وجهة نظر

بنعباد يكتب: في الواجب تجاه الانتقال والتحكم

لم يكن لما خطه الباحث محمد جبرون ليثير أحدا، لو أنه صدر في غير هذا السياق، لأن ما نشره ليس جديدا عليه هو شخصيا، فقد سبق له ونشر نفس الفكرة قبيل انتخابات 4 شتنبر حيث حذر إسلاميي العدالة والتنمية من الفوز الكبير فيها.

السياق وحده جعل المقال يستدعي هذا الكم من ردود الفعل، ينضاف إليها كونها صادرة من جهة عن مثقف من داخل حزب العدالة والتنمية، ومن جهة ثانية جعل التحكم حتمية تاريخية، وتفسيرا للخصوصية المغربية، كما أنه جعل الملكية مقابلا مضادا لمفهوم الانتقال الديموقراطي.

لذلك سنناقش مقال جبرون “البجيدي ومواجهة التحكم..في الحاجة إلى التخلي عن أطروحة الانتقال الديمقراطي”، في شق مرتبط بالمفاهيم (الانتقال، التحكم) والثاني في السياق والسياسة.

الانتقال الديموقراطي

انطلق محمد جبرون في مقالته من أن مفهوم “الانتقال الديمقراطي” له تفسير واحد هو “تحويل” و”تغيير” طبيعة النظام السياسي “قسرا” من ملكية “تنفيذية” بسلطات شبه مطلقة، إلى ملكية “صورية” حيث الملك فيها “يسود ولا يحكم”.

ثم يزيد أن هذه الأطروحة كان وسيكون مصيرها الفشل، وأن على معتنقيها تغيرها بعقيدة جديدة تسلم بمكانة الملكية التي ربطها بـ”التحكم”، بما يحقق الاستقرار المقدم على الديمقراطية ويعد نقيضها.

يعتبر الكاتب الانتقال الديمقراطي عقيدة وأطروحة وليس “مرحلة تاريخية” كما يعرفه علماء السياسة، لها “أجيال” ومدارس متنوعة عرفتها بقاع الأرض قاطبة ولا تختص بها رقعة جغرافية، بهذا الإطلاق والوثوق قدم جبرون تعريفه/السابقة للانتقال الديموقراطي في المغرب، فهو يعني عنده تجريد الملك من جميع سلطاته وتركه صوريا، وهذا بحسبه سبب فشل الحركة الوطنية في تحقيق الانتقال.

ولم يقف الأمر بالكاتب عند هذا الحد، بل زاد بأن الصراع الدائر حاليا هو امتداد للصراع السابق بين الحركة الوطنية والقصر، ويتمحور حول سلطة الملك “المتحكم” كما يعرفه، ولأنه هكذا فإن الفشل سيكون مصيره الحتمي.

التاريخ السياسي القريب للمغرب يقول بأن ميلاد الكتلة الديموقراطية كان فاصلا بين مرحلتين، وأن مفاوضات دستور 1992 قطعت مع فكرة “ملكية صورية” في مقابل “ملكية مطلقة”، وأن دستور 1996 وحكومة التناوب التوافقي في 1997 شكلت نقطة النهاية لسوء الفهم الكبير بين الحركة الوطنية والحسن الثاني بسبب نقطة “تجريد الملك من سلطاته” أو “احتفاظه بسلطات مطلقة” و كأن التاريخ توقف عنده في مرحلة عبد الرحيم بوعبيد وعلال الفاسي. خطيئة معرفية أن تتحدث عن الصراع السياسي في 2016 اعتمادا على ما جرى من 1960 إلى 1992.

كان لافتا في مقال جبرون استعماله مصطلح “عقيدة” عند الحديث عن العدالة والتنمية والانتقال الديموقرطي بالتعريف الذي قدمه (تجريد الملك من سلطاته)، والعقيدة كما يعلم الجميع تدخل في إطار “المضمرات”، فالكاتب يفضح لنا عقيدة العدالة والتنمية المخبوءة التي لا توجد في أي من وثائق الحزب أو قناعة رئاسته الحالية.

الملكية والتحكم

اقترح علينا جبرون تعريفا للتحكم، ربط بين التحكم والملكية ليخلص إلى أن التحكم حتمية بل وخصوصية مغربية وهي الاستثناء المغربي! هكذا بهذه البساطة.

لا بد من الاعتراف بالجرأة التي امتاز بها جبرون عن “جمهوره”، حيث اعتبر الملكية هي التحكم ذاته، ويستحيل التفرقة بينهما، في حين يعلن أنصاره (جبرون) رفضهم مجرد نقد “محيط” الملك لكنهم صفقوا للمقال الذي سمى الملك متحكما!.

في تقدير الباحث لا عنوان آخر لتعريف المغرب إلا بالتحكم الذي يعود على الملك وليس الاستبداد وليس الفساد والسلطوية، بل التحكم “هوية” النظام السياسي المغربي وطبيعته.

ولم يكتف الباحث بأن “تجاوز إشكالية التحكم.. مستحيل”، بل اعتبر أن “مواجهة التحكم خدمة غير مباشرة لقوى التحكم”، وهنا يدعوا الكاتب إلى كشف جديد اسمه التوافق بين الحركة الوطنية والتحكم من أجل التنمية.

التحكم حتميتنا التاريخية، وعلى الإنسان الأخير أن يقبل هذا العطاء ويخضع للعيش معه، ولا داعي لمحاولاته التحرر من قبضة الحتمية العلمية.

احتراما للمنهجية المعرفية، كان على الكاتب أن يحيل على بن كيران في تعريفه للتحكم، فهو الذي عرفه بوجود “دولتين” دولة “يرأسها الملك وفيها هو رئيس حكومة، ودولة أخرى لا يعرف من أين تملك سلطة التعيينات” هكذا قال ذات كلمة أثارت غضبا على قائلها إلى اليوم.

ظل بن كيران محافظا على الاحترام الواجب للملك، رغم أنه أكثر الناس تعرضا لمؤامرات المحيط الملكي وكيده، ومع ذلك لم يرتكب “الخطأ” الذي أرداه له كثيرون، كما سقط فيه جبرون الذي جعل الملك والتحكم وجهان لعملة واحدة.

يحسب لبن كيران أنه لما احتد الصراع بينه وبين قوى التحكم، استدعى من الذاكرة حكاية السفير المهدي بن عبد الجليل مع الملك الحسن الثاني، التي قال فيها الملك: “اللي بغى سيدي علي بوغالب، يبغيه بقلالشو” فرد السفير على الملك: “بغينا سيدي بوغالب، ولكن كل قلوش يبقى بلاصتو”.

بن كيران كان واضحا جدا، يوم صنع مفهوم “التحكم”، ويوم حماه، ويوم منحه مضمونا ودلالة، بذات القدر الذي كان مقاتلا شرسا ضد الخلط بين التحكم والملك، وكان من الأليق بباحث موضوعي أن يراعي هذا الجهد المعرفي والنضالي، عوض التدليس على القراء والمهتمين.

في السياسة والسياق

أعلنا منذ البداية أن كلام جبرون ليس جديدا، بل كلام مكرور والسياق الذي قيل فيه منحه هذه الأهمية، لماذا؟ لأننا أمام مرحلة تساوى فيه القصف على العدالة والتنمية وعلى بن كيران رمزا وعنوانا للحزب، وأيضا حاملا وحاميا لأطروحتي “النضال الديموقراطي” و”البناء الديموقراطي”.

القصف الذي يتعرض له من الخارج يظل متقبلا، لأننا بصدد معركة مصيرية للتحكم وأزلامه وكبيرة في إطار الانتقال إلى الديموقراطية، ليس بمعنى تجريد الملك من سلطته، بل من أجل إقامة فرز واضح بين الديموقراطيين وبين أعداء الديموقراطية الذين يمثلون تحالفا هجينا يتجاوز المؤسسات كلها ويوحدها الخوف من الاختيار الشعبي الحر، والعدالة الاجتماعية، والتوزيع العادل للثورة.

غير المفهوم هو خروج بعض الأصوات من داخل العدالة والتنمية، ليس للتعبير عن رأي مخالف، لأنها تكون دفاعية عن “التحكم” ورموزه، وتسبب إضعافا لجبهة الديموقراطية التي يمثل رأس حربتها بن كيران الإنسان والزعيم ورئيس الحكومة.

لست أشكك في نوايا أحد، لكني أحاكم الخرجات التي تقول إن بن كيران ليس صوت حزبه، وليس مرشحه الوحيد، خاصة بعد الجواب الجماعي على اختياره لهذه المهمة، سواء من خلال تأجيل المؤتمر إلى سنة قابلة، وأيضا القرار الإجماعي بترشيح بن كيران للانتخابات التشريعية.

التاريخ والسياسة يقولان إن عالم الأفكار غير محدود لا بزمن ولا قيود، إذ الأصل في الإنسان الحرية، لكنهما أيضا يقولان أن القضايا العادلة والمعاركة الكبرى قد تضيع بسبب “السذاجة” وغياب النضج. معركة المغاربة اليوم الاصطفاف مع الديمقراطيين ضد “التحكم” والسلطوية والرجعية السياسية، من أجل إنجاز الانتقال إلى الديموقراطية باعتباره ضرورة لاستمرار الدولة.

ــــــــــ
كاتب وصحافي