتوسّط.
نُقدّم هذا العمل مِن خلال مُقتَرَبَين اثنين:
- المُقترب التاريخي-التأريخي:
استحضارُ الكاتبِ لمنظومة فقهية صوفية ولشخصية علمية دينية مشهورة؛ هو استرجاع تاريخي لفصول مِن مسارات شُعَب التّصوف بالمغرب الأقصى التي نوجِزها اختصاراً فـــي:
- تَصَوُّف أهل الرُّبُـط والمجاهَدة؛ مثل: رباط بن زلّو اللّمطي – رباط عبد الله بن ياسين “الـمُرشد الـمُصلح” 1 الذي أَسَّسَ بربَاطه التربوي دولة الـمرابطين – رباط أولاد أمغار – رباط الموحّدين – رباطات الأندلسيين في ألمرية وحَصْن طُرُّش – رباط آل ماء العينين في الساقية الحمراء).
- تصوّف أهل الحقائق: أمثال المشايخ عبد السلام بن مشيش – أبو محمد صالح الماجري دَفين أسفي – محمد بن سليمان الجزولي أحد السبعة رجال بمراكش – أحمد بن العَريف الطَّنجي – أبو المحاسن علي بن مُسفِر السّبتي – عبد القادر بن أبي جِيدة الفاسي – محمد الحرّاق التطواني).
- تصوّف أهْل الأخلاق والرَّقائق؛ ورموزه الشهيرة: أبو مدين الغوث 2 – أبو عبد الله أمغار – سيدي أحمد البَدوي – علي بن عبد الله أبي الحسن الشّاذلي 3، وهذا النّوع مِن التصوّف هو “الذي استَقَرّ عليه عامة المتصوّفين المغاربة، وكان له الأثَر الفعّال في مجتمعنا الإسلامي المغربي 4“.
- تَصوّف الفقهاء؛ ويمثّله تيار عريض منذ المائة الهجرية الثانية إلى القرن الرابع عشر الهجري، ولَعلّ الفقيه الكبير الذي تستحضِر هذه الـمُراجَعة كتاباً عن “تَصَوّفِه” و”بلاغة منظومتِه” عبد الواحد بن عاشر واحد مِن ألمع فقهاء هذه السلسلة المغربية الممتدّة في الزمن.
لَمّا استقرَّ آل عاشِرٍ في عُدوة سَلَا، ثم في مدينة فاس، وشَبَّ بينهم نابغة العائلة، وفَخْر مغرب السَّعديين وكلُّ القرون الـموالية؛ عبد الواحد بن عاشِر؛ فإنه تَأثّر بالجو الصّوفي وبالحركة الصوفية التي بَلَغت أوْجَها في العصر السعدي. فبَرَع عبد الواحد في علوم القراءات، والرَّسم القرآني، ثم انتقل لدراسة النَّــحو والعَروض، والفقه، وعلم المنطق، والتّوقيت، والحديث والتفسير، ومَزَج كُلَّ ذلكَ بالتّصوف السُّنِّي الذي تَلَقّاه على يَدَيْ المربِّي القُطْب أحمد التِّـجِـيبي، والشيخ العارف باللهِ الطيبّ الوزاني.
وَوُصِف الشيخ ابن عاشِر مِن قِبَل كثيرٍ ممّن تَرجموا له كأبي العباس الناصري في “الاستقصا”، والشيخ محمد الـحُضَيْكي في “طَبَقاته” 5 ومحمد بن الطيّب القادري في “نَشْـر الـمثاني”؛ بالزّهد، والوَرَعِ، والتعفّف، ومكارم الأخلاق، والتواضع للناس. وقد ساهمت التربية الوالدية والأجواء الصوفية والأخلاق الفردية والموسوعية الـعلمية في إبداع ابن عاشرٍ لمنظومته في التصوّف.
دَخل العلّامة ابن عاشِر بمنظومتَيه “المُرشِد الـمُعين” 6 و”مبادئ التصوّف” التاريخ الفقهي والدِّيني للمغرب مِن بابه الواسع، وجَعَلتَا منه إحدى القامات الكبرى في عِلْم الكلام الأشعري، وعَدَّه المغاربة على مَرّ العصورِ سَنداً “في سِلسلة الـفِقه الـمالكي إلى النبي صلّى الله عليه وسلَّم” 7. واحْتَجَّ بأقواله في الـمذهبِ المالكي نَفَرٌ مِن العلماء والـفقهاء، وتنافَست المساجِد في قراءة وخَتْمِ ما أضحى يُعرَف بــ”مَـتْن ابن عاشِر” أو “منظومة ابن عاشر”، وجَرى على ألسنة المغاربة “أنه مَن حفِظها وألَمَّ بشرحها حُقَّ له أن يُزاحم أهل العلم بِـرُكْبَتيه” 8.
- المقترب الشَّرْحي – اللغوي:
بقراءة كتاب “التصوف السنّي في زِيّه المغربي” نجد أنْفُسَنا أمام شارح جديد في القرن الواحد العشرين لمنظومة “مَبادئ التصوّف وهوادي التعرُّف” 9، حيث يُعزِّز الفقيه محمد زين الدّين شَرْحه للمنظومة بالشَّواهد الأصلية مِن القرآن والسنة النبوية، وبمقتطفات مِن مَوصول أقوال السَّلف بهذا العلم (أيْ علم التصوّف)، وبأقوال بعض الشّعراء (ابن الوردي، الشّافعي، محمود الورّاق، الإمام علي بن أبي طالب، الأخضَري، البوصيري..)، ويُساهِم في تقديم تعريفه لبعض القضايا التربوية والتزكوية والعَقدية أيضا، فتجده يَكتُب عبارة “قلتُ – أقولُ – واعلَم أنّ..” إلى غير ذلك من الألفاظ التي تَنمّ عن قُدرة الشارح على تقديم الإضافات والملاحظات على المتن الأصلي أثناء شَرْحه.
يَتَمَيّز هذا الشّرح بالسّلاسة اللُغوية والإجادة البَلاغية، وبهِ نَفْحَة صوفية مغربية، مع اعتماد فنّ الخطابة والوعْظ الذي اكْتَسبه الشيخ زين الدين مِن خبرته في مهمة خطيب وواعظ بمسجد البُحيرة الذي يُزاول فيه مهمة خطيب منذ بدايات ثمانينات القرن الماضي، ثم بباقي المساجد الأخرى بإقليم الصويرة.
يحرص الكاتب في شرحه لمنظومة ابن عاشر على أنْ يُعرِّف بأصُول الوصول إلى الله، ويُرشِد السّالك والنّاسك إلى آداب الطّريق الصوفي السُّني الذي كان له الفضل الأكبر في نشر الإسلام 10 في إفريقيا وغيرها من الأقطار، ولِيَتَحَقَّقَ القارئُ والسّالكُ بمقامات التخَلِّي والتحلِّي والتّجَلِّي.
ختاما:
إنَّ هذا الكتاب دعوةٌ إلى التَّحَقُّق بالمعرفة في الإيمان، والإيمان عَن علم ومعرفة، وتَشنيعٌ لطيفٌ على التّقليد في التربية والتزكية وفي تَلقِّي العقيدة والإيمان.
* عدنان بن صالح، باحث في سلك الدكتوراه، مختبر: “شمال المغرب وعلاقته بحضارات الحوض المتوسّطي”، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي – تطوان
تطوان بتاريخ 14 يوليوز 2024
ــــــــــــــ
اترك تعليقاً