“المثمر”.. برنامج ينعش حقول الزيتون ويرفع الإنتاجية 50% بفضل الحلول الرقمية

بين أحضان جبال وزان الخضراء، وسط قرية أسجن “الساحرة”، حيث تنتشر الأشجار الكثيفة على مد البصر، وتغطى السهول بسجادة نباتية غنية، تتربع ضيعة التهامي سنيون كجوهرة متلألئة تنبض بالحياة، وتشهد كل زاوية فيها على روح العمل والعناية.
تتوشح الضيعة بسجاد أخضر من أشجار الزيتون، تحكي قصة تحول مذهلة، بطلها برنامج “المثمر” الذي ترعاه جامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية ببنجرير. بفضل هذا البرنامج، تحولت هذه الرقعة من الأرض إلى حقل خصيب معطاء، بعد أن ارتفع حجم الإنتاج بـ 50% بالمائة، ليصل إلى 10 أطنان من الزيتون لكل هكتار.
“خلال هذا الموسم، تمكنت ضيعتي من تحقيق إنتاجية غير مسبوقة بلغت 10 أطنان للهكتار، بفضل الممارسات الزراعية السليمة التي وفرها برنامج “المثمر”، مقارنة بالإنتاج التقليدي الذي بالكاد تجاوز 5 أطنان للهكتار”، يقول التهامي بنبرة تعكس ارتياحه، في حديثه لجريدة “العمق”.
ارتفاع الإنتاجية
تجربة التهامي مع “المثمر” بدأت بخطوة بسيطة لكنها محورية، تمثلت أساسا في إجراء تحاليل دقيقة للتربة، “المسؤولون عن البرنامج قاموا بدراسة خصائص التربة، ومن ثم أوصوا باستخدام أسمدة مخصصة تتناسب مع احتياجات الضيعة”، يضيف التهامي.
الاستفادة لم تقتصر على التسميد فحسب، بل تضمنت أيضا تكوينات عملية وورشات تدريبية، حيث تعلم التهامي كيفية تحسين مردودية أشجار الزيتون باستخدام تقنيات حديثة، ويقول صاحب الضيعة في حديثه مع “العمق”، “كل خطوة من عملية الإنتاج، من التقليم إلى الجني، كانت مدروسة بعناية”.
ويضيف التهامي قائلا إن “المردودية في الماضي كانت لا تتجاوز 15 لترا للقنطار، أما الآن فقد ارتفعت بشكل ملحوظ لتصل إلى ما بين 20 و21 لترا للقنطار، ما يعني الحصول على زيت بكمية أكبر ونوعية أفضل”.
ووسط الحقل الممتد تحت أشعة الشمس الدافئة، حيث تفوح رائحة الأرض المبللة، تنهمك نساء القرية في جني المحصول بأيد مفعمة بالحيوية والخبرة، تلتقط أناملهن الزيتون الناضج برفق، وكأنهن يجمعن حبات من الزمرد، تتلألأ تحت الضوء، بينما يتعالى صدى ضحكاتهن في الأجواء، ممزوجا بحماس العمل وفرحة الحصاد.
من بعيد يقف التهامي سنيون، صاحب الضيعة، يراقب بتمعن ثمار جهوده، تمر عيناه بين الأشجار المحملة بخير الموسم وبين العاملات اللواتي يبذلن جهدهن، يتأكد من مدى نضج الزيتون ويطمئن إلى جودة الإنتاج، وبنبرة تعكس فخره ورضاه، يؤكد التهامي أن مبادرة “المثمر” لم تكن مجرد مشروع زراعي، بل شكلت نقطة تحول حقيقية، جمعت المزارعين في إقليم وزان تحت راية التطور والابتكار، وأتاحت لهم فرصة التعلم والاستفادة من أساليب حديثة جعلت الحصاد أكثر وفرة وجودة.
ارتباطا بذلك أكد عبد الإله نجمي، مهندس زراعي وممثل مبادرة “المثمر” بإقليم وزان، ارتفاع إنتاجية زيت الزيتون بالمنصات التطبيقية التابعة للمبادرة، إلى 10 أطنان للهكتار الواحد، مقارنة بمعدل الإنتاج التقليدي الذي لا يتجاوز 5 أطنان للهكتار، مبرزا أن هذا الإنجاز، الذي يثبت دور التقنيات الزراعية الحديثة، جاء ضمن مبادرة “مثمر” التي تعمل على تحسين الإنتاجية الزراعية في المملكة عبر ممارسات علمية ومنهجية.
وأضاف نجمي، في تصريح لجريدة “العمق”، أن المبادرة تهدف إلى نشر ممارسات زراعية سليمة وعقلانية تعتمد على البحث العلمي، مسجلا إنشاء 6920 منصة تطبيقية منذ إطلاق البرنامج، منها 970 منصة خلال الموسم الزراعي 2022-2023، ما يعكس التوسع التدريجي للمبادرة على الصعيد الوطني.
حلول رقمية
العمل في هذه المنصة، بدأ بعملية التقليم بعد الجني لتحسين شكل الأشجار وضمان التهوية والتوازن، مسجلا أنه تم أخذ عينات من التربة لإجراء تحاليل دقيقة بهدف تحديد خصائصها الفيزيائية والكيميائية، مما ساعد على إعداد تركيبة سماد مخصصة لكل قطعة أرضية، يسجل المتحدث مؤكدا أن “مراحل التسميد تشمل سماد العمق، والتسميد الورقي، وتسميد التغطية، إلى جانب مكافحة الحشرات والأمراض بطرق تحترم البيئة وتحافظ على الموارد الطبيعية”.
التقنيات المستخدمة في المنصة التطبيقية، تهدف أيضا إلى تحسين جودة الزيتون إلى جانب الكمية المنتجة، مع التركيز على تدريب الفلاحين عبر التكوين والمدارس الحقلية، “نحرص على شرح الممارسات السليمة للفلاحين، وإبراز الفرق بين الطرق التقليدية والممارسات العلمية من خلال مقارنة المردودية”، يقول نجمي.
هذا، وشهد قطاع إنتاج زيت الزيتون في المغرب تطورا ملحوظا خلال السنوات الماضية، حيث سجل منحى تصاعديا سواء على مستوى الإنتاج أو التصدير، ما جعله يحتل المرتبة التاسعة عالميا في هذا المجال، غير أن تداعيات التغيرات المناخية، لاسيما موجات الجفاف التي ضربت البلاد خلال السنوات الأخيرة، أثرت بشكل كبير على الإنتاجية، ليس فقط في قطاع زيت الزيتون، بل في مختلف القطاعات الفلاحية.
الجفاف وتراجع الإنتاج
ويرى الخبير في المجال الفلاحي، رياض وحتيتا، في هذا السياق أن تأثر إنتاج زيت الزيتون بالمغرب يعود إلى عدة عوامل، أبرزها أن أغلب الزراعات تعتمد على الأمطار، مما يجعل خمس سنوات متتالية من الجفاف تحديًا كبيرا لصمود الأشجار، لكن الجفاف حسب المتحدث ليس العامل الوحيد، بل هو جزء من منظومة تغيرات مناخية أوسع، تشمل تقلبات درجات الحرارة، والتغير في نمط التساقطات، والرياح القوية، التي تؤثر جميعها على مردودية الأشجار.
وأوضح وحتيتا أن شجرة الزيتون تحتاج إلى فترة معينة من البرودة تتراوح بين 200 و600 ساعة لضمان إنتاج جيد، كما أن مرحلة الإزهار تعتبر حساسة جدا تجاه درجات الحرارة المرتفعة، إضافة إلى ذلك، فإن مرحلة الإنتاج تتطلب توازنا بيئيا دقيقا، حيث إن التعرض للجفاف أو الرياح العاتية قد يؤدي إلى ضعف جودة المحصول.
إنتاج الزيتون في المغرب شهد تراجعا ملحوظا خلال المواسم الثلاثة الأخيرة، بعد انخفاضه بنسب متتالية بلغت 45% و46% و52% مقارنة بموسم 2021/2022، ويعزى هذا التدهور حسب وزارة الاقتصاد والمالية إلى عوامل متعددة منها ظاهرة التناوب الطبيعية لأشجار الزيتون، والنقص الحاد في الموارد المائية نتيجة الجفاف المتواصل، بالإضافة إلى اضطراب التساقطات المطرية من حيث الكمية والتوزيع الزمني والمكاني.
وتشير تقديرات الوزارة إلى أن إنتاج الزيتون للموسم الحالي (2024/2025) سيبلغ حوالي 945 ألف طن، وهو ما يمثل انخفاضا بنسبة 13% مقارنة بالموسم السابق الذي بلغ 107 مليون طن.
وفي ظل هذه التحديات، يطرح سؤالا جوهريا، حول كيف يمكن التكيف مع هذه المتغيرات المناخية؟ لنجد أن الفلاحة الذكية حسب وحتيتا تعد من الحلول المطروحة مشيرا إلى أن برنامج “المثمر” يعد من أبرز المبادرات التي ساعدت الفلاحين المغاربة، ليس فقط في قطاع زيت الزيتون، بل في عدة مجالات زراعية أخرى.
البرنامج يوفر إمكانية تتبع الحالة الصحية للأشجار، من خلال التشخيص الرقمي، الذي يمكن الفلاح من معرفة ما إذا كانت الأشجار بحاجة إلى الأسمدة، وتحديد الكمية والتوقيت المناسبين لتقديمها، كما يتيح هذا البرنامج إمكانية رصد الأمراض والتعامل معها في مراحلها الأولى، مما يساعد على حماية المحاصيل وضمان إنتاج مستدام، يسجل رياض وحتيتا.
المحلل الاقتصادي محمد جدري أشار بدوره إلى أن المساحة المزروعة من الزيتون بالمغرب كانت تتجاوز 2 مليون هكتار في الماضي، بينما اليوم لا تتعدى مليون هكتار، مما أدى إلى انخفاض المردودية الإنتاجية لهذا القطاع الحيوي، مؤكدا أن هذا الانخفاض دفع بأسعار زيت الزيتون إلى مستويات قياسية، تجاوزت 110 دراهم للتر الواحد.
وتابع قائلا: إن الجفاف لم يؤثر فقط على الإنتاج المحلي، بل على عمليات التصدير أيضا، التي تعتبر مصدرا مهما لجني عائدات مالية بالنسبة للفلاحين، كما أن تأثيرات التصدير تشكل جزءا مهما من اقتصاد هذا القطاع، إذ يسهم في تحسين دخل الفلاحين ويوجه المنتجات المغربية إلى الأسواق الدولية.
الوضع الراهن يؤكد أن الحكومة تتحمل مسؤولية كبيرة في دعم مزارعي الزيتون، من خلال تنفيذ برامج ومبادرات مثل “برنامج المثمر” الذي يهدف إلى دعم الفلاحين في مواجهة التحديات التي يفرضها الجفاف.
التكنولوجيا أساس لتطوير الإنتاج
المهندس الزراعي عبد الإله نجمي، أشار إلى أن المبادرة تعتمد أيضا على الحلول الرقمية لتطوير الزراعة، مثل تطبيق “أثمار”، الذي يزود الفلاحين بمعلومات دقيقة حول أحوال الطقس والإرشادات الزراعية، ما يساعدهم على اتخاذ قرارات مستنيرة.
ورغم التحديات المناخية، سجل المهندس الزراعي أن المنصة التطبيقية استطاعت تحقيق نتائج إيجابية، تعكس إمكانات الزراعة الحديثة في زيادة الإنتاج وتحسين جودة المحاصيل، مما يجعل مبادرة “مثمر” نموذجا يحتذى به في النهوض بالقطاع الزراعي.
ويواصل برنامج “المثمر” التابع لمجموعة OCP توفير حلول رقمية متقدمة لمواكبة الفلاحين وتحسين الإنتاجية الزراعية، عبر تقنيات ذكية تعزز ترشيد الموارد الطبيعية وتحسين جودة التربة، ومن أبرز هذه الأدوات، الوحدة الذكية لإنتاج الأسمدة (Smart Blender)، حيث أدخلت مجموعة OCP هذه التقنية منذ 2018 بهدف إنتاج أسمدة مشخصة تتلاءم مع احتياجات كل قطعة فلاحية، بناء على نتائج تحاليل التربة.
ومن أبرز التقنيات المستعملة تقنية SoilOptix لرسم خرائط التربة بدقة، والتي تعتمد على إشعاعات “جاما” لرسم خرائط مفصلة للخصائص الفيزيائية والكيميائية للتربة، عبر تحليل 134 نقطة لكل هكتار، علاوة على ذلك يعتبر تطبيق “أثمار” للإرشاد الفلاحي من أهم التقنيات المستعملة خاصة وأنه يتيح نصائح علمية وتقنية مجانية تساعد الفلاحين، خصوصا الصغار منهم، في اتخاذ قرارات زراعية أكثر دقة.
وبهذا الخصوص أشار وحتيتا إلى أن التكنولوجيا تلعب دورا حاسما في إدارة استخدام المبيدات والأسمدة، من خلال أنظمة الاستشعار التي تقيس نسبة الرطوبة في التربة، وتحدد بدقة مدى حاجة الأشجار إلى الماء أو المغذيات، كما توفر هذه التقنيات بيانات دقيقة حول توقيت الاستعمال وكمية الأسمدة والمبيدات الواجب استخدامها، ما يسهم في تحسين الإنتاج وتقليل التكاليف على الفلاحين.
وأضاف المتحدث قائلا: الفلاحة الذكية لم تعد ترفا، بل أصبحت ضرورة ملحة في ظل التغيرات المناخية المتسارعة، خاصة وأن هذه التقنيات لن تعد مقتصرة على الضيعات الكبرى، بل أصبح من الواجب تعميمها لضمان الاستعمال المعقلن للموارد الطبيعية، والحفاظ على استدامة الإنتاج الفلاحي في المغرب، وهنا يبرز دور برنامج “المثمر” في تقديم الدعم التقني للفلاحين، لمساعدتهم على تحسين الإنتاج والتكيف مع الظروف المناخية المتغيرة.
ووفقا للتجارب الحديثة، أثبتت الحلول الذكية فعاليتها في زيادة الإنتاج بنسبة 20%، فضلا عن تقليص استهلاك الموارد بنسبة 30%، ما يعود بالنفع على البيئة من خلال ترشيد استخدام المياه والأسمدة والمبيدات، بالإضافة إلى تحسين ظروف العمل وضمان سلامة العمال.
التكوين المستمر
وبدوره شدد الحجام عبد الدايم، المهندس الزراعي والمنسق الجهوي لمبادرة “مثمر” بجهتي الغرب والشمال، على أن مبادرة “مثمر”، التي تشرف عليها جامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية ببنجرير، تسعى إلى تعزيز الممارسات الزراعية السليمة عبر مواكبة الفلاحين في جميع مراحل الإنتاج، بدءا من تحليل التربة ووضع خطط التسميد المعقلنة وصولا إلى عمليات الجني، مسجلا أن المبادرة تعتمد على نشر التكوين العلمي من خلال ورشات ومدارس حقلية، مما يساهم في تحسين جودة المحصول وزيادة مردوديته.
مواكبة خاصة يوليها برنامج “المثمر” لكل من جهة الغرب والشمال، المعروفة بزراعة الزيتون، وتشمل أقاليم مثل العرائش، سيدي قاسم، وزان، شفشاون، وطنجة أصيلة، إذ تعمل المبادرة على دعم الفلاحين في هذه المناطق من خلال تقديم إرشادات ميدانية تعتمد على أسس علمية، يقول المهندس الزراعي.
وأشار عبد الدايم إلى أن المساحات المزروعة بالزيتون في المغرب، والتي تتجاوز مليون و300 ألف هكتار، لم يتم تغطيتها بشكل كلي، موضحا أن المبادرة تهدف إلى زيادة الإنتاجية الزراعية وتحسين جودة المحاصيل بالتعاون مع الوزارة الوصية والجهات المسؤولة، مؤكدا أن الممارسات الزراعية السليمة تشكل الأساس لتحقيق هذا التطور.
ومن جانبه أوضح جدري أن تخصيص ما يناهز مليار درهم لدعم اليد العاملة في القطاع الفلاحي، يمكن أن يعود بالفائدة على المنتجين، مؤكدا أن الحلول المتعلقة بالمياه تبقى أساسية لاستدامة القطاع.
واعتبر جدري أن زيت الزيتون يمثل مادة أساسية للمغاربة، حيث تزين الموائد المغربية وتوجه إلى التصدير، مما يعزز من أهمية القطاع على الصعيدين المحلي والدولي، مطالبا الحكومة بضرورة تكثيف جهودها لدعم فلاحي الزيتون، لا سيما في مناطق مثل وازان، وقلعة السراغنة، وبني ملال، وتارودانت، وأكادير، بهدف استعادة مستويات الإنتاج السابقة والمساهمة في تغطية الطلب المحلي والتوسع في أسواق التصدير.
جدير بالذكر أن “المثمر” مبادرة متعددة الخدمات أطلقتها مجموعة OCP في شتنبر 2018، حيث توفر هذه المبادرة عروض متطورة ومشخصة لمواكبة الفلاحين و خاصة الصغار منهم و تسعى لتمكين الفلاح من تبني الممارسات الزراعية السليمة وخاصة التسميد المعقلن الذي يلعب دورا مهم في الرفع من الإنتاجية مع الحفاظ على الموارد الطبيعية.
اترك تعليقاً