الإعلام والجماهير في المغرب: بين التوجيه الرسمي والتفاعل الرقمي”

في عالم متسارع التغيير، أصبح الإعلام قوة مؤثرة في تشكيل الوعي الجماعي وسلوك الأفراد. مع تطور وسائل الإعلام، تنوعت طرق تفاعل الجماهير مع المعلومات، مما يطرح تساؤلات حول دور الإعلام في بناء الوعي الفردي والجماعي.
الإعلام ليس فقط وسيلة تبليغ، بل هو قوة مجتمعية تؤثر في قيم وتوجهات الناس، مما يثير السؤال: هل هو أداة لصناعة الوعي أو للتلاعب بالعقول؟ العديد من الدراسات السوسيولوجية تفسر دوره في المجتمع وتتناقض رؤاها بين كونه أداة للتكامل الاجتماعي أو أداة لهيمنة القوى المسيطرة.
المحور الأول يستعرض المقاربات السوسيولوجية للإعلام والجماهير، ويعرض المدارس الفكرية: الوظيفية التي ترى الإعلام أداة لتوحيد المجتمع، الصراعية التي تراه أداة للهيمنة، والتفاعلية الرمزية التي تركز على تفاعل الجمهور مع الإعلام في إنتاج المعاني.
في المحور الثاني، نناقش العلاقة بين الإعلام والجماهير، موضحين كيف يتأثر الجمهور بالإعلام ويتفاعل معه، سواء كقوة مهيمنة أو كأداة إيجابية لبناء الوعي، أو كمجال تفاعلي لإنتاج المعنى. هذه العلاقة ديناميكية وتعكس الواقع الاجتماعي والسياسي.
المحور الأول: المقاربات السوسيولوجية للإعلام والجماهير
الإعلام، بوصفه أحد أبرز القوى المؤثرة في تشكيل الوعي الجماعي، يشغل مكانة محورية في الحياة الاجتماعية والسياسية. ويتعدد فهم تأثيره على المجتمع والجماهير تبعًا للمقاربة السوسيولوجية التي يتم تبنيها، هنا سنعرض ثلاث مقاربات سوسيولوجية رئيسية: المقاربة الوظيفية، المقاربة الصراعية، والمقاربة التفاعلية الرمزية، كل منها تقدم رؤيتها الخاصة حول دور الإعلام في المجتمع وكيفية تأثيره في تشكيل الأفراد والمجتمعات.
- الإعلام كأداة للتكامل الاجتماعي – المقاربة الوظيفية
تُعتبر المقاربة الوظيفية للإعلام من المدارس التي تركز على دور الإعلام في الحفاظ على استقرار المجتمع وتماسكه، وفقًا لهذا المنظور، يُعد الإعلام عنصرًا حيويًا في نقل القيم والمعايير الاجتماعية، مما يعزز التواصل بين الأفراد ويحد من الفوضى الاجتماعية، ومن أبرز رواد هذه المقاربة إميل دوركايم الذي اعتبر الإعلام بمثابة أداة لتوحيد المجتمعات، حيث يعمل على نشر المعتقدات والرموز المشتركة بين الأفراد، كما رأى تالكوت بارسونز أن الإعلام يساعد على ترسيخ القيم التي تُعتبر ضرورية لتوفير التوازن الاجتماعي.
ومع ذلك، يواجه هذا المنظور نقدًا كبيرًا، إذ يُعتقد أن الإعلام قد لا يكون دائمًا محايدًا في تقديم المعلومات، بل قد يكون أداة لخدمة مصالح معينة، مما يضعف من دوره كوسيلة لتوحيد المجتمع بشكل عادل. ويشير بعض النقاد إلى أن الإعلام في بعض الأحيان قد يكون وسيلة لتمرير أجندات سياسية أو اقتصادية، ما يجعله في بعض الأحيان محض أداة في يد القوى المهيمنة.
- الإعلام كأداة للهيمنة – المقاربة الصراعية
تُفسر المقاربة الصراعية الإعلام باعتباره أداة تُستخدم لإعادة إنتاج الهيمنة وترسيخ السيطرة الأيديولوجية للنخب الحاكمة، ويستند هذا الطرح إلى أفكار كارل ماركس، الذي يرى أن وسائل الإعلام ليست محايدة، بل تخدم مصالح الطبقة المسيطرة من خلال فرض رؤاها وأفكارها على باقي فئات المجتمع. فالإعلام، وفق هذا التصور، ليس مجرد ناقل للمعلومات، بل هو وسيلة لإعادة إنتاج الوضع القائم، ما يمنع ظهور أي وعي قد يهدد السلطة المهيمنة.
يُعد أنطونيو غرامشي من أبرز المفكرين الذين عمّقوا هذا الطرح من خلال مفهوم “الهيمنة الثقافية”، حيث يرى أن السيطرة لا تُمارَس فقط بالقوة، بل أيضًا من خلال توجيه الثقافة والإعلام لصالح الإيديولوجيا السائدة. ومن منظور مدرسة فرانكفورت، يحلل أدورنو وهوركهايمر كيف تُسهم “صناعة الثقافة” في جعل الجماهير مستهلكة سلبية، تُوجهها وسائل الإعلام نحو التسلية والترفيه، بدلاً من التفكير النقدي والمقاومة. في هذا السياق، يصبح الإعلام أداة تطويع تُعيد إنتاج التفاوتات الاجتماعية بدلًا من أن تكون وسيلة تحرر أو توعية.
- الإعلام كفضاء تفاعلي – المقاربة التفاعلية الرمزية
المقاربة التفاعلية الرمزية تنظر إلى الإعلام كفضاء مفتوح يسمح للأفراد بالمشاركة في تشكيل المعاني عبر تفاعلاتهم مع الوسائل الإعلامية. وفقًا لجورج هربرت ميد، فإن الأفراد يتفاعلون مع الإعلام بناءً على السياق الاجتماعي والثقافي الذي يعيشون فيه، مما يجعل عملية التأثير الإعلامي غير أحادية، بل تفاعلية. كما أشار هارولد لاسويل إلى أن فهم الإعلام يتطلب الإجابة على سؤال “من يقول ماذا، ولمن، وبأي وسيلة؟”، مما يبرز أهمية السياق الاجتماعي في تفسير الرسائل الإعلامية.
في هذه المقاربة، يُعتبر الجمهور ليس مجرد متلقٍ سلبي، بل فاعل نشط في عملية صناعة المعنى. يتم تشكيل الرسائل الإعلامية من خلال تفاعلات الأفراد مع النصوص الإعلامية، بناءً على خلفياتهم الاجتماعية والهوية الثقافية. هذا التفاعل يخلق مساحة للحوار ويفتح المجال أمام إعادة بناء المعاني بما يتناسب مع تجارب الأفراد المختلفة.
المحور الثاني: العلاقة الجدلية بين الإعلام والجماهير
تتداخل العلاقة بين الإعلام والجماهير في المغرب ضمن شبكة معقدة من التأثيرات الاجتماعية والسياسية التي تحكم هذا القطاع، الإعلام في المغرب يعكس صراعًا بين الهيمنة الرسمية والظهور المتزايد لوسائل الإعلام البديلة والمستقلة. في هذا السياق، نناقش كيف يمكن للمقاربات السوسيولوجية للإعلام أن تفسر هذه الديناميكيات.
- الإعلام كسلطة مهيمنة:
في المغرب، يُنظر إلى الإعلام التقليدي (الصحافة المرئية والمسموعة) باعتباره أداة لتوحيد القيم الوطنية وتعزيز التماسك الاجتماعي، فالإعلام العمومي يرسخ لفكرة الانتماء الوطني من خلال برامج تهدف إلى ربط كافة شرائح المجتمع المغربي من خلال التوعية بالقيم والمبادئ المشتركة. على سبيل المثال، تروج وسائل الإعلام لمفاهيم الوحدة الوطنية، خصوصًا في بعض الفترات مثل المناسبات الوطنية أو الأزمات السياسية.
ومع ذلك، يتعرض هذا الدور الوظيفي لانتقادات حادة بسبب هيمنة الإعلام الرسمي على الساحة الإعلامية، مما يحد من تمثيل التنوع الثقافي والجغرافي داخل المجتمع المغربي، حيث غالبًا ما تكون القضايا المتعلقة بالهوية الثقافية في بعض المناطق مغيبة.
- الإعلام كقوة إيجابية:
تُظهر المقاربة الصراعية تأثيرًا واضحًا للإعلام في المغرب كأداة هيمنة لصالح النخب السياسية والاقتصادية، الإعلام الرسمي في المغرب يخضع في كثير من الأحيان لرقابة مشددة، حيث تسعى السلطات إلى استخدامه كأداة لتعزيز الاستقرار السياسي والحفاظ على الوضع القائم. يُلاحظ أن الصحف والقنوات الرسمية تروج في غالب الأحيان للأجندة الحكومية، وتتم تجنب المواضيع التي قد تؤثر سلبًا على الحكومات، مثل قضايا الفساد أو انتهاكات حقوق الإنسان.
على الرغم من بعض المحاولات لفتح المجال أمام الصحافة المستقلة، مثل إطلاق بعض الصحف الإلكترونية والقنوات الفضائية الخاصة، إلا أن هذه الوسائل تواجه تحديات كبيرة مثل الرقابة أو الضغوط الاقتصادية، كما أن تمركز ملكية وسائل الإعلام في أيدي قلة من الأفراد المقربين من السلطة يعزز من قدرة هذه النخب على التحكم في خطاب الإعلام.
- الإعلام كفضاء تفاعلي:
شهد المغرب تحولًا ملحوظًا في العلاقة بين الإعلام والجمهور مع انتشار الوسائط الرقمية، حيث لم يعد الأفراد مجرد متلقين، بل أصبحوا مشاركين في إنتاج المحتوى والتفاعل معه، إذ توفر منصات التواصل الاجتماعي فضاءً مفتوحًا للنقاش وتبادل وجهات النظر حول القضايا الاجتماعية والسياسية، ما يعزز حرية التعبير ويكسر احتكار الإعلام التقليدي للمعلومة.
ورغم ذلك، فإن هذا الفضاء التفاعلي يواجه بعض التحديات، مثل الضوابط القانونية، وانتشار الأخبار الزائفة، وتأثير بعض الفاعلين في توجيه الرأي العام. ومع ذلك، يبقى الإعلام الرقمي أداة مهمة تمكن الأفراد من المشاركة في النقاشات العامة وإعادة تشكيل الخطاب الإعلامي بأساليب أكثر تنوعًا وانفتاحًا.
من خلال هذا العرض، نرى أن العلاقة بين الإعلام والجماهير ليست ثابتة، بل هي تتراوح بين أدوار متعددة، وقد يكون الإعلام أداة مهيمنة أو قوة إيجابية أو فضاء تفاعلي حسب السياق الذي يتم فيه استخدامه. هذه الديناميكية تجعل من الإعلام عنصرًا مؤثرًا في تشكيل الوعي الجماعي والفردي، مما يساهم في تحديد الاتجاهات الثقافية والسياسية والاجتماعية في المجتمعات المعاصرة.
اترك تعليقاً