سياسة

همام يكتب: على هامش مقالة جبرون.. أطروحتان في حزب واحد

د.محمد همام

تتشابك اليوم داخل حزب العدالة والتنمية أطروحتان سياسيتان هما: “مواجهة التحكم”، و”مهادنة التحكم”. تتدافعان في صمت أحيانا كثيرة، وفي أحيان قليلة بصوت مرتفع، من خلال مجموعة من الإشارات والتعابير وردود الفعل وفلتات اللسان، ترى هنا وهناك. تتدافعان بمختلف الوسائل المشروعة، تنظيميا، وفي بعض الأحيان، وعلى نطاق محدود، إلى الآن، بوسائل غير مشروعة، تسمع هنا وهناك. ولكنهما أطروحتان موجودتان وتتدافعان بشكل غير متكافئ؛ لأن الأطروحة الأولى يمثلها، فكرة ونهجا وشخصا، الأستاذ عبد الإله بنكيران، الأمين العام للحزب، ورئيس الحكومة، بكل ماتعنيه هذه الصفات، في العرف الاجتماعي، التنظيمي الحزبي والسياسي، من حيازة السلطة التنظيمية والإدارية والرمزية. يضاف إلى ذلك ما راكمه الرجل من تجربة وجسارة في مواجهة التحكم، مع قدرة غير عادية على الحشد والتوجيه والتعبئة، مما ينتج عن هذا من صناعة ثقيلة للأتباع والمعجبين، من أنصار الله، وأنصار الزعيم.

ويمثل الأطروحة الثانية، في المقابل، مجموعة من المتخفين، مسؤلين حزبيين ومناضلين، في مختلف صفوف المسؤولية ودرجات النضال داخل الحزب، مع توظيف مجموعة من الأتباع والخدم التنظيميين والمنتفعين من هؤلاء المتخفين للترويج “السري” لهكذا أطروحة، وقد يمتد الأمر إلى إغراق الحزب، مما نسمع عنه هنا وهناك، بحشود من الرحل والوصوليين، وقد يتسرب ضمنهم مجموعة من المتورطين في أكثر من قضية بما يحدث اختراقات ديموغرافية وسط الحزب وتسمين الهيئات الناخبة. يضاف إلى هذا الحشد الرهيب فئة لابأس بها من المناضلين، المؤمنين الصادقين، والمتحدرين من صميم مشروع الحزب، ومن محاضنه التربوية والنضالية، ومرتبطين بمشروعه ورسالته الإصلاحية، سياسيا وثقافيا، ممن يتحدثون، في دوائر ضيقة جدا، عن خطر الاندفاع غير مقدر العواقب الذي يسوق إليه الأمين العام الحزب، تحت تصفيقات المناضلين الأتباع، واستفزازت رموز التحكم في المجتمع والدولة.

وعليه، بقيت أطروحة مواجهة التحكم دون تأطير فكري نظري، أو بناء استدلالي محكم ومقنع، خارج المهرجانات والأناشيد والحشود، وحروب مواقع التواصل الاجتماعي. لم يتوفر هذا التأطير الفكري والنظري، برأيي، لسببين إثنين:

لأن أطروحة مواجهة التحكم مازالت في طور التشكل، وهي طارئة على خبرة الحزب وتجربته، وهو سبب ليس في صالح الأطروحة ذاتها، كما سنتبين في الأطروحة الثانية. كما أن الأطروحة الأولى، كما ذكرنا، مرتبطة بشكل وثيق بشخص الأمين العام الأستاذ عبد الإله بنكيران؛ مرتبطة بتقديره ومزاجه وسياقاته المتحولة باستمرار. لذلك لم تتح للأطروحة فرصة البناء النظري، الفكري والسياسي، بعيدا عن الضغط اليومي، وتحول السياقات، وضخ المعلومات المتواتروالمستمر، وورود التفاصيل الكثيرة المميزة للفعل السياسي وللعمل السياسي اليومي، مما تفرضه المسؤولية التنظيمية في الحزب والمسؤولية التدبيرية في الدولة.

تقدير الكثير من المناضلين، وفي مقدمتهم مجموعة من المسؤولين الحزبيين المتحلقين حول الأمين العام، يدورون حيث دار، تقديرهم بشكل عفوي وتلقائي أن أطروحة مواجهة التحكم، هي نفسها أطروحة الحزب؛ بل هي التعبير التأويلي والعملي عن وثائق الحزب وأوراقه المذهبية والسياسية الصادرة عن هيئاته، وأهمها: أطروحة المؤتمر السابع. وهو تقدير يحتوي على قدر كبير من المغالطة، بتعبير المنطقيين؛ إذ تحتمل وثائق الحزب، وكذا أطروحة المؤتمرالسابع أكثر من قراءة وأكثر من تأويل، من داخل الحزب. وهي، بنظري، تتسع للأطروحتين معا، وربما لطريق ثالث، قد يتشكل مستقبلا لما سيشتد التنافس بين الأطروحتين، بحثا عن “تبين” جديد.

ولهذين السببين، بنظري، ستجد الكثير من مناضلي الحزب، ومن قادته، يرفضون وجود أطروحتين، بل يرفضون، أصلا، وجود خلافات داخلية في التقدير، تنشأ عنها تنافرات وحزازات نفسية طبيعية، قد يحملها معهم الأشخاص، بوعي أو بدونه، إلى الهيئات والمؤسسات، ويصبونها فيها صبا، تحت عناوين ومبررات تنظيمية وقانونية وسياسية…

وفي هذا السياق، قدم صديقنا الباحث المجتهد والمفكر الشاب الدكتور امحمد جبرون مقالته: البيجيدي ومواجهة التحكم.. في الحاجة إلى التخلي عن أطروحة الانتقال الديموقراطي، لينقل النقاش إلى مستوى، أصبح فيه العمل الفكري والتنظيري والبناء الاستدلالي للأفكار حاسما. فهو، بنظري، أعطى هذا الإطار النظري للأطروحة الثانية، من داخل الحزب، ووضع الأطروحة الأولى في مأزق.

فما يحسب لأصحاب هذه الأطروحة الثانية هو قدرتهم على التفاعل مع عقل مجتهد وباحث شاب يتجدد باستمرار في حجم الدكتور جبرون، وتجاوزوصاية الشراح الأيديولوجيين الكلاسيكيين في الحزب.

ولا أخفي، في خضم تفاعلي مع ماكتبه صديقي جبرون، أنني على خلاف واسع معه في الموضوع، وهو يعرف ذلك من زمان. فأنا أجد نفسي في الأطروحة الأولى، برغم مآزقها النظرية والفكرية، وبرغم مآلاتها السياسية المستقبلية، على الأمد المتوسط والبعيد. ولكن ذلك لن يمنعني من الإشادة بما كتبه الأستاذ جبرون، وبما تحلى به من شجاعة فكرية، وقدرة على الاستدلال، مع جرأة ناذرة على التحرك في “منطقة الخطر الحزبي”، ومخالفة القطاع الواسع من المناضلين داخل الحزب من المصطفين خلف الزعيم.

إن ماكتبه الأستاذ جبرون ليس إلا جزءا من أطروحة فكرية سياسية هو بصدد بلورتها من مدة؛ إذ لايمكن استيعاب آفاقها الفكرية وتجلياتها السياسية المعاصرة من دون الاطلاع على ماورد في كتبه: “نشأة الفكر السياسي الإسلامي وتطوره”، وكتاب: “مع الإصلاحية العربية في تمحلاتها”، وكتاب: “مفهوم الدولة الإسلامية: أزمة الأسس وحتمية الحداثة”، وكتاب: “أزمة العلاقة بين الإسلاميين والعلمانيين بالعالم العربي، رؤى في نقد الانشقاق”، وكتاب: “انشقاق الهوية: جدل الهوية ولغة التعليم بالمغرب الأقصى، من منظور تاريخي”.

إن المقالة التي قدمها الأستاذ جبرون هي حصيلة تراكم فكري وبحثي ممزوج بممارسة واقعية وتجربة حزبية متوازنة ومقدرة، تقدم اليوم لأصحاب الأطروحة الثانية على طبق من ذهب.

وخلاصة أطروحة “مهادنة التحكم” كما يقدمها الأستاذ جبرون، أن التحكم جوهر قائم بذاته، وربما متعالي على التاريخ، وهو كل لايتجزأ؛ فإما مواجهته كله، أو مهادنته كله. مما يعني، وفق هذا التقدير، أن الأطروحة الأولى “مواجهة التحكم”، في غياب أي تعبير فكري أو نظري عنها، مجرد نظرة تجزيئية غير واقعية، بل يشكك الأستاذ جبرون في وفائها لمشروع الحزب ولجوهر رسالته الإصلاحية القائمة، بنظره، على المهادنة والتوافق، بعيدا عن الصراع والمغالبة، مخافة الوقوع في مطبات غير محسوبة، لم يتهيأ لها الحزب أصلا. وهي نزعة حمائية للمشروع الحزبي، تسكن الأطروحة الثانية، لكنها لاتستحضر مصلحة الوطن والمواطنين، وظروف الوقت، وهي بالمناسبة مواتية، للاشتباك السياسي مع التحكم، وهو بالمناسبة ليس جوهرا أرسطيا، وكلا مطلقا ومتوحدا، وإلا سنقع في نوع من الميتافزيقا السياسية. التحكم، أخي وصديقي الأستاذ جبرون، نراه ونسمعه كل يوم، ونستطيع أن نميزه، ويعيش بيننا. ومواجهته هي المصلحة العليا للبلد قبل الحزب. وفي مواجته مصلحة للملكية؛ فهو الذي كان خطرا عليها في التاريخ السياسي الحديث للمغرب، وهو خطر على السياسة بعامة وعلى الأحزاب وعلى كل الفاعلين.

لقد قدم الأستاذ جبرون الأطروحة الثانية، وهي الوجه الثاني لعملة الحزب المتكونة من وجهين. وتعرض لنقد عنيف، وفي بعض الأحيان، غير أخلاقي، من قادة تنظيميين وحزبيين، بما يبرر ضعف نسبة الحرية الفكرية والاعتراف بالرأي الآخر، في دمائهم، مع صوت مرتفع من الداخل.وذنب جبرون أنه، من الوجهة الأكاديمية، مؤرخ؛ والمؤرخ يعاديه، غريزيا، السياسي، بتعبير عبد الله العروي؛ مهما كان هذا المؤرخ متواطئا أو مأجورا، أو مناضلا عضويا. يعاديه السياسي لأنه يعتمد في كتابته تقنية التذكير والتذكر، والسياسي ابن لحظته وعبد مصلحته، على العموم؛ يزعجه من يفتح ذاكرة الناس على التاريخ. كما أن المؤرخ يزعج لأنه يسلك مسلكا معاكسا لاتجاه توالي الأحداث، كما يتجاوز منطق السياسي المنحصر في الحدث وفي المعلومة. فعندما يدخل المؤرخ إلى معالجة الحدث الراهن ينزعج السياسي لأنه ببساطة يتعرى وتتكشف عوراته وتناقضاته. لذلك واجه بعض الشراح الأيديولوجيين الحزبيين مقالة الأستاذ جبرون بغير قليل من النيل من شخصه، ومن نزعته الأكاديمية، ومن خبرته الحزبية، ومن مساره النضالي، مع التعبير الفج عن أستاذية حزبية وهمية، ووصاية مقرفة على تأويل وثائق الحزب، استنادا إلى رصيد كمي من اللقاءات التنظيمية، والتوفر على طوفان من المعلومات اليومية.

إن الأمر يقتضي، بنظرنا، الاعتراف الصريح بوجود الأطروحتين، من داخل الحزب، والسماح لهما بالتدافع الداخلي، وفق المقتضيات التنظيمية والأطر النظرية والمذهبية المؤطرة لمشروع الحزب، ووفق شروط التنافس الفكري والسياسي الديقراطي الداخلي، بعيدا عن التهوين أو التهويل، أو التخوين أوالاتهام، وبمنطق معالجة الفكرة عوض تحطيم الشخص حامل الفكرة.

أكيد أن النفير المعلن الآن داخل الحزب وخارجه لن يسمح بحوار فكري وسياسي في هذا الاتجاه، وأنا أقدر أن الأستاذ جبرون قد كتب في الزمن الخطأ وفي السياق الخطأ، بغض النظر عن مخرجات مقالتة ومخرجات الأطروحة الثانية برمتها. فما كتبه الزميل جبرون يوحي بنفس انهزامي في مواجهة التحكم، والذي لايواجهه الحزب لوحده، بالمناسبة؛ بل تواجهه جل مكونات المجتمع، أحزابا وجمعيات ونقابات ومثقفين…بمن فيهم موجودين ومقربين جدا من المحيط الملكي، وموجودين في الإدارة، ليس تعاطفا مع حزب العدالة والتنمية، ولكن لأن التحكم نبتة خبيثة قد تحرق البلد.

وتبقى مسؤولية المقتنعين بالأطروحة الأولى في فصلها عن شخص الأمين العام الأستاذ عبد الإله بنكيران، لتتحول إلى خيار جماعي محكم البناء تنظيرا وممارسة؛ إذ هي، حقيقة، لا تتمدد الآن في الحزب إلا بسلطة الأمين العام، وشراسته في المواجهة، وقدرته الخطابية المدهشة، وحب المواطنين له، وثقتهم فيه. ولكن، لايملك أصحاب الأطروحة الأولى، خارج هذا السياق، أي إطار فكري أو سياسي للإقناع بها، مما يحمل قطاعا معتبرا من قادة الفكر في الحزب مسؤولية بلورة الأطروحة الأولى بشكل موضوعي خارج منطق الوصاية على تأويل وثائق الحزب، وبما يسمح ببروز التيارات الفكرية داخل الحزب؛ هذه التيارات، والتي فشلت أحزاب في تأسيسها واحتضانها، فهجرتها طاقاتها، يمكن أن يستمد منها المناضلون الحزبيون الخطوط السياسية واستراتيجيات العمل المناسبة، وبما يشكل ذخيرة فكرية ونظرية للعقل الثقافي داخل الحزب وبما يغني الخيال السياسي للقادة والمناضلين على السواء.

بهكذا مبادرة، وبتدافع أطروحتين، أو أكثر، ربما، سيتحول الحزب إلى مشتل للأفكار السياسية والتنافس الديمقراطي، وتعدد التيارات والمداخل الفكرية، في إطار انضباط تنظيمي وحزبي، ونضال مستمر، وفق مقررات الحزب، واختيارات الأغلبية، وقرارات المؤسسات، في إطار ما أسميناه بعيد المؤتمر السابع بالصلابة التنظيمية والصلابة الأخلاقية، بعيدا عن الشخصنة أو الكولسة، بما يهدد مستقبل الحزب، كتجربة نضالية رائدة قادرة على الجذب والتأثير على الوسط الحزبي بخاصة، وبما يخدم مصلحة البلد بعامة.